يغيب نحّات الحداثة والفرادة وليد محمود ولا ينكسر بغيابه «حلم الحجر»

كتب محمد سمير طحّان من دمشق ـ سانا : لم يمهل الموت النحات السوري وليد محمود ليفتتح معرضه الذي كان مقرراً أن يعرض فيه آخر أعماله النحتية ضمن مشروعه الذي يحمل عنوان «حلم الحجر» وفيه خلاصة تجربته الفنية والفلسفية وفطرية الإحساس لدى النحات المتمرد على كلّ ما هو نمطيّ وكلاسيكيّ.

كان النحات الغائب عن واحد وأربعين عاماً في سباق محموم مع الزمن، كأنه كان عارفاً بالموعد الذي رسمه له مع القدر باكراً، فلم يعرف الاستكانة أو الراحة يوماً بحسب المحيطين به، فطاقته الكبيرة كانت تشع مثل هالة حوله لتشكل الكتل الصماء من الحجر والخشب أعمالاً تضج بالحياة وتجمل الواقع.

تميّز وليد محمود بفطريته الفريدة بالتعامل مع الخامات، خاصة الحجر الذي اعتبره مادته القادرة على حمل حلمه، فكسر بتقنيته وأسلوبيته الخاصة القوالب الأكاديمية والكلاسيكية المعروفة، حتى بات متابع تجربته يحار في تصنيف أسلوبه بين الواقعية التعبيرية والتعبيرية التجريدية التي تحمل العمق الفكري والفلسفي.

حمل ابن مدينة جبلة رؤية خاصة عن الحياة والجمال، منطلقاً من بيئته الريفية الجبلية في الساحل السوري إلى العالم والحداثة، حاملا موروثه الاجتماعي والفكري، وحالماً بتقديم مادة فنية مجبولة بهذا البعد الفكري وذات قيمة حداثية، ضمن توليفة فريدة بين العمق الحضاري والحداثة الفلسفية فنتجت من ذلك تجربة فنية اسمها «حلم الحجر». وحازت المرأة النصيب الأكبر من أعمال محمود فبدت بجناحين لديه إذ يراها ملاكاً يحمل أعباء الحياة وتعبها بكل رضا وسرور، وهو يصوّر الرجل معلقاً بها رغم ثقل أحمالها، وهي مصدر الجمال والسكينة والهدوء في هذا العالم.

سعى محمود عبر تجربته النحتية إلى تكوين ثقافة جمالية خاصة وحراكاً فكرياً مختلفاً عن الموروث، مخاطباً العقول عبر الكتلة الحجرية التي تعامل معها، محاولاً إعادة تشكيلها بما يتناسب مع الواقع والتطور والحداثة لبلوغ صورة فنية جمالية فكرية معبرة عن البيئة التي خرجت منها بشكل حضاري سواء كانت كتلة نحتية أو عقلاً يخاطب العالم.

الأزمة التي تشهدها سورية ماثلة في أعماله الأخيرة إذ عبّر عن حزنه لما يحصل بمنحوتات تعبيرية عميقة الدلالة، فصوّر الإنسان في خرطوم الفيل وجسد الرؤوس على فوهة المدافع مقدماً رؤية جريئة وصادمة عن معاناة الإنسان السوري الذي كان يعتبره الضحية الأولى للحرب على سورية.

كان لمحمود حضور مميز في الوسط التشكيلي في لبنان مكان إقامته واستطاع الوصول بأعماله إلى أهم الساحات التشكيلية العالمية، مستفيداً من علاقاته الكثيرة، ومعتمداً على الفطرية المدهشة لمنحوتاته، مشكلاً بذلك حالة أثارت استغراب العديد من الفنانين التشكيليين السوريين، خاصة الأكاديميين، إذ امتلك قدرة استثنائية على اقتحام أصعب الاسواق الفنية وتحقيق الشهرة والحضور اللذين يحلم بهما اي تشكيلي يملك الموهبة، في زمن قياسي، ما أضاف إلى تجربته الفريدة الذكاء والجرأة والقدرة على تقديم عمله النحتي إلى العالم بطريقة مدروسة وفاعلة.

لم يستطع كثر ممن عرفوا محمود تقديم شهادتهم به، إذ شكل خبر وفاته المفاجئ صدمة كبيرة، فوهج عظيم انطفأ بلحظة واحدة. غير أن التشكيلي الشاب حسين صقور الذي تعرف إلى تجربة الفنان الراحل النحتية عن كثب يقول: «فهم النحات الغائب الفن كقضية تحتاج الى دينامية خاصة، وسعى ناشطاً إلى عرض أعماله في الصالات المعروفة بين الفئات الاجتماعية التي تقدر العمل الفني وتهبه حقه، فكان محظوظاً في ذلك واستحق ما ناله من حضور مميز. سعى وليد محمود دوماً إلى طرح أفكاره وجمع التشكيليين السوريين ضمن معارض مرتبطة بالمجتمع كان آخرها معرض «سنبلتان وقطرة ماء» الذي دعاني إليه الى جانب عدد من الفنانين السوريين وذهب ريعه لأسر الشهداء».

حول أعمال محمود النحتية الفطرية يوضح صقور أن المنحوتة لديه تعبّر عن قيمة الفراغ في علاقته مع الكتلة النحتية، فالأنثى جسد يتفوق على الإغراء بحركات راقصة جمبازية ضمن تكوينات عمودية أراد منها التأكيد على جمالية التوازنات التي تحدثها الفراغات وتخلقها أطراف الجسد المتداخلة، بما يخدم انسيابية الحركة فيستطيل العنق أحيانا ليتحول العمل إجمالاً إلى ما يشبه آلة او علامة موسيقية توحي الأنوثة عبر الإنسيابية والانحناءات والذكورة عبر المعالجة الحادة في بعض الزوايا. ويختم صقور قائلاً إن أعمال محمود أشعلت شرارة حلمه الفني الذي سيبقى متقداً ولن يكسر وسيكتب كما أراد له أن يكون معبراً عن روح أعماله النحتية وفكره الخاص «حلم الحجر».

للتذكير، توفى الفنان وليد محمود الجمعة الفائت في حادث خلال توجهه إلى افتتاح معرض له في مدينته جبلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى