في المعاني الحقيقيّة للعروبة ٢

جورج كعدي

أخفقت إيديولوجيا «العروبة» في تحقيق مشاريع «النهضة» و«الوحدة»، وشهدت انتكاسات وإخفاقات متتالية لعلّ ذروتها ما يعيشه اليوم النطاق الجغرافيّ المفترض لهذه «العروبة» التي لطالما سعت إلى تكريس الفكرة الوحدويّة في الوجدان الجمعيّ والوعي السياسيّ، وإن ارتكزت في الغالب الأعمّ على الركنين الضعيفين والمتهافتين في أيّ مشروع قوميّ، ألا وهما اللغة والدين، على ما أسلفنا في الحلقة الأولى الخميس الفائت، من خلال العودة إلى ما ورد في المرجع البحثيّ التاريخيّ للدكتور ألبرت حوراني «الفكر العربي في عصر النهضة 1798 ـ 1939»، وأرغب دوماً في تدعيم وجهة نظري بأفكار باحثين ومفكّرين متخصّصين، لمزيد من الدقّة والموضوعيّة في ما أعرض وأبحث وأرى. واليوم أيضاً، أعود إلى مداخلة قيّمة للدكتور عبد الإله بلقزيز من المغرب، عضو الأمانة العامة لـ«المؤتمر القوميّ العربيّ» ألقاها في ندوة «نحو مشروع حضاريّ نهضويّ عربيّ» التي نظّمها «مركز دراسات الوحدة العربيّة» عام 2001 في فاس، المغرب، وممّا جاء فيها: « … أمّأ أن يكون المشروع النهضويّ العربيّ قد آل إلى فشل أو إخفاق، فذلك ما يقوم عليه أكثر من دليل. فباستثناء مطلب الاستقلال الوطنيّ للكيانات العربيّة المحتلّة من قبل الاستعمار ـ وهو من مطالب المشروع النهضويّ العربيّ وأهدافه ـ والذي استطاعت حركة التحرّر الوطنيّ العربيّة حاملة المشروع النهضويّ وأداته السياسيّة أن تحقّقه، فإنّ سائر المطالب النهضويّة الأخرى لم يتحقّق: الوحدة القوميّة، والديمقراطيّة، والتنمية الشاملة، والاشتراكيّة، وتحرير الأرض من الاغتصاب الصهيونيّ! جرّب العرب خوض تجربة الوحدة منذ محمد علي، وكانت الوحدة المصريّة ـ السوريّة ذروتها، لكنّهم اصطدموا بالتجزئة وميكانيزماتها المتجدّدة فأخفقوا، وها هم اليوم يعيشون حقبة انتقال جديدة من طور التجزئة القوميّة إلى طور التجزئة القطريّة، حيث يتعرّض قسم من كياناتهم إلى عمليّات فتنة وتمزيق من الداخل ومن الخارج، وتطلّ منها دعوات الانفصال جهيرةً غير محتشمة! وجرّبوا الديمقراطيّة الليبراليّة، في حقبة ما بين الحربين، وفي بعض الخمسينيّات، فاكتشفت شعوبهم ونخبهم أنّها «ديمقراطيّة» الطوائف والأعيان والباشوات الإقطاعيّين. وحين جدّدوا الصلة بها ـ منذ منتصف السبعينيّات ـ اكتشفوا أنّها «ديمقراطيّة» الإيديولوجيّ لوزارات الداخليّة: المبرمج على تزوير الإرادة الشعبيّة، وطبخ نتائج الاقتراع، وإفساد الحياة السياسيّة، وإقرار «النظام التمثيليّ النيابيّ» جنباً إلى جنب مع أحكام الطوارئ. ثم جرّبوا برامج التنمية الشاملة، فانتهوا إلى المديونيّة القاتلة، وإلى بيع ممتلكات الدولة للقوى الطفيليّة الخارجة من رحم قطاع عام فاسد، ثم إلى إفقار لا سابق له «أهّلهم» لاحتلال أحطّ المراتب في سلّم التنمية البشريّة على الصعيد العالميّ! ثمّ جرّبوا الاشتراكيّة فاكتشفت شعوبهم ونخبهم أنّها ما كانت ـ في أحسن أحوالها ـ سوى الإسم الحركيّ لرأسماليّة الدولة، حيث الدولة تستحيل المالك الأوحد للثروة ووسائل الإنتاج وليس الشعب أو المنتجين الكادحين، وحيث التوزيع «العادل» للثروة هو الوجه الآخر الموضوعيّ للتوزيع غير العادل للفقر على طبقات معدمة صارت الطبقة الوسطى ـ شيئاً فشيئاً ـ قسماً من تكوينها الطبقيّ! وأخيراً جرّبوا مواجهة الكيان الصهيونيّ، فخسروا الحرب تلو الأخرى، وانتقلوا من الحقوق الاستراتيجيّة إلى الحقوق المرحليّة، ولا اعترضوا عن الواجب لينصرفوا إلى الممكن، فأدخلوا السيوف إلى أغمادها وتداعوا إلى كلمة سواء تقول إنّ «السلام» مع العدوّ الغاصب خيار استراتيجيّ! وما خفي أعظم!!! هل ثمّة إخفاق أعظم وأشدّ هولاً من هذا؟! … ».

مجموعة قضايا فائقة الأهميّة أثارها الدكتور بلقزيز في مداخلته القيّمة جداً أرغب في إعادة نشرها كاملة في الصفحة الثقافية من «البناء» وهي تضع الإصبع على الجرح، بل الجروح النازفة في جسد الجسم العربيّ، وفي ما قاله رؤية سليمة ورؤيا استشرافيّة تستحقّان التوقّف مليّاً عندهما:

يلحظ بلقزيز أولاً أنّ «الوحدة القوميّة» العربيّة المزعومة لم تتحقّق، بل ازداد هذا العالم العربيّ تمزّقاً وتجزئة، حتى أنّه انتقل من طور التجزئة القوميّة أي تعدّد قوميّاته إلى طور التجزئة القطريّة… لكن ما عساه يقول الدكتور بلقزيز اليوم بعد أربعة عشر عاماً على الندوة ومداخلته فيها في بلوغ التجزئة العمليّة الحاصلة على الأرض من السودان إلى العراق أو المعدّة لكيانات وطنيّة يستميت المشروع الأميركيّ ـ الصهيونيّ ـ التركيّ ـ العرب نفطيّ إلى تحقيقها، خاصة في سورية؟!

يشير ثانياً إلى عدم تحقيق الديمقراطيّة والتنمية الشاملة والتوزيع العادل للثروة، ولا أخال الدكتور بلقزيز متوقّعاً بعد رؤية عربان النفط والغاز والفحش وتبديد الثروات الوطنية والعمالة لأميركا و«إسرائيل» والتآمر ضدّ سورية ولبنان والعراق وفلسطين، يوزّعون الثروة في شكل عادل على شعوبهم، ويساهمون في إنجاح المشروع العربيّ من خلال التنمية الشاملة والديمقراطيّة في نظم حكم أوليغارشيّة استبداديّة فاسدة وفاحشة ومحتكرة! .

الأهمّ، ثالثاً، ما يدلّ عليه من إخفاق في تحرير الأرض من الاغتصاب الصهيونيّ، مقدّماً صورة بليغة عن العجز والخنوع والاستسلام والتنازل عن القضيّة الأمّ وبيعها قائلاً: «أدخلوا السيوف إلى أغمادها وتداعوا إلى كلمة سواء تقول إن «السلام» مع العدو الغاصب خيار استراتيجيّ! وما خفي أعظم!!!». إنّ ما خفي يا دكتور بلقزيز هو حقّاً أعظم، وكنتَ الرائي وكنتَ السبّاق إلى توقّع ما يحصل في هذه الساعة على أيدي عربان العُرْبة المتآمرين، الخونة والمجرمين، الذين تنازلوا لأميركا وأوروبا و«إسرائيل» عن فلسطين وشعبها، والذين اجتمعوا لتدمير سورية بعهرهم وحقدهم وعمالتهم وإجرامهم و«شيم» الطعن في الظهر التي يتّصفون بها عوضاً عن محاربة «إسرائيل» واقتلاعها، فما بذلوه من مال وفير بلا حساب لتدمير سورية يقتلع ألف «إٍسرائيل»، لكن الحقد يعمي يا دكتور، فماذا نفعل! وإنّي أضيف إلى وصفك القيّم وإشاراتك البليغة، أنّ المقاومة اللبنانية البطلة، ممثّلة بحزب الله وشهدائه الخالدين ومقاتليه الأحياء الصامدين، ألحقت هزيمتين كبريين في عامي 2000 و2006 يتمنّاهما كلّ عربيّ صادق ومخلص وحقيقيّ مثلكم، لكنّ من عبث الدهر أن عربان العربة الخونة أرادوا بالقوّة والفجور والعمالة المتأصّلة فيهم تحويل النصر إلى هزيمة فسخّروا أبواقهم ومرتزقتهم لتحويل الصورة وتشويهها، فبأيّ «عروبة» وبأيّ «وحدة عربيّة» نؤمن ونأمل بعد اليوم؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى