السياسة الخارجية السعودية… بين الاستقلال والتبعية

ياسين مدني

مرّت على السعودية مراحل مختلفة من السياسة الخارجية منذ تأسيس المملكة في عام 1932. وبغضّ النظر عن المميّزات التي تتمتع بها أيٍّ من هذه المراحل، قامت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية على ركنين اساسيين هما «الحفاظ على الأوضاع القائمة» و«الارتباط بالقوى العالمية» – الولايات المتحدة تحديداً . لكن السلوك الخارجي للمملكة خلال الأشهر المنصرمة أبرزت تغييرات غير مسبوقة في الملامح الرئيسية لسياستها الخارجية ولفتت أنظار المحافل السياسية بعد أن سعت إلى تبنّي سياسة خارجية مستقلة في ساحة التطورات الاقليمية وفي تفاعلها مع الحلفاء. ولكن هل كانت تعتزم الرياض حقاً تبني سياسة خارجية مستقلة على أرض الواقع، وأين موضع الاستقلال والتبعية في سياستها واقعاً؟

يرى كثيرون أنّ التغييرات التي طرأت على السياسة الخارجية للمملكة خلال الأشهر الماضية ترجع في الأساس الى ثلاثة عناصر وهي: اولاً الديبلوماسية الفاعلة والنشطة التي اتخذتها ايران في تفاعلها مع الجيران ودول العالم في ملفات مختلفة بما في ذلك حيال الملف النووي، وثانياً استمرار الأزمة السورية رغم المساعي المبذولة للإطاحة بالنظام السوري، وما لذلك من تداعيات على صعيد ترسيخ الدور الايراني في المنطقة، وثالثاً طريقة تعاطي الغرب والولايات المتحدة مع الشؤون الايرانية والتطورات في سورية. هذه العناصر رأت فيها السعودية تهديداً لمصالحها وتالياً سعت لمواجهتها راسمةً سياسة خارجية جديدة تجاه التطورات الاقليمية والعالمية.

السلوك الخارجی غير المسبوق للمملكة العربية السعودية بدأ بامتناع وزير خارجيتها عن القاء كلمة في الجمعية العامة للامم المتحدة في العام الفائت 2013 واستمرّ باعتذارها عن عدم قبول مقعد في مجلس الأمن بسبب ما أسمته «عدم فاعلية مجلس الأمن والأمم المتحدة في أداء واجباتهما». وبلغ هذا المسار ذروته عندما كتب السفير محمد بن نواف بن عبدالعزيز آل سعود، سفير السعودية لدى المملكة المتحدة مقالاً لصحيفة «نيويورك تايمز» في 17 ديسمبر من العام 2013، رسم فيه ملامح الخريطة الجديدة لسياسة السعودية الخارجية، مؤكداً فيه على مسؤوليات كبيرة تقع على عاتق بلده على المستويين الإقليمي والعالمي و«الإنساني» ـ على حدّ تعبيره ـ حيال انهاء الأزمة السورية، كما شدّد علی أن «المملكة ستقوم بمهامها مع اصدقائها الغربيين أو بدونهم».

وبغض النظر عن التصرفات العملية التي قامت بها المملكة قبل نشر هذا المقال لإظهار انزعاجها مما يجري في المنطقة، شكّل هذا المقال الإشارة الأولى التي سعى السعوديون لإبرازها حيال عزمهم رسم سياسة خارجية خاصة من دون الاعتماد على الولايات المتحدة، فقد أعربوا عن عدم رضاهم عن النهج الاميركي في الشرق الاوسط بعد خيبة أملهم من العزوف الأميركي عن شن هجوم عسكري على سورية والتقارب المستجدّ بين واشنطن وطهران في إطار المحادثات النووية وربما الملفات الاقليمية.

مقال السفير بن نواف، أفرز تساؤلات عدّة حول مستقبل السياسة السعودية، إذ أنّ الرياض كانت قد اتكأت خلال عدة عقود على الولايات المتحدة لتنفيذ سياساتها فكيف لها أن تتجه نحو طريق جديد من دون الاعتماد عليها؟ وهل بإمكانها تغيير نهجها السياسي بين عشية وضحاها؟ فقد سعت السعودية عملياً لدعم «المعارضة» المسلحة في سورية وزيادة أنشطتها الاقليمية والإيحاء بأنها تبحث عن حلفاء جدد. واتجهت نحو روسيا وفرنسا كما اتجهت نحو جنوب آسيا الهند وباكستان تحديداً وأدرجت إحراز التقدم في مشروعها النووي في قائمة أعمالها وأبرمت في هذا الإطار اتفاقية نووية مع الصين في آب الماضي. كما سعت لتشكيل محور سعودي ـ اماراتي ـ مصري لتمرير مشاريعها في المنطقة. وعملت وكأنها تستغني عن الولايات المتحدة في تنفيذ سياساتها.

وفي السياق، لم تكن السعودية راضية عن النهج الاميركي تجاه إيران وقضاياها. لا ينظر السعوديون في الأساس الى القضايا الإيرانية كملفات متجزّئة وإنما يسعون إلى التعاطي معها على أساس أنها ملف واحد والسعي لترسيم «الخطر الإيراني الذي يتهدّدها والمنطقة».

انطباع النخب السعودية هذا عن ايران وقضاياها والذي ما زال مبنياً على فكرة وجود منافسة حادة بين الطرفين تصل الى حدّ العداء في بعض أبعادها، رغم الخطوات الإيجابية التي تبنّتها ايران في تعاملها مع دول الجوار. وتدفع هذه الفكرة السعودية الى السعي لاعتبار النفوذ الإيراني تهديداً لها في المنطقة، بمعنى أنه ومهما انخفض مؤشر التهديد في قضية إيرانية ما، سرعان ما تُصوّب على قضية أخرى. ولذلك عندما اتفق الجانبان ايران ودول 5+1 في جنيف، أبدى السعوديون تحفّظهم على هذا الاتفاق وسعوا في الوقت نفسه للضغط على الدول الغربية وإثارة أحاسيس انعدام الأمان في المنطقة ورأب الفجوة الناتجة عن الاتفاق، في ساحة أخرى.

مخاوف السعودية من تصاعد الدور الايراني في المنطقة، دفعتها الى تفعيل جيرانها في المنطقة واستخدام جميع الإمكانيات بما فيها «دبلوماسية الفرد» نشاطات تركي الفيصل تحديداً في ثلاثة جبهات: النووية والاقليمية والعلاقات الايرانية ـ الاميركية، في آن معاً. وتزامن تقدّم الملف النووي الإيراني ومسار التطورات الاقليمية مع قلق آخر عند السعوديين، ألا وهو خطر الفصل بينها وبين الولايات المتحدة كنتيجة لتقارب الأخيرة مع إيران.

بناءً على ذلك وجدت السعودية نفسها خلال هذه الفترة في مواجهة تهديد رئيسي وهو تغيير التوازن الإقليمي لصالح إيران كخطر بات يتهدّد أمنها القومي. وعلى هذا الأساس بادرت الرياض إلى تفعيل سياستها الخارجية في ثلاثة اتجاهات يتمثل أولها في السعي الى إضعاف موقف الحوار والمفاوضات النووية بين إيران والدول الخمسة زائد واحد، والثاني في الدفع نحو تقليص الدور الإيراني ومكانة إيران في المنطقة، والثالث في العمل على إفشال التعاون المحتمل بين إيران والولايات المتحدة في الملفات الإقليمية العالقة والحيلولة دون تقسيم جديد للأدوار والمسؤوليات في المنطقة.

ويمكن القول في هذا الإطار أنّ السعودية ترغب بشدة في الحفاظ على التوازن القائم مقابل ما تسمّيه التهديد الإيراني في المنطقة، وبما أنها لم تكن تلعب دوراً اقليمياً مستقلاً طيلة العقود الماضية، وكانت دائماً تحظى بدعم الإدارات الأميركية في تسيير سياساتها وكانت الركن الأساسي في المنطقة لتنفيذ السياسات الأميركية، وجدت أنها غير قادرة على أداء دور مستقلّ رغم تظاهرها بذلك وسعيها للحصول على نفس الإمكانيات والقدرات التي تحظي بها إيران في المجال النووي والنفوذ الإقليمي، غير أنّ الجانب الآخر من التطورات في المنطقة اثبت بأنّ الرياض لا تزال تحتاج الى الولايات المتحدة لتنفيذ سياساتها وتحقيق اهدافها.

وفي نهاية المطاف كشف انضمامها الى التحالف الدولي ضدّ تنظيم «داعش» بقيادة الولايات المتحدة ومباشرتها في وضع لبنته الإقليمية الأولى خلال مؤتمر جدة، عن مدى اعتمادها على الولايات المتحدة في تنفيذ سياساتها وحفظ أمنها القومي، كما أظهر في جانب آخر أنّ ما حاولت السعودية الإيحاء به من سلوك خارجي مستقلّ، لم يكن إلا تعبيراً عن مخاوف الابتعاد عن الولايات المتحدة.

كاتب ومحلّل سياسي إيراني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى