سياسة «النأي بالنفس»… تذاكٍ… ثم تغابٍ… ثم غباء!

نصار ابراهيم

انتشر مفهوم «النأي بالنفس» واستخدامه بمناسبة وغير مناسبة في سوق السياسة العربية حتى أصبح مجرّد نكتة سمجة تتداول بها بعض الدول والكثير من القوى السياسية… وخاصة عندما يتمّ تداوله كعلاج سحري من قبل بعض قوى اليسار العربي والفلسطيني للهروب من استحقاقات المواجهة الطاحنة التي تجري على امتداد العالم ويشتعل سعيرها في قلب العالم العربي…

لقد انتشر هذا المفهوم مع انطلاق ما يُسمّى بـ«الربيع العربي»… وتصاعَد مع احتدام المواجهة الكونية ضدّ سورية… وقد لوحظ أنّ هذا المفهوم لا يفعل فعله إلا حيث تكون القوى الاستعمارية والرجعية وأدواتهما المحلية في موقع العاجز أو الضعيف الذي لا يستطيع الانخراط الكامل والمباشر والعلني في المشروع الاستعماري التدميري بسبب موازين القوى التي تحول دون هذا الانخراط… ولهذا تبادر تلك القوى إلى رفع هذا الشعار والترويج له لتكبيل القوى الوطنية – القومية التقدمية ومنعها من القيام بدورها وواجبها المفترض والطبيعي.

قد نفهم خلفيات هذه السياسة لقوى مثل قوى الرابع عشر من آذار في لبنان ومن هم على شاكلتها من أدوات بائسة في البلدان العربية… ولكن كيف نبرّر هذه السياسة لقوى من المفروض أنها في جبهة المقاومة والمواجهة القومية والاجتماعية والثقافية ضدّ قوى الهيمنة والرجعية وضدّ المشروع الصهيوني في المنطقة؟!

والمشكلة هنا بالطبع ليست في الغباء الطبيعي أو الاصطفاف السياسي الطبيعي الذي لا علاج له، بل في الاستغباء المتذاكي الذي يعتقد أنّ النأي بالنفس هو الطريقة المثلى للبقاء وحفظ الأدوار والطهارة السياسية التي تتابع من على الشرفات عملية الصراع على إعادة فك وتركيب المنطقة من دون أن تحرك ساكناّ… وكأنّ ما يجري إنما يجري على كوكب آخر.

فما معنى « النأي بالنفس» عندما تكون المواجهة بين القوى الاستعمارية التي تستهدف تمزيق وتقسيم المنطقة والهيمنة عليها وعلى ثرواتها وبين القوى القومية وقوى المقاومة التي تتصدى بكلّ ما تملك لهذه السياسة؟

وما معنى «النأي بالنفس» عندما تكون المواجهة بين قوى التخلف والرجعية العربية والإرهاب الظلامي وبين كل ما يمثل نقيضها من تقدم وحرية واستقلال وعدالة وكرامة قومية ووطنية وإنسانية وتماسك اجتماعي؟

وما معنى «النأي بالنفس» عندما تكون المواجهة مع الجبهة التي تصطفّ فيها وتديرها وتدعمها دولة الاحتلال «الإسرائيلي»؟

وما معنى سياسة «النأي بالنفس» عندما تكون المواجهة مع السياسة والثقافة الطائفية وتمزيق الهوية القومية والعروبة وتحويل المجتمعات العربية إلى كازينو للهبوط والإسفاف السياسي والأخلاقي والاقتصادي والسلوكي؟

وما معنى «النأي بالنفس» لقوى يسارية وقومية تقف متفرّجة على سورية وهي تكابد وتقاوم التمزيق والهيمنة وتدمير الدولة الوطنية العلمانية والقلعة القومية الأخيرة في العالم العربي… وكلّ ذلك بحجة أو ذريعة أنّ هناك ملاحظات على سياسات الدولة السورية؟ فهل هناك دولة أو نظام أو قوة سياسية عربية بما في ذلك قوى اليسار نفسه ليس عليها ملاحظات… فهل سنقف لنتفرّج على سحق تلك القوى بحجة أنها أخطأت هنا أو هناك؟

والسؤال الكاشف هنا هو: ماذا سيكون مصير تلك القوى يا ترى و«مشاريعها التحرّرية والاجتماعية والتنموية والثقافية التقدمية والجذرية جدا جداً» في حال نجح المشروع العالمي في تدمير سورية وتمزيق المنطقة وتقسيمها على أساس ديني أو طائفي أو إثني؟

لكلّ هذا وسواه كان الواجب والمطلوب ولا يزال من تلك القوى اليسارية والعلمانية والقومية من المحيط إلى الخليج أن تكون جزءاً من المواجهة وليس الوقوف على أرصفة الهوامش التي توفرها البروباغاندا الاستعمارية وأدواتها من على قاعدة «النأي بالنفس»، فيما تقوم تلك القوى بتحشيد كامل طاقتها وحلفائها لتدمير قوى المقاومة والممانعة العربية، وفي القلب منها سورية وحزب الله وحركة المقاومة الفلسطينية وكلّ القوى المناضلة في المنطقة…

أليس هذا هو الغباء السياسي الذي يسير طوعاً نحو مصيدة «النأي بالنفس»، فيما مستقبل المنطقة والعالم يجري تقريره الآن بالحروب والمواجهات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية على كلّ المستويات… بل والأكثر خطورة أنّ تلك القوى وبسلوكها السياسي هذا إنما تضعف جبهة المقاومة بتحييد ذاتها بما يعني في النهاية ربحاً صافياً للقوى الاستعمارية وحلفائها.

ومع ذلك يبقى السؤال الكاشف قائماً: ما هو المصير الذي ينتظر أصحاب سياسة «النأي بالنفس» هذه في ظلّ الاشتباك الشامل سوى الاندثار السياسي والاجتماعي والأخلاقي عندما تستقرّ معادلات المنطقة والعالم وفق موازين القوى التي تقرّرها القوى الفاعلة في الميدان؟ … أم تراهم ينتظرون المكافأة من الطرف المنتصر بعد أن وضعت تلك القوى ذاتها بخفة وبلاهة على رصيف الأحداث منذ البداية… أيّ غباء هذا؟ يبدأ كنوع من التذاكي السياسي الواعي ليتحوّل إلى تغابٍ ثم يطبق كغباء سياسي لا يميّز الرأس من الرجلين فيَضيع ويُضيّع؟

صفحة الكاتب:

https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى