عين العرب… انتحار أردوغان الأخير

علي بن مسعود المعشني

عين العرب أو كوباني باللغة الكردية، مدينة سورية تابعة لمحافظة حلب، وهي مركز ناحية عين العرب، تقع على بعد 30 كيلومتراً شرقي نهر الفرات وحوالي 150 كيلومتراً شمال شرق حلب.

تتألف الناحية من 384 قرية صغيرة وعدد من النواحي الإدارية صرين والشيوخ وعدد سكانها أكثر من 44,821 نسمة حسب إحصاء عام 2004، ومدينة عين العرب مركز المنطقة مدينة تاريخية هامة في سورية، تاريخياً تنتشر في عين العرب الأوابد الأثرية التي تعود إلى حضارات سورية قديمة آرامية واشورية وغيرها، وفي عهد الانتداب الفرنسي في سورية كانت عين العرب مركزاً هاماً اهتمّ بها الفرنسيون وخططوا شوارع المدينة وما تزال الكثير من المباني الفرنسية قائمة حتى اليوم، مثل بعض الدوائر الحكومية الرسمية السرايا . إلا أنّ الكثير من التحف والآثار التاريخية القيّمة نقلت إلى خارج المنطقة، إما إلى خارج سورية أيام الانتداب الفرنسي أو إلى متاحف سورية.

المدينة حديثة العهد نسبياً، فالمدينة الحالية نشأت عام 1892، ومع مشروع خط سكة حديد بغداد في حدود عامي 1911 و1912 بدأت تتحوّل إلى تجمّع سكاني مهم. وتوجد في المنطقة كهوف قديمة استّعملت منذ القدم كمساكن، وكان اسم المنطقة «كاني» وتعني بالكردية النبع أو العين، حيث أنّ المنطقة فيها عدّة عيون ماء، منها نبع «مرشدي» و»عربا» التي كان البدو الرحّل ينزلون عنده صيفاً من وادي الرقة، فأطلق العثمانيون عليها اسم «مرشد بنار» بمعنى نبع أو عين مرشد، وكانت تابعة لاورفة، وأثناء بناء السكة الحديدية فيها من قبل شركة ألمانية في العام 1911 أُطلق عليها اسم «كوباني» ويُقال إنه أتى من كلمة كومباني أي شركة ، وسمّيت المدينة لاحقاً «عين العرب».

وسكن أرمن هاربون من المذابح قرب المحطة منشئين قرية عام 1915، كما استقرّ فيها أكراد من المنطقة أيضاً. وبعد تحديد الحدود مع تركيا عام 1921 على امتداد خط سكة الحديد، أضحى جزء من المدينة على الجانب التركي من الحدود باسم مرشد بنار، وبينهما نقطة عبور حدودية بذات الاسم.

تخطيط البنية التحتية للمدينة تمّ بشكل كبير على يد السلطات الفرنسية إبان فترة الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، ولا تزال بعض المباني فرنسية الطراز من تلك الحقبة قائمة. في وسط القرن العشرين، كان في المدينة 3 كنائس أرمنية، ولكن معظم السكان الأرمن هاجروا إلى الاتحاد السوفياتي في ستينات القرن الماضي. من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

تعود اليوم عين العرب من التاريخ إلى حضن الجغرافيا السياسية وصدارة الأحداث لتمثل الانتحار الأخير للظاهرة الوظيفية المعاصرة للمدعو رجب طيب أردوغان، والذي لا يحمل من اسمه صفة واحدة لا بالعربية ولا بالتركية.

فرجب هذا يمارس الهستيريا السياسية بكلّ أدواتها وتجلياتها وسلوكها، قافزاً فوق الواقع وحقائق التاريخ ونواميس الجغرافيا والثوابت والمسلمات، وهو نموذج شاخص وجلي بحق لحالات انتصار العُقدة على العقيدة، وما تسبّبه هذه الحالة من فصام للشخصية الطبيعية العادية، ناهيك عن الدولة كشخصية اعتبارية وفق تعريف السياسة والقانون. ولكي لا نكرّر ما قيل ونجترّ ما كُتب عن سياسة المقامرة التركية في تفاصيل «الربيع العربي»، من عبث بالجوار والمكوّنات الاجتماعية والمصالح الحيوية للدولة التركية، فحريّ بنا استنطاق الواقع والتاريخ السياسي التركي المعاصر لندلّل على حجم وعمق المصير السوداوي الذي يترقب تركيا بفعل حماقات أردوغان وسياسات حزبه المنحرفة.

فأردوغان مجرّد نسخة باهتة من الزعيم التركي عدنان مندريس، والذي صعد نجمه بسرعة الصاروخ في سيرته ثمّ هبط بسرعة الصاروخ كذلك إلى حبل المشنقة، وفي زمن قياسي من حكمه لتركيا كرئيس للحكومة ما بين عامي 1950- 1960. فعلى الرغم من عدم تقاطع شخصيتي مندريس وأردوغان سوى في الطورانية الشوفينية والنقلات الصاروخية للتنمية في بلادهم، إلا أنّ مندريس هو الأصل والطبيعي في كلّ شيء، وأردوغان هو التقليد والمحاكاة والمسخ في كلّ شيء أيضاً.

فعدنان مندريس كان مسلماً ولم يكن إسلامياً، حاله كحالة توركوت أوزال الرئيس التركي الأسبق والذي عُرف بالتديّن وأدّى مناسك الحج واستطاع الفصل وإقناع مؤيديه ومعارضيه بأنّ سلوكه وقناعاته الشخصية لا دخل لها بإدارة دولة ذات منظومة وتوجه علماني. وعدنان مندريس شخصية وطنية نمت وترعرعت في كنف الأتاتوركية وعملت من داخلها لصونها وتهذيبها وإعادة إنتاجها وتقويمها، نظراً لما صاحَبها من توتر نتج عن حدة الصراع بين جناح الجمهوريين وجناح الخلافة، والذي أفرز بالنتيجة بعض القرارات الموتورة والناتجة عن حق الغلبة لا حقيقة العقل، ولكن مشكلة مندريس إنه أوغل في ما أسماه إصلاحات حتى أهدى الجمهورية ومنجزاتها للدراويش وفلول الخلافة المتخلفة، ولم يعد بإمكانه التراجع لأنه أحرق كلّ خطوط العودة وسفنها، حيث تغوّلت الدروشة تحت ستار عودة المدارس الدينية والسماح لمدارس تحفيظ القرآن، وتغوّل الإقطاع والاحتكار ولوبيات المال تحت ستار الانفتاح الاقتصادي وتحرير السوق وتشجيع الصادرات. فعاد الصراع الطبقي والديني من جديد، وتآكلت قيم العلمانية التركية كهوية كبرى جامعة لجميع مكوّنات الشعب التركي، بما حملته من تسامح ومساواة، وعاد الفقراء إلى جحور بؤسهم من جديد بعد أن تنفّسوا شيئاً من قيم العدالة الاجتماعية في عصر الجمهورية. والتي اضطرت إلى إعادة التموضع من جديد بعد مقامرة مندريس.

وما يؤخذ على مندريس في سياستة الخارجية، هو ارتماؤه التام في حضن الحلف الأطلسي، ومشاركة قواته إلى جانب أميركا في الحرب الكورية، وتبنّيه لسياسات الغرب في العداء للعروبة ومصر عبد الناصر وقضية فلسطين، بانضمام تركيا إلى حلف بغداد عام 1955، والذي كان وما زال نواة لما يُعرف اليوم بمشروع الشرق الأوسط الجديد الوهم المتبدّد ، وهو المشروع المبشر بالتطبيع والقبول بكيان العدو وتفرّده بالمنطقة وفيها.

قد يشفع لمندريس واقعه التاريخي وظروفه ومحدودية خياراته وجدية المخاطر المحدقة به في حال تخلفه عن طوع الغرب، وهذا ما لا يشفع لأردوغان اليوم. فالغرب في زمن مندريس كان قادرًا على التضحية بالكيان التركي برمّته، ووضعه طوع خصومه وفي مسلخ السياسة، من روس وأرمن وكرد ويونانيين وعرب وعلويين، أما اليوم فلا يمتلك الغرب أبعد من التضحية بأردوغان وسياساته وزمرته وحزبه وهو ما سيتحقق عاجلاً أم آجلاً في حال قرّر الغرب إعادة التموضع وتنفيذ مراحل استراتيجية الخروج من أزمة «الربيع» وأفخاخه ومستنقعاته.

رحل مندريس وبقي الكيان التركي كما حلم مندريس وطمح وخطط، وسيرحل أردوغان، ولكن مع تشظي الكيان التركي وبعد تعميق ثاراته ورفع سقف استحقاقاته التاريخية والجغرافية من قبل الباقين حوله اليوم.

يقول بعض النرجسيين من المفتونين بظاهرة أردوغان بأنه تلميذ للمناضل التركي الظاهرة نجم الدين أربكان مؤسس حزب الرفاة، ولا يعلمون أنّ أردوغان تلميذ غير نجيب لا لأربكان ولا لحزب الرفاة، فحزب الرفاة اليوم هو حزب السعادة المعارض لأردوغان. وأردوغان لم يكن سوى متسلّق وجد في الرفاه سلّم مجد بعد أن دعمه الحزب لتولي منصب رئيس بلدية اسطنبول في عام 1994، هذا المنصب الذي كشف من خلاله أردوغان كلّ مهاراته في التواصل والعمل القيمي والذي يمثل صلب رسالة حزب الرفاه ومؤسسه البروفيسور نجم الدين أربكان، حيث صادر أردوغان قيم حزب الرفاه وبرامجه واختزلها في شخصه ورفاقه ثم في حزبه العدالة والتنمية الإخواني.

يصف أحد مستشاري أربكان الفرق بين المعلم والتلميذ أردوغان في العبارة الموجزة التالية: «كان أربكان على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل مبادئه وأهدافه خدمة لتركيا، بينما أردوغان على استعداد للتضحية بكلّ شيء في سبيل مصالحه ومصلحة حزبه». ما يسعى إليه أردوغان اليوم هو في حقيقته السعي للنمو بلا جذور، فالجذور التي يريد تجاوزها أردوغان وتجاهلها هي المكوّنات التركية الطبيعية من طورانيين وكرد وعلويين وعرب وأرمن وغيرهم من المكوّنات الصغيرة الأخرى.

والجذور التي يريد أردوغان إلغاءها وإبطالها كذلك هي المجال الحيوي الطبيعي لتركيا، سورية وإيران وروسيا ومصر والعراق، وهو ذات النفق المظلم الذي أودى بسلفه مندريس. فقد تطاول أردوغان على الطائفة العلوية ووصفها بصفات مشينة تجاوزها الزمن في هوسه بالربيع وحقده على سورية، واليوم في عين العرب يرعى مجازر ضدّ الأكراد بصور تعيد تجربة أجداده العثمانيين مع الأرمن والشيعة والدروز والموارنة وغيرهم من المكونات التي لا تروق لهم.

لا يعلم أردوغان في ظلّ هوسه السياسي وسعاره بأنّ كلّ لبنة ساهم في إسقاطها في سورية هي جدار سيسقط في تركيا مع تداول الأيام، ولا يعلم بأنّ كلّ مؤامرة ضدّ الأكراد في أيّ موقع جغرافي تعني التهاب الأناضول التركي حتى مطلع الفجر. فليترقب أردوغان بعدها متى يطلع هذا الفجر.

عن قريب، سترحل أساطيل «الناتو» وتعود أسراب طائراته إلى قواعدها وجحافل جيوشه وخبرائه إلى الثكنات والمكاتب، وسيفنى عملاؤهم كما فنى سعد حداد وأنطوان لحد و»جيشهم الحر» المصنوع في تل أبيب، وستبقى سياسات أردوغان تقتصّ من تركيا من كلّ حدب وصوب. فمشكلة أردوغان أنه لم يدع الأرض تقاتل معه ولا عنه كما يفعل القادة العظام عادة، بل حارب الأرض بكلّ لقطاء الأرض.

نقول لأردوغان: كن كجدك عبد الحميد تجاه فلسطين العربية وتعلّم منه التضحية بالعرش في سبيل المبدأ، وزر ضريحه عله يحدثك عما قاله جمال الدين الأفغاني له عن العرب، كنصيحة لإنقاذ خلافتهم المتهالكة، وامتثِل لقول شاعر تركيا الكبير محمد فؤاد في مقولته: العرب عين تركيا اليمنى ويدها اليمنى. وإقرأ رواية «صراع العميان» للأديب التركي عزيز نيسين عن عبثية صراع الجوار. ونقول له كذلك: إذا كان قبر جدك سليمان باشا عزيز عليك إلى درجة التضحية بالعرب والعجم، فسورية عزيزة على العرب والمسلمين والكرد والتركمان والسريان والأرثوذوكس، فجدك مات وسورية حية والحي أبدى من الميت.

Ali95312606 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى