خافية البوح وظلال المعنى في نصوص «أشبهني» للشاعرة الأردنية غدير حدادين ٢

نصّار ابراهيم

في سياق هذا الحراك العميق تقوم غدير ببناء وإعلان معادلة الوضوح الحر للعلاقة بين الأنا والآخر:

«حرر حروفي.. أكتبني… بين غيابك وحضوري… بين نهارك المظلم دوني… وليلي المضئ بحضورك» ص 86 .

هنا تنجلي وتصاغ العلاقة الأنيقة بين أنا الأنثى وبين آخرها … تقول الأنثى: أولاً لقد كافحت وناضلت وتحملت كي أكون أنا أنا… كافحت لكي أجعل المسافة بين أنا الواقع وأنا الأحلام أقل ما يكون… ومن هنا آتيك… ف»حرر حروفي… اكتبني» ولكن عليك أولاً أن تحرر ذاتك، وهذا بذاته يحررني من العلاقات غير المتوازنة… وعبر هذه العملية سنقيم التكامل والوضوح، وبهذا نطلق ونحررأجمل ما فينا: فنهارك بدوني مظلم… وحضورك يضئ ليلي، الوجه الأخر لهذا التكثيف هو: أن نهاري سيكون أيضاً مظلماً دونك… وليلك مضيئاً بحضوري… هكذا نستعيد ذاتنا لنكون نحن نحن وليس غيرنا. وبهذا المعنى نرتقي ونسمو «وحين أكون أحبك على قيد الحب أكونك» ص 92 ، إنها صيرورة التكامل والاندماج الحر الرائع. معها يصبح الحب الحر بذاته هو القيمة المطلقة. عندئذ فقط «سأكونك» كما أنت أيضاً وفي اللحظة ذاتها «ستكونني».

هكذا تواصل غدير رحلة الكشف والاستكشاف. تناور وتراوغ، لكنها لا تحيد عن هدفها: استجلاء الذات واستجلاء علاقتها بالآخر. ذلك كلّه يتمّ بناؤه على أسس صارمة وراسخة من حرية الاختيار وحرية الإيمان بالذات. فالأنثى لا تبحث «عنك» كخافية لها في مكان بعيد بل «في حارات قلبي… في عطر الياسمين… في جدائل الشمس… المترامية على شرفتي… أبحث عنك في كل ما قلته وما لم أقله» ص 93 . إنها تبحث «عنك» في داخلها، عليها أن تجدك هناك أولاً.

إذن حتى «أكونك» علي أولاً أن أجدك فيّ… في تفاصيلي… أن تكون حاضراً في كل ما قلته وما لم أقله… والحضور في ما لم يقل هو ذروة الصفاء والصدق وكثافة الشعور… فهل «بمقدورك» أن تدرك وتحس وتعي ما لم أقله؟ تحقيق هذه النقلة مشروط بقدرة عالية على مغادرة الأنا بكامل أثقالها المتشكلة عبر التاريخ من ثقافة الهيمنة ذكورية وسخافاتها، والتي تتجلى في علاقات الآخر الممتد، أي المجتمع على شكل قيود وبنى اجتماعية وسياسية وقانونية واقتصادية ونفسية وسلوكية وعادات وأداب وغير ذلك. هنا تنقل غدير المواجهة إلى الآخر. إنها تقول: إنني أحاول أن أكون أنا أنا كي «أكونك»، فهل أنت مستعد وقادر على الكفاح لأجل ان تكون أنت أنت لكي «تكونني؟» هذا هو التحدي!

في هذا النسق التفاعلي والقلِق إلى حد بعيد يتواصل الطموح وتصر الأحلام على تأكيد ذاتها باستمرار، وهي بقدر ما تتمحور حول الأنا، إلاّ أن الأنا هنا هي رمز معادل لكل «الأنوات»، إنها معادل شخصي وفي اللحظة ذاتها معادل عام. وعليه فالمواجهة ليست بين ذرتين اجتماعيتين، بل بين رؤيتين، بين الواقع والأحلام، بين الممكن والمتوقع، بين الملموس والمتخيل. ويبقى الأمل العميق بأن يتخطى المجتمع ذاته، بأن يكتشف ذاته ليكون هو هو فيتجاوز الاستلاب والهشاشة. ولذلك ثمة إصرار وعناد مذهل على تحديد الرؤية وضبطها لكي تكون واضحة غير ملتبسة… فأنت «… في حياتي إشراقة نور… نبع محبة… ومسيح لم يصلب بعد. أراك وجهاً لكبريائي… أراك وجها لمدينة….» ص 96 بمعنى أن حركة المعادلات لن تستقر وترتقي إلى الطموح ولن تصل وتحقق الأحلام الكبرى من دون أن أراك وجها لكبريائي، أي أن يصبح كبرياؤك جزءاً عضوياً من كبريائي، وكبريائي مكوناً عضوياً من كبريائك. ليس هذا فحسب، بل وأن يكون ذلك كلّه وجهاً لمدينة. وهذا بالتأكيد لن يتحقق في مجتمع لا يزال يستمتع بثقافة «العيب» وإهانة الأنثى. مجتمع مشبع بالأنانية والغرور الذكوري لأي سبب كان.

لكن لأجل أن نتوافق على مجابهة ذلك الواقع المثقل لا بد من خطوة حاسمة: ف»مداي أنت… يا أنا… اقترب مني واجعل سقوطنا ارتقاء جديداً إلى أبعد مدى» ص 103 . ذلك لأن» المطر أنت وأنا… المطر: قصيدة لن تنهمر، لن تكتمل… إلاّ بلقاء عاصف» ص 24 . هنا تأكيد على التكامل والاندماج… اقتراب إلى حد التماهي في الوعي واتفاق حول القيم… والمقصود هنا ليس الإلغاء أو الأقصاء أو الشطب، بل الفعل المشترك للذهاب إلى أعلى درجات التناغم والانسجام… في هذه العملية فحسب يأخذ مفهوم السقوط معنى ارتقائياً وليس سلبياً. النزول أولاً لوعي الذات والواقع. ومن هناك تجري القيامة وصولاً للتناغم. بعدها يتوافر شرط الارتقاء إلى عوالم وأحلام ليست لها حدود. هكذا تتجلى الحرية، كقيمة وممارسة، باعتبارها البيئة الحاضنة لنجاح عملية الارتقاء المنشودة: « امنحني الطريق وخذ مني خطاي… امنحني وتحمل كل هذا الجنون» ص 104 . أولاً لنتفق على الحرية. وفي سياق ذلك «عليك» أن تتحمل «كل هذا الجنون». ولكن عن أي «جنون» يدور الحديث هنا؟ إنه «جنون» الحرية إنها الحرية التي يقاربها الوعي السائد والثقافة السائدة باعتبارها ضرباً من الجنون. فهل «أنت» مستعد لتحمل تبعات «جنون الحرية ذاك». وظل المعنى هنا: هل أنت مستعد لكي تقف معي وبجانبي وأنا أمارس حريتي… عدا ذلك وقبله سنواصل الدوران في المتاهة ذاتها المفرغة من كل قيمة ذات معنى وتجل أصيل.

الثورة

الوصول إلى هذا المستوى يعني إعلان الثورة:

«… الحب… هو أنت وأنا… الحب… ضياعنا معا… الحب لحظة هذيان… الحب ثورة» ص 112 .

هنا تقوم غدير بتكثيف ذاتها حتى الحد الأقصى من الوضوح. إنها لا تترك أي مساحة للالتباس. لا تترك هامشاً للمناورة أو الهرب أو الجبن. إنها أعدت ومهدت ووضحت وتمنت وحلمت وبعد كل ذلك تكثف: إليك المعادلة بما يشبه صرامة الرياضيات: الحب أنت وأنا… الحب ضياعنا معاً… جنوننا وهذياننا معاً… الحب هو الثورة، فهل أنت بمستوى هذا الحب؟ هل أنت مستعد لامتلاك شروط الثورة؟ الثورة على ذاتك أولاً وعلى وعيك وعلى ثقافتك وعل محيطك وعلى كل ما يراه الآخرون «هذياناً وجنوناً»؟ فهل أنت مستعد للثورة وتحمل تبعاتها وآلامها؟

إعلان الثورة هذا جاء بعد التوضيح الدؤوب والملح لمختلف أبعاد هذه العملية: فأنا لن أكون أنا، ولن أكون أنت، وأنت لن تكون أنت، ولن تكون أنا، ولن يكون الحب من دون حرية… والحرية تستدعي الثورة. هكذا بوضوح حازم ونهائي. وعدا ذلك تهويمات وتدوير بائس للزوايا وخداع للذات ومواصلة القهر باسم الواقع والعقلانية أو التدين الشكلي والأخلاق والعادات والتقاليد الاجتماعية! في ظل ذلك كله لن تجدني، لأنني لا أجد ذاتي، ولهذا سأستمر «أبحث عندك عني» ص 123 وسأواصل البحث عنك عندي: «… في رماد الغيم… في قشعريرة الخريف … في التساؤلات المعلقة… أراك في البعيد البعيد…» ص 127 . في هذه الحالة سأواصل البحث والركض وراء الحلم. وراء الصورة المتخيلة، إلى أن تأتي اللحظة المناسبة التي ستكون فيها مستعداً للثورة معي. وحتى ذلك الحين سأواصل تصليب ذاتي وتحصينها. سأحمي الحلم. هنا تقف غدير بصورة ما عند النقطة ذاتها التي عناها درويش في «أكل أو سرق الثعلب من برجي حمامة… سوف أرثيها وأحمي البرج… لكن لست أستعجل ميلاد القيامة!»، ولهذا فهي لا تمل الانتظار. لكنه الانتظار الفاعل وليس الساكن:

« أصغي إليك بكامل أنوثتي وأبتعد عنك بكامل شقائي» ص 130 وفي اللحظة ذاتها تلح ولا تساوم على المبدأ: « أنا لا أسمعك حاول قليلاً أن تخفض صوت الغياب… أو تكلم لعلي أسمعك، لعلي أراك» ص 134 . فقط حاول أن تحضر، أن تكون، فغيابك من معادلة الصراع والثورة يطيل المعاناة لا أكثر… وإن شئت أكثر من ذلك فتكلم، فقد أسمعك. بل وأكثر من هذا سأحاول أن ألاقيك في منتصف الطريق أو أبعد من ذلك، فقط حاول … حاول… ولن أمل الانتظار! والهدف هو ذاته: «دعنا نخترع لغة أخرى نحيي فيها لون الربيع… دعنا نكتب قصائد ثورة لنطعم جياع الأرض رغيف عشق… دعنا نحلق بريش فينيق … نبعث رماد الأرض… نزرع السماء بالأغاني والأمنيات» ص 140 .

نداء آت من الأعماق، من وعي مرهف لطبيعة البديل عن واقع مأزوم ومهموم ومستلب. واقع يغيب فيه ضجيج ألوان الحياة. واقع رمادي كئيب. ولهذا ندائي إليك أن نحيي معا لون الربيع. لكن ذلك لن يكون بلا ثورة، ثورة هدفها إعادة النبض لكل من يحلم بحب حقيقي على وجه هذه الأرض، حب يرتقي في أهميته وقداسته واحترامه إلى مستوى رغيف الخبز، حب يملأ عمرنا وحياتنا بفيض من بهجة وأغنيات واحترام وأمنيات جديدة. فلا أريدك كي تستوطن «صحراء قلبي» بل أريدك لقلب يضج بالأغاني، وحرية الحب وحرية الاختيار. أريدك وأنا أملك ذاتي وأعيها.

حتى ذلك الحين، حين الثورة، سأبقى « أغني لك بكبرياء امرأة بصوت امرأة…» ص 151 . وفي غمرة الانتظار سأذهب لذاتي و«كل صباح أمزق صفحة عام وعام أرقب تبدل التواريخ ألون الفصول… أتذكرك… فأسقط مثل ورقة الخريف» ص 156 وفي الربيع القادم سأنمو من جديد وأواصل البحث عنك وانتظارك… لن أترك الراية فذلك هو ما يعطي حياتي معنى ملوناً كالفراشات.

كاتب وباحث وقاصّ فلسطينيّ

المصادر:

– عبد الرحيم العطري، مقدمة في سوسيولوجيا الأدب، الحوار المتمدن – العدد: 1716 – 2006 / 10 / 27.

– محسن بو عزيزي، السيمولوجيا الاجتماعية، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.

– فراس سواح مدخل إلى نصوص الشرق القديم 2006 دار علاء الدين- دمشق ص 15.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى