جامعة إيموري الأميركيّة تحتفي بالشاعر الإيرلنديّ الكبير شيموس هيني

جمَعت عملاق الشعر الإيرلندي شيموس هيني بجامعة إيموري الأميركية علاقة امتدت ثلاثين عاماً، توّجها حين قرر إيداع أرشيف مراسلاته في الجامعة عام 2003، فزيّنت وثائقه مكتبتها لتصير واحدة من أشهر المجموعات عن الأدب الإيرلندي في أميركا الشمالية. وتحتفي الجامعة اليوم بحياة الشاعر ومسيرته الأدبية في احتفال ضخم في مركز شوارتس للفنون الأدائية، ويتزامن الاحتفال مع أكبر معرض يقام عن هيني منذ وفاته ويحمل عنوان «شيموس هيني: موسيقى الحدث»، ويقام في مكتبة روبرت دابليو وودراف حتى الخامس والعشرين من تشرين الثاني المقبل، ويحوي صوراً ولوحات ومسودات شعرية ونسخاً نادرة، بل ومكتب هيني نفسه إبان الثمانينات.

نسج هيني خلال خمسين عاماً من حياته المديدة 1939 2013 جذوره الريفية على نحو مفعم بالحنين، مستعيناً بالواقعية الحديثة للتأمل في أزمة موطنه السياسية. ومثلما يفخر الإيرلنديون بنثر جيمس جويس وبمسرح صمويل بيكيت، أغرى هيني النقاد باعتباره أهم شاعر إيرلندي على الإطلاق، بل أهمّ من ويليام بتلر ييتس.

فاز هيني بجائزة تي إس إليوت، كما نال نوبل للآداب «لِمَا أنجز من أعمال تتحلى بجمال غنائي وعمق أخلاقي، تمجّد المعجزات اليومية والحياة المنصرمة». تمتع بتقدير كبير في الأوساط الأكاديمية، إذ عمل زميلاً فخرياً في كلية ترينتي والجمعية الملكية للآداب وأستاذاً في الشعر في جامعة أكسفورد ومحاضراً في جامعة هارفارد، كما حاز عام 2012 على «أستاذية شيموس هيني» في الكتابة الإيرلندية من جامعة دبلن.

كتب هيني عن الأحجار والجداول والمزارع فاستحالت الطبيعة موقعاً لمعضلات أخلاقية استوعبها المفكرون الملحدون والكاثوليك المؤمنون على حدّ سواء. لم يعجزه البتّة الحديث إلى العامة، لكن ذيوع قصائده لا ينبغي أن يحجب ما تتألق به من انفتاح رقيق على الطبيعة ولحظات كاشفة لأسرار الروح.

استحضر شعوره حين اكتشف الشعر للمرة الأولى: «إنها قوة اللغة الكهربائية، سلَبتْ لُبّي». تأثر في بداية مسيرته بالشاعر البريطاني جيرارد مانلي هوبكنز، واستدعى ديوانه الأول «موت عالِم طبيعة» 1966 مشاهد طفولته وروائحها، مستمتعاً بصور متلهفة رسم فيها مقتلعي البطاطا ومزيلي الخُثّ من المستنقعات. وجاهر في محاضرته «إصلاح الشعر» 1995 بأن المرء «يكتشف في المساحة الواقعة بين المزرعة والملعب ما أسميه «تَخْم الكتابة»، حدا يفصل بين الحالات الفعلية لحيواتنا اليومية والصور الخيالية لتلك الحالات في الأدب». وضرَب مثالاً نادراً بين نظرائه من الشعراء، إذ أثنى النقاد على شعره فيما تصدرت دواوينه قوائم أفضل الكتب مبيعاً. لعل السر يكمن في أبياته التي تضمر إشارات إلى أساطير يونانية وسَلْتية، وشابها في الغالب الغموض.

لدى وفاة هيني نعاه السياسيون بقدر ما نعاه الشعراء، إذ نوّه الرئيس الإيرلندي مايكل دي هيغنز بـ«مساهمة هيني الهائلة في الأدب والضمير والإنسانية». وكان قد أخذ بأسباب حياة ثقافية تقاذفتها أمواج السياسة والطائفية، وأمضى طفولته في إيرلندا الشمالية حيث تجاور البروتستانت والكاثوليك آنذاك بشيء من الحذر. وكان غادر إيرلندا الشمالية في أوج الاقتتال عام 1972، ورحبت إحدى صحف بلفاست البروتستانتية برحيله واصفة إياه بـ «الداعية البابوي»، انتهى به المقام في دبلن ليتصدر خبر انتقاله إلى جمهورية إيرلندا عناوين الصحف. ومكَّنته تلك الغربة المحدودة من إسباغ إحساس جديد بالألم والشجن على هوية الإيرلنديين.

بعد سنوات مع تفاقم الاضطرابات اتخذت قصائده منعطفاً سياسياً فأرجعت صدى هزات قومية مزقت الجزيرة شر تمزيق، وأصبح هيني «حامياً للغة، شَفَراتنا، ماهيتنا كشعب» بحسب ما عبّر رئيس الوزراء الإيرلندي إندا كيني. ولطالما أحس هيني باللغتين الإنكليزية والإيرلندية تتجاذبانه، واعترف بهذا الانقسام في ديوان «قنديل الزعرور» 1987 : «كان حمْل دلوين أسهل من حمل واحد/ لقد نشأتُ بينهما».

استجابة لضغوط متواصلة حضّته على الكتابة عن مصالح مواطنيه الكاثوليك ممن أرادوا تحرير إيرلندا الشمالية من الهيمنة البريطانية، كثيراً ما تناول شعره العنف الطائفي في مقاطعة ألستر. ولم يَسلم أيضا من الانتقادات لتأرجح موقفه حيال عنف جمهورية إيرلندا، لكنه فطن إلى حقيقة طرفي الصراع، ولم يسمح لنفسه قط بأن ينقلب بوقا للراديكالية أو تبدر منه حجج لدعم حملات الجيش الجمهوري الإيرلندي.

كان هيني شديد الوعي بمأزقه، فهو القومي الإيرلندي الذي يسكن في مقاطعة جنوبية تحت لواء الملَكيّة البريطانية، وقيل إنه شوهد ذات مرة في قطار دبلن بلفاست يبدل بدبلوماسيته المعهودة ويسكي جنوب إيرلندا بآخر من إنتاج شمال إيرلندا حين عبر القطار الحدود! لم يخْل كذلك من استياء من الاضطهاد البريطاني ولم يتوان عن مهاجمته. ورغم إعجابه بالثقافة البريطانية والأدب الإنكليزي، لم يعرّف نفسه يوما بأنه بريطاني. حينما سعى أحد الناشرين في لندن إلى ضم إحدى قصائده إلى كتاب من المختارات الشعرية البريطانية، ردّ «لا تندهش إن رفضت، فلتَعلَم أن جواز سفري أخضر. لم نرفع قط الكؤوس في صحة المَلِكَة».

احتل النزاع في إيرلندا الشمالية مساحة لا يستهان بها في قصائده، ساعياً إلى وضعه في سياق تاريخي أرحب. يترع ديوانه القاتم «شمال» 1975 بكآبة عنف اندلع قبل ست سنوات من صدوره، بداية خمسة وعشرين عاماً من التفجير والرصاص، الشغب والوحشية، الاعتقال والإضراب عن الطعام.

في قصيدة «حقوق الجنازة» يروي هيني: «والآن بينما تهل أخبار/ قتل كل جار/ نتوق إلى المراسم/ الإيقاعات المعتادة/ الخطوات المتزنة/ للموكب الجنائزي، وهو يتمعّج بحذاء/ كل بيت معتم». وفي «مرسوم الوحدة» -قصيدة اعتبرها هيني سياسية وجنسية في آن واحد- أخذ خريطة بريطانيا وإيرلندا وحوّلها إلى صورة زوجين يرقدان معا على الفراش، إيرلندا محاطة ببريطانيا -الذَكر- وخاضعة لها.

اعتقد هيني أن الكتابة هي الأهمّ، لمجرد بهجة الكتابة، ناصحاً الكتاب بتعزيز الشهوة للعمل: «تتخيل مأواها كيديك ليلاً، تحلم بالشمس في كُلْفة ثدي. إنك الآن صائم، مصاب بدوار، خطِر. انطلق من هنا. ولا تبالغ في الجِد».

صارح القراء بأن آخر دواوينه «السلسلة البشرية» 2010 الفائز بجائزة فوروارد ينطوي على بوح يفوق كل ما سبقه، لذا تردّد دوما لدى الحديث عنه. كتبه بعد إصابته بسكتة دماغية مستلهماً من مرضه قصيدة «معجزة». تذكَّر كيف حملوه حملاً إلى غرفة النوم فمدح شخصيات إنجيلية حمَلوا مشلولاً إلى يسوع ليعالجه: «أكتافهم فاقدة الحس، الوجع والاحديداب يتشابكان/ في ظهورهم، مقابض النقالة/ زلقة بالعرق، دون توان».

في حوار مع صحيفة «ذا تايمز» حمل هيني البشرى: «ما زال في استطاعة الشعراء إنقاذ العالَم»، ولا عجب، فتأثير هيني في الحياة الشعرية الإنسانية لا سبيل إلى مضاهاته. هو المترجم والمذيع وكاتب النثر يُعَد شعره من أعظم إنجازاته وأروعها، لمداه وحرفيته الفريدة: قصائد غرامية تارة وملحمية تارة، قصائد تُكَرم تربة يكدح فيها الإيرلنديون، قصائد عن الذاكرة وضبابية التاريخ، قصائد عما أسماه «الانتقام القَبَلي الحميم»، مرَاثٍ موجَّهة إلى أصدقاء فارقوا الحياة إبان الاضطرابات، حِكَم عثرت على المغزى رغم ابتذال المألوف. رنَت قصيدته «النبش» إلى أبيه وهو يقتلع البطاطا، وإلى جدّه وهو يقتلع العشب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى