قراءة في «إدارة التوحّش» المعتقد «الداعشيّ» المتهافت ٤

جورج كعدي

نتوقّف في هذه الحلقة الرابعة والأخيرة من القراءة في كتاب «إدارة التوحّش» أصدرته «دار التمرّد» حديثاً في سورية للمدعوّ «أبو بكر ناجي» عند المشروع السياسيّ لهذا التنظيم الظلاميّ المتخلّف والمجرم، ونظرته إلى الإعلام وأسلوب استخدامه.

بهذره وهذيانه اللذين ألفناهما في هذا الكتاب يجول «أبو بكر ناجي» على هواه في التاريخ، قائلاً: «إنّ المتأمّل في القرون السابقة وحتى منتصف القرن العشرين يجد أنّه عند سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريّات بل والدول الصغرى، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، ولم تتمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت، تتحوّل بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمّى بإدارات التوحّش».

عند سقوط دولة الخلافة ـ يتابع «أبو بكر ناجي» هذا ـ حدث بعض من هذا التوحّش في بعض المناطق، إلاّ أن الأمر استقر بعد ذلك على قريب ممّا أقرّته معاهدة سايكس بيكو فكان تقسيم دولة الخلافة وانسحاب الدول الاستعمارية بحيث انقسمت دولة لاخلافة إلى دول ودويلات تحكمها حكومات عسكرية أو حكومات مدنية مدعومة بالقوات العسكرية، وتمثلت قدرة هذه الحكومات على الاستمرار في إدارة تلك الدولة بمقدار قوة العلاقة مع هذه القوات العسكرية وقدرة هذه القوات على المحافظة على شكل الدولة، سواء بالقدرة التي تملكها هذه القوات في شرطتها وجيشها أو القدرة الخارجية التي تدعمها … » ص 13 ـ 14 .

يُلاحظ من كلام كهذا، وعلى ما سنرى لاحقاً، أنّ انتفاض هذا المعتقد الإسلامويّ ضدّ سايكس بيكو لا ينهض على أساس وطنيّ أو قوميّ بل على أساس محض دينيّ ناقم على «تقسيم دولة الخلافة». وهجاء الدول الاستعماريّة ليس منبعه قوميّاً وحضاريّاً وإنسانيّاً عامّاً، بل هو أيضاً هجاء ذو خلفيّة دينيّة، كأنّما المشكلة هي فحسب في شقّ «دولة المسلمين» أو تقسيمها وليست في أي جانب آخر متّصل بقضايا الاستقلال والتحرّر ورفض الاحتلال ونهب ثروات الأمّة ومحو تاريخها الحضاريّ واستعبادها وإلحاقها بمصالح الغرب المستعمر وزرع كيان صهيونيّ سرطانيّ على جزء غالٍ من أرضها! الخلفيّة كلّها، بالنسبة إلى «أبو بكر ناجي» وأمثاله من معتنقي هذا المعتقد المتخلّف، هي إسلاميّة فحسب ولا تتعدّى حلم استعادة «دولة الخلافة»!

الدليل على ما سبق هذا المقطع في السياق عينه: « … سواء كانت هذه الدولة يعني مجموعة الدول التي قسمها سايكس بيكو مستقلة حقيقة أو اتبعت كلٌّ منها في الخفاء الدولة التي استعمرتها في السابق، إلاّ أنها بعد فترة أصبحت تدور في فلك النظام العالمي الذي تمخض بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والذي كانت صورته المعلنة هيئة الأمم المتحدة وحقيقته قطبان هما عبارة عن دولتين يدخل تحت كلّ منهما معسكر من الدول الحليفة ويتبع كل قطب عشرات من الدول التابعة. ومقابل أن يدور نظام حكم دولة تابعة في فلك أحد القطبين محققاً مصالح هذا القطب الاقتصادية والعسكرية، يقوم هذا القطب بدعم هذا النظام بمختلف مقوّمات الدعم. إلاّ أنه وطبقاً لطبيعة سكان بلادنا التي تحكمها هذه الأنظمة ـ أي كبلاد سكانها مسلمون ـ كان هذا الدعم في الغالب دعماً محدوداً ويذهب جلّه لدعم أفراد الأنظمة الحاكمة أو دعم شخصي لقادة جيوش هذه الدول والقيادات المتنفّذة في تلك الجيوش … » ص 14 .

عمداً، وجهلاً، وتعصّباً أعمى، وظلماً وافتراءً، يقول هذا المنظّر الفظّ «أبو بكر ناجي» إن سكّان هذه البلاد المقصود بشكل خاص العراق والشام في مفهومه، وأمّة الهلال الخصيب في مفهومنا نحن هم مسلمون، ماحياً وجود الملايين من غير المسلمين ونافياً لفظاً وعقيدة مثل هذا الوجود، وفي ذلك قمّة الاستبداد والإقصاء والتعصّب والإكراه والنفي والإخضاع، فكيف لمن يزعم أنه يأتي ليحكم باسم الدين، والدين هو رحمة وتسامح وقبول للآخر، أن يقنع أهل هذه المنطقة المعنيّة بأنّه إنّما يأتي لرفع ظلم المستعمر وإزالة مفاعيل سايكس بيكو وتقسيماته، في حين أنّ مشروعه السياسيّ قائم على الأحادية والتعصّب الدينيّ، بل المذهبيّ، إن لم ننعته بأكثر من ذلك بكثير؟!

يردف هذا «البليغ» لا فضّ فوه: « … خالفت الأنظمة عقيدة المجتمعات التي تحكمها، وقامت مع مرور الوقت والتدرّج في الانحطاط بتضييع وبسرقة مقدرات تلك الدول وانشرت المظالم بين الناس. وطبقاً للسنن الكونية المحضة، نجد أن القوى التي يمكن أن تُرجع الحكم لقيم وعقيدة المجتمع، أو حتى ليس من أجل العقيدة والحق، من أجل ردّ المظالم والعدالة التي يتفق عليها الجميع، المؤمن والكافر، قوّتان، الأولى قوة الشعوب وهذه تمّ تدجينها وتغييب وعيها بآلاف من الملهيات، سواء جانب شهوات الفَرْج والبطن، أو اللهاث خلف لقمة العيش أو اللهاث لجمع المال، فضلاً عن الهالات الإعلامية الكاذبة في اتجاهات شتى، ونشر الفكر الجَبْري والصوفي والإرجائي بين شرائحها … والقوة الثانية هي قوة الجيوش، وهذه تمّ إغداق الأموال المنهوبة عليها وشراؤها حتى لا تقوم بهذا الدور، بل تقوم بنقيضه … » ص 15 ـ 16 .

مسكين حقّاً هذا المنظّر «الداعشيّ»، إذ يخال أن معتقده يكفل رفع المظالم عن الناس وإحقاق العدالة أيّ عدالة هذه بحدّ السيف قطعاً للرؤوس وتكفيراً وإعداماً ميدانيّاً بالرصاص؟! وأنّه منقذ للشعوب وجيوشها، إلخ. وذلك من دون أن يتحفنا برؤية جماعته للنظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ غير النفط الذي يلهج به لإصلاح أحوال المجتمع والناس!

أمّا في الجانب الإعلاميّ، المطبّق منه جزء اليوم «داعشيّاً» فيكفي إيراد هذه الجملة «الوصيّة» التي تفيض بها قريحة «أبو بكر ناجي» إذ يقول: « … عند حدوث التوحّش في مناطق عدة … تبدأ أوّل وسائل استقطاب التجمّعات لتدخل في موالاة أهل الحق بقيام مجموعات الإدارة التابعة لنا بإحسان إدارة المناطق التي تحت سيطرتهم، مع القيام بدعاية إعلامية جيدة بما وصلت إليها حالة مناطقنا من أمان وعدالة بتحكيم الشرع وتكافل وإعداد وتدريب وارتقاء … » ص 124 ـ 125 .

ثمة إذن «وعي» لأهميّة الإعلام في تظهير صورة هذه الجماعة وإطلاع الآخرين عليها، فضلاً عن دوره الحاسم في استقطاب شبّان وأتباع من خلال هذه الصورة. ويرى الجميع، في أيّ حال، أنّ من أفعل أدوات «داعش» الإعلام، ولعلّه يتقن استخدامه واستثماره إلى حدّ بعيد ترغيباً وترهيباً!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى