سقط النظام فكيف تحيا الصيغة؟

ناصر قنديل

في الذكرى الثالثة والعشرين لولادة اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، يُعاد التداول في تمجيد إنشائي بالاتفاق كوصفة سحرية لكلّ الأزمات وقابلية لتخطي الانقسامات.

حتى الآن لم ينجح اتفاق الطائف بأكثر من وقف الحرب الأهلية، وشكلت مخاوف اللبنانيين من التجربة السوداء ووجود جيش قوي وغياب المصالح الإقليمية والدولية بتمويل حرب والتشجيع عليها، أسباباً مبدئية للعصمة عن الحرب الأهلية، بينما شكلت قوة المقاومة القادرة وحدها على حسم عسكري لأيّ صراع داخلي السبب الأهمّ سياسياً لعدم الوقوع في براثن الحرب مجدداً، وفقاً لمعادلة من يرغب بالحرب لا يقدر عليها ومن يقدر على الحرب لا يرغب بها.

اتفاق الطائف هو ثلاثية دولية إقليمية داخلية عنوانها، الزعامة الأميركية الأحادية بعد نهاية الحرب الباردة، والزعامة السعودية للوضع العربي في زمن التقدم نحو تسوية للصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وتوازن داخلي على قاعدة علاقة مميّزة مع سورية، ترعى تركيب السلطة وتحفظ الأمن، بانتظار انسحاب «إسرائيلي» من الجنوب اللبناني وفقاً للقرار 425، يليه انسحاب سوري إلى البقاع، حتى الوصول إلى اتفاق سلام شامل وفقاً لمرجعية مؤتمر مدريد.

الحالة الراهنة تقوم على ثلاثية جديدة، فأميركا تقاتل بلا جدوى لتكريس أحاديتها التي بدأت تسلّم بدخول شركاء لا مناصّ من الاعتراف بوجودهم وأحجامهم، وإقليمياً تواجه السعودية الخسائر تلو الخسائر، وتخسر زعامتها حتى في الخليج بدءاً من اليمن، وقد تصبح بحاجة إلى من يرعى لها طائفاً داخلياً بين مكوّناتها إذا تصاعدت المواجهات الداخلية فيها، مع قضية الشيخ النمر، ولبنانياً، لم ينجح التفاهم الدولي الإقليمي بسحب الجيش «الإسرائيلي» فنمت المقاومة التي فرضت الانسحاب، لكنها صارت لاعباً إقليمياً كبيراً يتخطى حجم لبنان، وطارت مدريد وطار السلام، وخرجت القوات السورية في ظروف أقلّ ما يُقال فيها اللاإتفاق، وفقدت السلطة مع سقوط معادلة الطائف التي ارتكزت على تكريس المرجعية السورية، من يرعى إعادة تشكيلها فواجه لبنان للمرة الثانية عجزاً عن انتخاب رئيس للجمهورية، وها هو يواجه للمرة الثانية عجزاً عن إجراء انتخابات نيابية، ولا يزال بلا رئيس وبلا انتخابات نيابية، وسيبقى لأمد غير قصير.

في المنطلقات وطبيعة الإشكاليات التي تصدّى لها الطائف، كانت نقطة البداية أنّ النظام الطائفي قابل للحياة مرة أخرى لكن بصيغة جديدة، تعدّل التوازن داخل السلطة بين المسلمين والمسيحيين، باعتبار هذا العنوان كان الراهن آنذاك، فالبعد الداخلي لاتفاق الطائف قام على تعديل الصيغة لإعادة إنتاج النظام، واليوم زمن انفلات صراع طائفي شامل، شعور مسيحي بخطر التهميش، وتوتر الطوائف الإسلامية على خلفية الحريق الذي يجتاح المنطقة في زمن التطرف والإرهاب، وإشكاليات العلاقة بين السنة والشيعة، ومخاطر التقسيم والتفتيت والتهجير التي تعيشها كلّ الطوائف والمذاهب، والسؤال عن إمكانية صيغة الطائف للنظام نفسه صارت مستحيلة، لتغيّر الاحتياجات وتعدّد أصحابها وتبدّل هواجسهم، والصيغة الجديدة تعني سقوط الطائف، وتحتاج انتظار التوازنات الدولية الإقليمية الجديدة حتى تتبلور وتنتج المرجعية الخارجية التي سترعى التوازنات الطائفية التي ستتضمّنها الصيغة الجديدة، وإلا التسليم بأنّ النظام قد سقط ولا حياة لأيّ صيغة تريد إحياء العظام وهي رميم، وأنّ الخجل يجب أن يعترينا من مجرّد التفكير بقبول الوصاية الخارجية، للحفاظ على النظام الذي مات وشبع موتاً وينتظر إعلان مراسم الدفن.

إقليمياً ودولياً، يولد البحث عن نظام جديد، أو صيغة جديدة للنظام القديم، في زمن الصعود الروسي، وتكريس مكانة إيران بصفتها الدولة الإقليمية العظمى، ومساعي تركيا المتقدمة لوراثة السعودية، ووجود مقاومة لبنانية صارت رقماً صعباً في معادلات الإقليم، لتبدو الصيغة الجديدة لإحياء النظام، إن قيّض لها الولادة، إعادة إنتاج معدلة لزمن حكم المتصرفية، ومجلس القناصل.

البديل العقلاني الوطني، هو التسليم بأنّ النظام قد سقط، والتفكير الجادّ والجدّي، بأنّ اللبنانيين يملكون البديل وهو متاح بأيديهم، نظام يفصل بصورة نهائية بين الدين والدولة، ويعتمد نظاماً مدنياً إلزامياً للأحوال الشخصية ولا يترك للمؤسسات الطائفية إلا دوراً اختيارياً، رديفاً للنظام المدني، ويضع منظومة تربوية خارج نطاق هيمنة المرجعيات والمؤسسات الطائفية، ويعتمد نظاماً انتخابياً يقوم على النسبية، ونظاماً رئاسياً ينتخب فيه الرئيس من الشعب مباشرة، ويتقاسم السلطات مع الحكومة الآتية من صناديق الاقتراع على الطريقة الفرنسية.

مات النظام فلن تحيا الصيغة ولن تحييه، ولن تنفع محاولات إحيائها أو تعديلها، وسيكون الفراغ حتى يولد، أحد اثنين، إما لبنان شبه فيديرالي تابع لمرجعية مجلس القناصل على طريقة المتصرفية، أو لبنان المدني بلا لبس ولا استثناء، والمعنى هنا يقصد بوضوح لبنان العلماني ورفقاً بالمصابين من رهاب الخوف من كلمة لبنان العلماني، نقول لبنان المدني، مراعاة لمرض يصيب النخب وأصحاب القرار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى