نساء سورية: شقائق الرجال… أوابدٌ حظي بهنّ الوطن جان دارك الشرق… السيف الدمشقي المنسي نازك العابد

رانيا مشوح

نساءٌ كُثر كان لهن دوراً كبيراً في تاريخ سورية و نهضتها، و من السيدات اللواتي ساهمن في علو اسم سورية، وكُنّ نموذجاً مشرّفاً للمرأةِ السورية.

أبصرت المناضلة نازك العابد النور عام 1887، والدها مصطفى باشا العابد من أعيان دمشق، تولى محافظة الكرك، وولاية الموصل في أواخر الفترة العثمانية، أما والدتها فهي فريدة الجلاد، من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي. وقد نشأت العابد في هذه البيئة النخبوية، فتعلمت مبادئ اللغات العربية والتركية في المدرستين الرشيديتين، الدمشقية والموصلية، ودرست الفرنسية في مدرسة الراهبات في الصالحية في دمشق، كما تعلمت مبادئ الإنكليزية والألمانية.

نُفيت مع عائلتها في الحرب العالمية الأولى إلى «إزمير» فدخلت مدرسة الفردوس للمرسلين «الأميركان»، لتتابع فيما بعد تحصيلها العلمي في المعاهد الخاصة للتعليم بالإضافة إلى تعلم فنون التصوير والموسيقى البيانو ، واهتمت بعلمي التمريض والإسعاف.

فور عودتها من المنفى في أواخر عام 1918، بدأت العابد نشاطها في الكتابة، فكتبت في بعض الصحف كـ«لسان العرب» واتخذت من مجلتي «العروس» وهي أول مجلة صدرت في سورية لصاحبتها ماري عجمي ومجلة «الحارس» منبراً لآرائها وأفكارها المستنيرة الجريئة، وشاركت أيضاً في المؤتمرات النسائية الوطنية والدولية في مصر ولبنان. وعقب الثورة العربية الكبرى عام 1916، أسّست وترأست جمعية «نور الفيحاء» لمساعدة ضحايا الثورة.

ناصرت العابد في كتاباتها حقّ المرأة في الانتخاب، عندما طرح في المؤتمر السوري عام 1919، وتحدثت باسم الجمعية واستكتبت سيدات دمشق العرائض اللازمة لتأييد الاستقلال أثناء وجود لجنة «كينغ كراين» الأميركية، التي تمّ تشكيلها بناء على اقتراح الرئيس الأميركي ويلسون للوقوف على رغبات المواطنين في فلسطين وسورية ولبنان وشرق الأردن، تمهيداً لتقرير مصير المنطقة. وقادت تظاهرت نساء المعارضة، ما أثار إعجاب أحد أعضاء اللجنة تشارلز كراين بذكائها وقوة حجتها، فكان اسمها ضمن أبرز الأسماء في أوراقه وخواطره. وقبل أن يغادر البلاد طلب منها أن تختار عدداً من الطالبات، لينفق من ماله على تعليمهن في الكلية الأميركية للبنات.

عين الملك فيصل، ابن الشريف حسين، نازك العابد رئيسة لجمعية النجمة الحمراء عام 1920، لتصدر في أول شباط 1920 مجلة «نور الفيحاء» وهي مجلة أدبية اجتماعية، بهدف النهوض بالمرأة، كذلك أسهمت في تأسيس «النادي النسائي الشامي» الذي ضمّ نخبة سيدات الشام، ومدرسة بنات الشهداء ومكتبتها، كذلك أسهمت في إنشاء مصنع للسجاد، والذي ريعه يخصّص لصالح الأيتام، وتم منحها رتبة نقيب فخرية في الجيش، نتيجة لمواقفها البطولية والوطنية.

وعندما بدأ الفرنسيون التمهيد للغزو، وبعد إنذارهم الملك فيصل بالمغادرة، حيث بدأ الجيش يستعدّ لصدّ العدوان الفرنسي 1920، بادرت نازك إلى إنشاء مستشفى للجرحى وهيأته في بضعة أيام، كاشفة عن شجاعة قلّ نظيرها لتمضي حاسرة الوجه بلباسها العسكري، مخترقة صفوف الثوار مدافعة عن الوطن والحرية تحفز الهمّم وتوقد حماسة المدافعين، وبصحبة وزير الحربية يوسف العظمة في ميسلون 24 تموز1920 تفقدت نازك العابد الجند، ويقال أنها هرعت إليه بعد أصابته في المعركة وأنه أسلم الروح بين يديها.

وبعد دخول القوات الفرنسية أرض الوطن، بدأت نازك العابد نضالها ضدّ المستعمر لتقف مع حرائر دمشق في الاحتجاج، عنوة على الانتداب الفرنسي وذلك بتنظيم مظاهرات تطالب برحيل قوات الاحتلال والاستقلال والحرية، وعليه بدأت نازك جهادها الأكبر سرّاً وجهراً بكل الوسائل المتاحة، فضاقت أعين الانتداب الفرنسي بنشاطها، ورصدتها شرطته، فأغلقت المجلة والمدرسة، ومنعتها من عقد ندوات خاصة وعامة، فما كان منها إلا الالتحاق بصفوف المقاومة السرية لمقارعة المستعمرين.

نفيت عن الوطن بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى دمشق نتيجة مواقفها الوطنية، فأبعدت إلى اسطنبول لمدة عامين 1920 1922 وعند عودتها رصد الفرنسيون تحركاتها لإدراكهم مدى خطورة نشاطها. تعرضت نازك العابد بسبب شجاعتها وإقدامها ونشاطها الوطني، لمضايقات شتى، اضطرتها إلى اللجوء إلى شرق الأردن، حيث أصيبت بخيبة لم تكن تتوقعها، فراحت تلتمس لقضية بلادها آفاقاً واسعة، تنشر فيها أخبار الثورة العربية وأسبابها وملابساتها، وحقّ بلادها في الحرية والاستقلال، وساعدتها شجاعتها ويسارة عيشها على التجوال في أميركا وعواصم الغرب شارحة واقع بلادها ومطالب قومها الوطنية، لزعماء السياسة والصحافيين، فحظيت بالإعجاب والتقدير، ونوهت الصحف الغربية بجرأتها وبطولتها حتى أنها لقبتها بـ«جان دارك» العرب، وجعلت الرحالة والكاتبة الإنكليزية روزيتا فوريس من مواقف نازك العابد حبكة لروايتها «سؤال» التي نشرتها عام 1922.

طال تجوال نازك بعيدة عن أهلها ووطنها، فعادت إلى الوطن بعد تعهدها بعدم المشاركة في أي عمل يمسّ سلطة الاحتلال، وفرضت عليها السلطة الإقامة الإجبارية في مزرعتها الخاصة في ضواحي دمشق، فراحت تشتغل في الزراعة، وهناك تعايشت مع أهل الغوطة الشرقية، فساعدتهم في تطوير العمل الزراعي، وأوقدت فيهم روح الثورة على المستعمر، فكانت إحدى ثائرات ثورة 1925، حيث عملت بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال، غير آبهة للخطر.

تزوجت نازك عام 1929 محمد جميل بيهم الذي مثل بيروت في المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في دمشق عام 1920، وانتقلت للإقامة في بيروت، إلا أنّ وجودها هناك لم يثنِ من عزيمتها بل ازدادت نشاطاً في العمل من أجل النفع العام فأسّست جمعيات اجتماعية عدة منها: جمعية المرأة العاملة، وميتم تربية بنات شهداء لبنان عام 1957. وفي السبعين من عمرها أسّست لجنة مهمتها تثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كافة، وانتخبت عام 1959 رئيسة لها، وقد أقيم بهذه المناسبة أول احتفال بعيد الأم في لبنان. وتوفيت نازك العابد في العام نفسه عن عمر ناهز 72 عامًا، قضتها في النضال في سبيل عزة بلادها وصون كرامتها، ودفنت في مقبرة العائلة في باب الآس في حي الميدان في دمشق.

جان دارك الشرق، نجمة ميسلون، السيف الدمشقي المنسي، الوردة الدمشقية، ألقابٌ عدة لا تكاد تفي السيدة نازك حقها كمناضلة من الطراز الرفيع، أرّق جفنها وأدمى مقلتيها حزن وطنها واغتصاب المستعمر لأراضيه، فكانت الثائرة بحق حتى بقي عبق نضالها يفوح في أرجاء الوطن الذي أحبته ليستنشق أبناؤه وبناته رسالتها باذلين في سبيله كلّ ما أمكن من جهدٍ ومالٍ وولد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى