واقع «الجنود الأشباح»… من فييتنام إلى الموصل مروراً بأفغانستان

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

مَن منّا لا يتذكّر سلسلة الأفلام الأميركية التي اشتهرت في ثمانيات القرن الماضي، وكان بطلها جنديّ أميركي اسمه «رامبو»، أدّى دوره، المبدع سلفستر ستالوني. ومن هذه الأفلام «الدم الأول» أو «first blood»، الذي يحكي قصة المجنّد «رامبو» الذي عاد إلى بلاده بعد حرب فييتنام، ليجد الرفض من المجتمع، فيقرّر الانتقام والثأر لكلّ من قلّل من ولاء الجنود الأميركيين الذين شاركوا في الحرب.

ليس جون رامبو، «البطل» الأميركي الوحيد الذي كشف، وإن من خلال الشخصية السينمائية، الزيف الأميركي. في الحقيقة، يُعتبر فيلم «مأساة الجندي ريان» وفيلم «الفصيلة»، من أكثر الأفلام التي تحرّك المشاعر ضدّ أكذوبة الحرب على فييتنام، من خلال تجارب هؤلاء الجنود الشخصية، الذين عارضوا تلك الحرب. وهناك أيضاً فيلم «مولود في الرابع من يوليو» الذي اقتبس من السيرة الذاتية للجندي رون كوفيك، الذي اشترك في حرب فييتنام، وقام بدوره توم كروز. ويعتبر هذا الفيلم بمثابة اعتذار لفييتنام من قبل مخرجه أوليفر ستون، الذي حارب هناك، ورون كوفيك الذي شلّت حركته أثناء حرب فييتنام، الاثنان كانا وطنيين ومتحمسين وحريصين على تلبية نداء وطنهما، وعندما عادا إلى وطنهما، عانيا من الألم والإساءة التي أتتهما من الحركة المناهضة للحرب.

الفيلم ينطلق من نواة فلسفية، أنه ليس تجسيداً للمعركة والجروح أو الشفاء، إنه فيلم عن أميركيّ يغير وجهة نظره عن الحرب، وفيه يتحول البطل المهزوم كلّياً إلى بطل إيجابيّ من خلال مساهمته في العمل السياسيّ ضدّ الحرب والسياسات الأميركية العدوانية.

لسنا بصدد التحدث عن تاريخ السينما الهوليوودية المتعلّقة بالحرب على فييتنام، فهوليوود أنتجت عشرات الأفلام التي أحاطت بهذه الحرب من كلّ جانب. إنما وجدنا في هذه التوطئة السينمائية، مدخلاً إلى موضوع تقرير يتناول الولايات المتحدة، التي ربّما تجد لذّةً ما في الوحول والمستنقعات، أو ربما تجد نشوةً في الغرق و«النجاة» ثم الغرق من جديد.

ربما البداية لم تكن في فييتنام، لكن ما بعد عصر فييتنام، شهدت الولايات المتحدة الأميركية مستنقعات كثيرة غرقت في وحولها، من بورما إلى الصومال إلى أفغانستان، إلى دول البلقان، إلى العراق واليوم في سورية. تتدخّل أميركا عسكريا، وتقحم جنودها في معارك يخرجون منها إما قتلى، أو جرحى، أو مضطربين نفسياً. وليس جديداً إن قلنا أيضاً، يخرجون أصحاب بطولات تستأهل أن تكون مادة سينمائية.

في التقرير التالي المترجم من عدّة مقالات من صحف ومدوّنات ومواقع إلكترونية غربية، تسليط ضوء على فضائح مالية رافقت التدخل الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، فهل يتكرّر مشهد هذه الفضائح، و«الجنود الأشباح» مع من أسمتهم واشنطن «المعارضة السورية المعتدلة»؟

كتب توم آنجل هارد في «TomDispatch»:

قد لا نؤمن بالخوارق، لكن ما سنثبته واقعة حقيقية ومؤكدة. نحن ندفع ضرائبنا الخاصة لمجرّد أشباح.

بإمكانك فقط أن تسأل جون سبوكو، المفتش العام المتخصّص في إعادة إعمار أفغانستان، الذي رفع مؤخّراً، تقريراً لثلاثة من قادة الولايات المتحدة هناك، يوحي مضمونه أن البنتاغون «قد يكون يساعد ـ وعن غير قصد ـ في دفع رواتب أعضاء الشرطة الوطنية الأفغانية الوهميين» ـ وهذا ما يُصطلح على تسميته بـ«أشباح» الشرطة. توصل سبوكو إلى هذه النتيجة بعد رحلة حديثة له إلى أفغانستان. فهناك 54000 «رقم ID خاطئ» في قائمة نظام رواتب قوات الأمن الأفغانية. إنه هذا الشيء الذي يضع كل شخص في موضع الشبهة.

إن تعبئة الصفوف مع موظفين أشباح، لن يؤدي إلى قوة شرطية أو قتالية فعالة. وهذا يؤكد أنه في حال الحاجة إلى هذه القوة البوليسية، فلن يكون بإمكان أحد أن يعلم حجم هذه القوة القتالية التي تستطيع حمل السلاح. لكن هناك شيئاً واحداً أكيداً، أنها أفضل وسيلة للشرطة الأفغانية ولقياديي الجيش لملء جيوبهم بالدولارات.

وبالمناسبة، فإن لهذه الأشباح الأفغانية تاريخاً يعود إلى الحرب الأميركية الثانية في أفغانستان. ففي عام 2007، على سبيل المثال، أكدت تقارير مكتب محاسبة الحكومة الأميركية أن العدد الفعلي للجنود الذين يؤدّون واجباتهم في الوحدات العسكرية الأفغانية بلغ نصف ثلثي المجموع، وكان البعض منهم في إجازات، وشكّل عدد غير قليل منهم قوة أشباح. وقدّرت كريستين فير، وهي الأستاذ المساعد في جامعة واشنطن، في دراسة نُشرت عام 2009، أن 25 في المئة من قوة الشرطة الأفغانية، كان وجودهم في الواقع شبحياً.

وليس من الصعب أن نفهم السبب. فمنذ نشأة الجيش الأفغاني، قامت القوات الأميركية وحلفاؤها في الناتو بتدريبه وتجهيزه وإمداده وتمويله وكذلك باستنزاف المجنّدين. ووصلت معدّلات التسرّب من الجيش 25 في المئة، ما يعني أن القادة الأفغان فشلوا في تقديم تقارير دقيقة حول هذه الأرقام، فاستمرّ تدفّق الأموال لهؤلاء. ليس لهذا أن يفاجئ أحداً، من بينهم جون سبوكو، لأن تقاريره تركزت على عجز البنتاغون كما الحكومة الأميركية عن تتبّع مصير أموالها في أفغانستان… أين تُدفع هذه الأموال وكيف تستخدم؟

بإمكاننا القول إن هؤلاء الأشباح يعيشون على كاهل دافعي الضرائب الأميركيين لأكثر من أربعة عقود. وفي النهاية، فإن واقع «الجنود الأشباح» كان شائعاً في وحدات فييتنام الجنوبية في حرب أميركا الطويلة في ذلك البلد وكما نعلم الآن، وبعد سقوط الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية في حزيران الماضي، في أيدي عناصر ما سمّي «الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش»، أن هذه المدينة كانت ملأى بمثل هذه النماذج. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لِمَ يبدو أن الجيوش الأميركية التي تشكلت، وتسلّحت وتدرّبت في أراضي الحرب والتي صُرف عليها البلايين من الدولارات، تظهر دوماً بمظهر شبحيّ، وتحارب في النهاية بقدرة أقلّ من الجيوش التي تقاتلها؟

هذا ما أشار إليه الكولونيل المتقاعد في سلاح الجوّ الأميركي في «TomDispatch» ويليام آستور، أنه إذا كنا نشجع وجود الحكومات السابقة، فلا يُفترض بنا أن نُفاجأ عندما تثبت قواتهم المسلّحة أنها ليست سوى مجموعات محتالة ونصّابة.

فشل في خلق جيوش أجنبية

نُشِر في «The Contrary Perspective» مقال لويليام آستور، وهو عقيد في سلاح الجوّ الأميركي وأستاذ متقاعد في التاريخ. وجاء في المقال:

انهار عشرات الآلاف من قوات الأمن العراقية في محافظة نينوى شمال بغداد في حزيران الماضي، في وجه «داعش»، وتخلّوا عن أربع مدن رئيسة لهذا التنظيم المتطرّف. لفت هذا الانهيار وسائل الإعلام لدينا، لكن لم يتطرّق الكثير منه إلى الدور الأميركي في كلّ ما حصل. وكي نقولها بصراحة، أنه عندما تواجه مجموعة من المقاتلين غير النظاميين، عسكريين مدرّبين تدريباً أميركياً جيداً، يقومون بتجاهل أسلحتهم ومعدّاتهم، وإلقاء زيّهم الرسمي جانباً، ويسارعون إلى الذوبان في صفوف الجماهير يجعل هذا التصرّف الأميركي غير منطقي، خصوصاً أن الجهود الأميركية لخلق جيش عراقي جديد وصلت كلفة تمويله إلى 25 بليون دولار أميركي في السنوات العشر الأخيرة من الاحتلال الأميركي للعراق 60 بليون لو حسبنا تكاليف إعادة الإعمار ، قد فشلت فشلاً ذريعاً.

وعلى رغم العوامل المتعدّدة الكامنة وراء هذا الانهيار، فإن التحقيق في جهود الولايات المتحدة التي سعت إلى تكوين جيش عراقي حيوي وقادر إضافة إلى قوات الأمن الأفغانية قد أخفقت بشكل مريع. وكي نفهم ما الذي حدث بالفعل، علينا الأخذ بالاعتبار بعض الدروس التاريخية التي تعود إلى أيار عام 2003 عندما قرّر بول بريمر الحاكم المدني الأميركي والمبعوث الرئاسي إلى العراق، حلّ الجيش العراقي. إذ اعتبرت إدارة بوش أن أيّ جيش يدين بالولاء لنظام صدّام السابق ولحزبه البعثي لا حاجة له كونه لا يوحي بالثقة.

وصوّت بريمر وفريقه في المقابل على خلق جيش عراقي جديد ابتداءً من نقطة الصفر. وقال طوم ريكس الصحافي في « Washington Post» في كتابه «Fiasco» أن القوة المتوقعة للشرطة العراقية ترواحت بين 30000 و40000 عنصر، من دون احتساب القوات الجوية العراقية أو حتى الدعم من القوات الجوية الأميركية ، وذلك في بلد توقعت الولايات المتحدة حمايته على مدى عقود عدّة. وتمحورت وظيفتها الرئيسية حول حماية هذا البلد، مع تجنب تعريض جيران العراق للخطر، أن تهديد المصالح الأميركية فيه.

إن قرار بريمر المجحف هذا، رمى بأكثر من 400000 جندي عراقي مدرّبين، فضلاً عن موظفي السلك الدائمين في الشارع بلا عمل. كان في الواقع تصرفاً يهدف إلى خلق عصيان. وسينضمّ بعض أولئك المحرومين والمذلّين والمُهانين، إلى مجموعات مقاومة للاحتلال الأميركي. في حين أن البعض الآخر وجد طريقة السهلة للانضمام إلى صفوف «داعش»، بمن فيهم كبار قادة حزب البعث وأكثرهم شهرةً: عزّت ابراهيم الدوري، وهو الضابط السابق في جيش صدّام والذي كان على رأس قائمة المطلوين من إدارة بوش. فالتقارير الحديثة تؤكد أن الدوري هو العقل المدبر للهجمات «الداعشية».

خاض «داعش» معارك عنيفة، مكّنته من السيطرة على بعض المدفعيات الأميركية والسورية، وبعض طائرات الهيليكوبتر. وعلى رغم سنوات العمل مع الولايات المتحدة وكلّ تلك البلايين من الدولارات التي استثمرت في التدريب والتجهيز، لم يستطع الجيش العراقي أن يحارب كما يجب، ولا يبدو انه جاهزٌ لذلك في المستقبل القريب.

الجنرال المتقاعد جون آلن، الذي لعب دوراً رئيساً في تنظيم القبائل السنّيّة في العراق وتسليحها ودفعها في «صحوة الأنبار» الأخيرة، وهو ايضاً ممن عُيّن من قبل الرئيس أوباما لـ«التنسيق» في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لإنقاذ العراق، وقد ذهب بعيداً في دوره هذا. ووفقاً لحساباته، وحتى مع وجود دعمٍ جويّ مكثّف من الولايات المتحدة، ودفعات جديدة من المستشارين والمعدّات العسكرية الأميركية، فلن يكون هذا الجيش قادراً قبل مضيّ سنة على استعادة الموصل، ثاني أكبر مدن البلاد.

أين حصل الخطأ؟ اعتقد الجيش الأميركي أن تركيزه على «وضع الخط الأمامي في الواجهة»

«bottom line up front»، وهو ما اصطلح على تسميته بـ«BLUF». والخط النهائي هنا يتعلّق بالتأثير العسكري، وامتلاك الجيش أيّ جيشٍ كان الروح المعنوية العالية. قد نطلق عليها الإرادة القوية، والجهوزية العالية في أي وقت لمحاربة العدوّ. ومن الواضح، لغاية الآن، أن عناصر التنظيم الإسلامي يتمتعون بمثل هذه المعنويات العالية، بينما لا يبدو أن قوات الأمن العراقية المدرّبة جيداً والمؤهلة تأهيلاً عالياً تمتلك تلك القدرة.

يعكس هذا الواقع مبدأ الفشل. وهنا نطرح سؤالاً مهماً يتعلق بالبلايين الستين من الدولارات: لمَ أثمرت هذه الجهود الأميركية الجبارة مثل تلك النتائج المخزية؟ الجواب بكلّ بساطة: إن أيّ محاولة تخوضها قوة أجنبية محتلة لخلق جيش قوي وموحّد مؤلف من جماهير كانت ولا تزال ساخطة، هي ضربٌ من الجنون. ففي الحقيقة، إن التدخل الأميركي، الآن ولاحقاً، سيؤدي إلى تأزم مثل هذا الانقسام، بغضّ النظر عن محاولات صحوة الأنبار الجديدة.

بعد الإطاحة بصدّام عام 2003 والفراغ المتوقع الذي أعقب ذلك، اشتبكت الفصائل الدينية والعرقية في عملية تصفية حسابات، أدّت في النهاية إلى نشوب حربٍ أهلية. وهناك طفرة حالية سنية وشيعية تتمرّد ضدّ المحتل الأجنبي. فالقرارات الخاطئة التي اتخذها بريمر في سلطة الائتلاف الموقتة جعلت الأمور أسوأ من المتوقع. غذّت هذا التمرّد الانقسامات السياسية العميقة، واستهدفت الجنود الأميركيين بصقتهم محتلين. سعى الجيش الأميركي في المقابل، إلى تهدئة المتمرّدين، وجهد في الوقت عينه إلى توسيع رقعة عمل الشرطة، ما أضفى جواً من الهدوء، وسمح للقوات الأميركية بالانسحاب تدريجياً من الأدوار القتالية.

يبدو كل ما ذُكر معقولاً وممكن التحقيق بعدما كانت مستحيلة بسبب تورّط الأميركيين. دعونا نجرّب هذا الاختبار للتأكد من عمق الواقع الميؤوس منه. ولْنعُد بالذاكرة إلى الولايات المتحدة في آذار عام 1861. فبعدما انتخب أبراهام لنكولن رئيساً من الأقلية الأميركية وسط معارضة كبيرة من الانفصاليين الجنوبيين الذين سعوا إلى إقامة نظام كونفدرالي لحماية مصالحهم. فلْنتخيّل تدخل دولة أجنبية في تلك اللحظة من التاريخ في أميركا، مستبدلةً لنكولن بزعيم آخر ذات عريكة لينة، في الوقت الذي يتحد فيه الجيش الاتحادي جنباً إلى جنب مع ميليشيات الدولة، وبدلاً من تهدئة الجماهير، تتجه الأمور إلى الأسوأ… إلى حرب أهلية عنيفة. ولْنتخيّل احتمالات «النجاح» والفوضى اللانهائية التي يمكن ان تتبع.

وإذا بدا لنا ما ذكرناه سيناريو مستبعداً، فهكذا هي الحال مع المهمة العسكرية الأميركية في العراق. فلا نُفاجأ إذاً، أن نجد قوات الأمن العراقية غير راغبة بالقتال في خضمّ هذا الواقع المتضارب والمحفوف بالمخاطر. فعندما دُعي هؤلاء إلى تلبية نداء الواجب، لم يكن قد بقي منهم سوى جحافل جوفاء.

الدولة السارقة تنتج جيشاً سارقاً، وهي تسمى في الجيش «تقرير ما بعد العمل» أو مراجعة شاملة تقييمية لكلّ ما حصل والدورس التي يمكن أن يُستفاد منها والأخطاء التي لا يُفترض العودة اليها. وعندما تتعلّق المسألة بمهمة التدريب الأميركية العراقية، أربعة دروس أساسية يجب الاستفادة منها:

1 ـ مهما كان التدريب العسكري عميقاً، ومهما كانت الأسلحة المستخدمة متطورة، فهي ليست في أيّ شكلٍ من الأشكال بديلاً عن القضية – الاعتقاد الذي يغذي روح التلاحم والقتال. خاض «داعش» هذه المعركة على رغم الإدانة، لم يقُم الجيش العراقي المجهّز بالمثل. لكن هذا لا يعني أن الأخير ينقصه الاعتقاد بالقضية، ولسنا نشير هنا إلى أن قضيته عادلة أو محقة، فهي تبدو خليطاً معقداً من الأصولية الدينية، والانتقام الطائفي، والطموح السياسي، والانتهازية القديمة، بما في ذلك النهب. وهي قد أثبتت إلى الآن عن وجود مزيج متجانس من المقاتلين، بينما أثبتت القوات الأمن العراقية أن اهتماماتها تتمحور حول الذاتية والفردية.

2 ـ لا يمكن للتدريب العسكري وحده أن ينتج ولاءً لحكومة مختلّة ومفككة، غير قادرة على إدارة البلاد بفعالية، وينطبق هذا الوصف على الحكومة الشيعية الطائفية في العراق. لذا، ليس من المستغرب، كما وصف أندرو باسيفيتش، أن قوات أمن هذه الحكومة لن تكون قادرة على الالتزام بالأوامر. وعلى عكس ما يحدث في شعر اللورد تينيسون في قصيدته «ستمئة»، فإن الجيش العراقي غير مستعدّ لركوب موجة وادي الموت بأوامر من بغداد. وبالطبع، فإن هذه مشكلة يسهل حلّها بتأسيس حكومة عراقية تمثل كافة أطياف الشعب العراقي بسواسية، وليس فقط الغالبية الشيعية. لكن يبدو هذا احتمالاً بعيد المنال في مثل هذه اللحظة.

3 ـ إن حكومة فاسدة وسارقة، تنتج جيشاً فاسداً وسارقاً. جاء إلى العراق في المركز 171 من أصل 177 دولة في مؤتمر الشفافية العالمي عام 2013. ولن يستطيع التدريب الأميركي التغلّب على كل هذا التعفن، الآن أو بعد حين. تعكس قوات الأمن العراقية، في الواقع، هذا الواقع الفاسد المختلس الذي تمثله. فعلى سبيل المثال، وكما أوضح باتريك كوكبورن – قبل هجوم «داعش» في حزيران أن قوات الأمن العراقية كانت تعدّ على الورق 60000 عنصراً في حين الرقم الحقيقي الجاهز للقتال كان 20000. وكما كتب كوكبيرن: «هناك مصدر مشترك للدخل الإضافي للضباط، يُقدّم نصفها إلى المسؤولين عنهم مقابل أن يبقوا في منازلهم».

معارك الأشباح هذه تشكل فرقاً فعلياً في المعركة فقط في أعمال هوليوودية كـ«Lord of the Rings» . ويمكن أن تُرفع تقارير عن الفساد الممنهج والسرقة المستشرية إلى البرلمان، لكن حينذاك سيتطاير الدم ويتدفق تماماً كما أثبتت أحداث حزيران الماضي. من الصعب التحدث عن هذا الفساد في الوسائل الإعلامية. وإذا عدنا إلى عام 2005 يقول جايمس فالوز في مقاله «لمَ لا يوجد لدى العراق جيش»، أن عقود الأسلحة العراقية قدّرت بـ 1.3 بليون دولار منها 500 مليون دولار بين رشاوى وعمولات واحتيال. وكتب إيليوت واينبيرغر في العام نفسه في «London Review of Books» مستشهداً بصباح هادوم المتحدث باسم الداخلية العراقية معترفاً: «إننا ندفع رواتب لـ135000 عنصر أمني، لكن هذا لا يعني ان هؤلاء يعملون فعلياً». وهو كان قد حصل على دليل حسي بوجود 50000 من الجنود الأشباح أو أسماء وهمية اخترعت بعد جمعها من قبل الضباط البيروقراطيين العراقيين. وأكد كيلي فلاهوس مؤخراً في مقال تحت عنوان «الجيش العراقي لم يكن له وجود أصلاً» أن الحكومة الأميركية أثارت ضجيجاً عكسياً حول الفرق بين الجهود المبذولة عام 2005 والوقت الحالي.

الجهل الأميركي للثقافة العراقية وازدراء الأميركيين العميق للعراقيين أثناء التدريب. وقد انعكس هذا التوجه في استخدام شائع اعتمده الأميركيين مع العراقيين «الحاج»، وهو مصطلح تشريفي يُستخدم للذكور الذين اتموا فريضة الحج إلى مكة المكرّمة فضلاً عن مناداتهم بـألفاظ نابية وإطلاق النار العشوائي والسلوك العدائي المفرط تجاههم ولا يمكن أن ننسى أحداث سجن أبو غريب الشهيرة. وكما أكد العقيد المتقاعد في الجيش الأميركي دوغلاس ماك غريغور عام 2004، ان القادة والساسيين الأميركيين لم يفكروا في النتائج المترتبة على جهلهم اللغة العربية أو الثقافة العربية وعواقب تنفيذ إجراءات تعسفية داخل المجتمع العربي الإسلامي. اعتقلنا الناس أمام أهاليهم، سحبناهم بعيداً مقيّدين بأصفاد مع أكياس على رؤوسهم، ولم نوفر أيّ معلومة عن مصيرهم لذويهم. ففي النهاية، قام جنودنا بأعمال القتل، والتشويه وسجن الآلاف من العرب، 90 في المئة منهم لم يكونوا أعداؤنا. لكنهم أصبحوا الآن».

شارك وزير الدفاع الأميركي آنذاك رونالد رامسفيلد أيضاً في تفعيل هذا الاحتقار، مستخدماً استعارات مثل الأم والطفل، المعلم والمبتدئ، في وصفه لـلتطور الحاصل في مسار الاحتلال. وتحدث عن الحاجة إلى عجلات لتدريب العراقيين على قيادة بلادهم وتركهم يتولّون أمر هذا بأنفسهم. واستخد الجنرال آلن مصطلحاً مشابهاً بعد مرور عقد من الزمن في مقالة كتبها يدعو فيها إلى تدمير تنظيم «الدولة الإسلامية». فبالنسبة إليه، إن شعب العراق «نفوس غارقة في ظلام دامس»، ومع ذلك، فإنهم عاجزون عن أن يكونوا أكثر من «أحذية على الأرض» في خدمة القوة الأميركية. وبمعنى آخر، يمكنهم أن يتلقوا الرصاص ويصبحوا هم الضحايا في طاعتهم العمياء للولايات المتحدة التي تقدم لهم المشورة والدعم الجوي. هذا المزيج الغريب من الازدراء وادّعاء الأبوة، لا يبشّر بالخير البتة في ما يتعلق بمستقبل العمليات العسكرية ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش».

وماذا بعد؟ خلاصة الحكمة المتوحشة: « هل من المعقول ألا نُصاب بالذعر ونتصرّف وكأن شيئاً لم يحصل وندّعي أننا بخير؟ لمَ نتحدث عن كل هذا؟ للأسف، ما من أحد في إدارة أوباما يتسلى بمثل هذه المشاعر في هذه اللحظة، وعلى رغم أنّ «داعش» لا يشكل خطراً واضحاً وقريباً»داخل الولايات المتحدة. فإننا قد اختبرنا كلّ هذه الفظائع في حرب فييتنام. بعد ان انسحبت الولايات المتحدة من حرب مدمّرة هناك عام 1973 وسقطت جنوب البلاد في أيدي أعدائنا. كانت تلك هزيمة حقيقية ومؤلمة والأسوأ منها جاء عقب التدخل الأميركي مرة أخرى عام 1975 لإنقاذ حلفائهم في الجنوب الفييتنامي بالأسلحة، والمال، والجنود. ومنذ ذلك الحين، استطاع الفييتناميون تدبر شؤونهم على مدى أربعين سنة، ليجد الطرفان انفسهما متّحدين معاً ضدّ الصين.

يُعتبر «داعش» بالنسبة إلى كثيرين من الأميركيين نسخة إسلامية عن التهديد الشيوعي القديم ـ طاقم سيئ يجب أن يُطارًد ويدمَّر. وهذا بالطبع هو ما حاولت الولايات المتحدة القيام به في المنطقة عام 1991 ضدّ صدّام حسين، وأعدت الكرّة عام 2003، وأكملت ضدّ المتمردين السنة والشيعة والآن ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية».

ونظراً إلى ما يمثله هذا النموذج من تهديد لحياتنا، غير أن الانسحاب ليس أبداً خيارنا، حتى لو كان ذلك يعني إزاحة «الشيطان الأميركي» من على قائمة «داعش» الدعائية. فالانسحاب يعني أن نترك وراءنا الكثير من سفك الدماء والأعمال المروّعة. أعلم أنّ النتائج قاسية، لكن هل ستكون أكثر قسوة من تداعيات القصف المتواصل أو التزام عدد من المستشارين الأميركيين بدفع الأموال وتقديم السلاح، وتولّي الجنرالات الأميركيين شؤون العراق مجدّداً؟ مع النتائج المعروفة سلفاً.

أمر واحد يتجلّى واضحاً للغاية: الجنود الأجانب الذين استثمرت فيهم الولايات المتحدة الأموال والوقت والمجهود في التدريب والإعداد لا يتصرّفون على أنّهم أعداء أميركا. وذلك على عكس توقعات رامسفيلد، أنه عند إزالة «عجلات التدريب» من جيوش عملائها، فإنها ستدوس عليهم بشراسة وفي اتجاهات غير متوقعة بالكامل، وغير مرغوبة من قبل مموّليهم الأميركيين.

وإذا لم تشكّل هذه الإشارة دليلاً قاطعاً على الفشل الذريع في السياسة الأميركية الخارجية، فأنا لا أعرف ما هو.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى