خلاص المجتمع بالعلم والمعرفة وبإقصاء الدين عن الحكم

جورج كعدي

«يوتوبيّ» آخر كبير هو الفيلسوف والمؤرّخ الإنكليزيّ فرانسِسْ بيكن Bacon 1561 1626 بنى رؤياه «اليوتوبيّة» على العلم وابتدع له مجتمعاً مثاليّاً دعاه «أطلنطا الجديدة»، مستعيراً اسم الجزيرة التي تحدّث عنها أفلاطون وتقع في بحر إيجه، فبحسب الفيلسوف اليونانيّ أنشأت هذه الجزيرة حضارة لامعة قبل أن تغمرها مياه المحيط الأطلنطيكي. لذا قد تعتبر «أطلنطا» بيكن الجديدة هذه مجتمعاً «يوتوبيّاً» أو وصفاً لمعهد علميّ مثاليّ يقوم على أساس العلم التجريبيّ، ولعلّه استلهمه من الأكاديميّات العلميّة التي نشأت في إيطاليا خلال عصر النهضة، علماً أن العلم التجريبيّ كان محور اهتمام العديد من الفلاسفة عصرذاك. كان بيكن أوّل فيلسوف يتطلّع إلى تغيير المجتمع عن طريق العلم، في حين ألقيت مهمّة هذا التغيير في الـ»يوتوبيّات» السابقة على عاتق التشريع الاجتماعيّ، أو الإصلاحات الدينيّة، أو نشر المعرفة. سار بيكن خطوة إلى الأمام نحو التخصّص الذي كان بدأ يحتلّ موقعه في عصر النهضة ويؤذن بانتهاء عهد «الإنسان الموسوعيّ» الذي يولي الفلسفة والفنّ والعلم والأدب اهتماماً متساوياً.

لم يكن بيكن فيلسوفاً أخلاقيّاً مثل توماس مور موضوع حلقتنا السابقة من هذه الأفكار ، ولا مصلحاً دينيّاً مثل لوثر أو كالفن، ولا فيلسوفاً موسوعيّاً مثل توماس كامبالينا، بل كان سياسيّاً شديد الحماسة للعلم، و»أطلنطا الجديدة» هي «حلم» يجتمع فيه العلم والقوّة للإمساك بسلطة الحكم. إنّه الحلم بمختبرات هائلة، وأعداد كبيرة من العلماء ومساعديهم، وموارد ماليّة ضخمة.

نبقى في دنيا الإنكليز مع «يوتوبيّ» آخر، مصنّف بين المفكّرين العظام في تاريخ الفلسفة، هو توماس هوبز Hobbes 1588 ـ 1679 صاحب القول المشهور «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» Homo Homini Lupus باللاتينيّة في النصّ الأصليّ ، والذي يقوم كتابه «Leviathan» يرمز الإسم، بحسب الأساطير الدينيّة إلى مخلوق بحريّ ضخم، وفي المعنى السياسيّ إلى الدولة الديكتاتوريّة على تأكيد حقّ الدولة في السلطة المطلقة ونفي امتلاك الإنسان أي «حقوق طبيعيّة» لكونه ليس كائناً اجتماعيّاً بطبيعته وليس مزوّداً الحسّ الأخلاقيّ، فالدولة هي التي وضعت نهاية «حرب الجميع ضدّ الجميع» كم تليق هذه الفلسفة بمجموعات لبنان الطائفيّة والإقطاعيّة وسواها ، لذا منح الملوك الأوائل ـ بحكم العقد المبرم ـ السلطة المطلقة على الشعب، ومن واجب الأجيال المتعاقبة أن تحترم هذا العقد، ومن يخالفه يدان بارتكاب أبشع جريمة. وأيّد هوبز المَلَكيّة المطلقة باعتبارها أفضل أشكال الحكومات، معتبراً أنّ الفرد ملزم بالخضوع الكامل لهذه الحكومة، ومُنكراً على الكنيسة أيّ سلطة زمنيّة ودنيويّة، محتّماً على الدولة الاعتراف بالدين وتولّي تعليمه. ونتوقّف هنا مليّاً عند أفكار هوبز المهمّة جداً في ما يخصّ العلاقة الجدليّة بين الدين والدولة والفرد أو المواطن، فالإنسان لا يسعه في نظر هوبز أن يخدم سيّدين، ولا تستطيع السلطة الروحيّة أن تنفصل وتستقلّ عن السلطة الزمنيّة، كما أنّ الحكومة المشتركة أو المختلطة من السلطتين، الروحيّة والزمنيّة، ليست ناجحة أو فاعلة ولا يبقى سوى أن تخضع إحداهما للأخرى، أي أن تخضع السلطة الروحيّة لسيطرة الحاكم.

في ختام كتابه هذا «ليفياتان»، وتحت عنوان «مملكة الظلام»، يشنّ هوبز حملة عنيفة على الخرافة والمذهب الكاثوليكيّ بكونهما عدوّين في رؤيته للدين الحقّ، إذ يرى «أنّ الظلام الروحيّ ينبع من التفسيرات الخاطئة للكتاب المقدّس والإيمان بالشياطين وسوى ذلك من آثار الوثنيّة»، معتبراً أن «المسيحيّة في صورتها الكاثوليكيّة احتفظت بالكثير من مخلّفات الوثنيّة القديمة، فالبابويّة ليست سوى شبح الإمبراطوريّة الرومانيّة الراحلة وقد جلست متوّجة في قبرها. كما أنّ الحبر الأعظم في روما القديمة تحوّل إلى بابا، وتحوّل الماء المطهّر Aqua lustralis إلى ماء مقدّس، وتحوّل عيد الإله ساتورن زحل Stumalia إلى عيد المرفع Carnival، وعيد الإله باخوس Bacchanalia إلى عيد القدّيسين في الكنيسة … ». الإنسان في فلسفة هوبز وحده الحيوان المتديّن، فلا دين لدى الكائنات الحيّة الأخرى. ولا يهاجم الدين من موقع الملحد بل من موقع المجدّد الفكريّ الذي يستبعد الدين من مجال الفلسفة لتحديد الفرق بين المعرفة والإيمان.

يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى