حزب الله في مرحلة انتقالية 1

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

غريبٌ أمر بعض الإعلام، والأغرب أمر بعض المراكز التي يقولون عنها «مراكز أبحاث»، إذ تطلع إلى الملأ أحياناً بتقارير لم «تبحث» أبداً في المعطيات التي يمكن أن تستند إليها لصوغ تلك التقارير. فتراها تبني متون تقاريرها على ما اشتغلت «المطابخ الاستخباراتية السوداء» على ترسيخه في العقول، لا على حقائق وثوابت يمكن أن تستقيها من الواقع مباشرةً عبر التحقيقات الميدانية.

ومناسبة هذا الكلام، تقرير ـ ننشره في جزءين ـ صدر عمّا يسمّى مركز «برنت سكوكروفت للأمن القومي» في المجلس الأطلسي، وكتبه كل من دانيال بايمان وبلال صعب، وفيه يرسم الكاتبان سيناريو ـ وربما أكثر ـ لمستقبل حزب الله، خصوصاً بعد مشاركته في الحرب ضدّ الإرهاب، جنباً إلى جنب مع الدولة السورية، أو ما اصطلح على تسميته «النظام السوري».

وربما تتمثل نقاط الضعف في هذا التقرير، بالبناء على ما رُسّخ في أذهان البشرية حول الحرب الدائرة في سورية. إذ اعتبر التقرير أن ما جرى في سورية ثورة، تحوّلت إلى ثورة مسلّحة بسبب «تكتيكات الأسد الوحشية». علماً أنّ كلّ عاقل في أرجاء هذه المعمورة، صار يعرف أن ما جرى في العالم العربي ليس ربيعاً إنما نتيجة خطّة جهنمية طُبخت في أروقة البيت الأبيض وبعض الدول الأوروبية، وكان اللوبي الصهيوني والمحافظون الجدد عرّابيها.

ثمّ أنّ التقرير بنى حيثياته على خطأ فادح، إذ اعتبر أن مشاركة حزب الله في قتال المجموعات المتطرّفة، سببه حماية النظام السوري، علماً أن العالم أجمع، أجمع على خطر الإرهاب المتمثل في تلك المجموعات المتطرّفة، وشكّل مؤخّراً حلفاً دولياً للقضاء عليها.

كما اعتمد التقرير على ما اعتبره حقيقة مستقبلية ثابتة: سقوط النظام السوري وانهياره، معتبراً هذا الانهيار، نقطة هامة سترسم مصير حزب الله في المنطقة، إلا أن الحقيقة الفعلية تقول، أن الدولة السورية ـ النظام ـ لم تنهار بعد حرب ضروس ـ عسكرية وإعلامية ـ مستمرّة منذ أربع سنوات.

أما الحقيقة التي ابتعد عنها الكاتبان، والتي روّجا لعكسها في التقرير، أنّ حزب الله يستمدّ قوّته من الوجود الشيعي في لبنان، لكن ما غفل عنه الكاتبان ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ أن لحزب الله محبّين ومناصرين ومؤيّدين من الطوائف اللبنانية الأخرى ومن العلمانيين والنخب الثقافية، أكثر بكثير نسبياً من الطائفة الشيعية.

وأخيراً، يدّعي الكاتبان أنّ «تورّط» حزب الله في الحرب السورية، جعله يخفّض من أولوية قتال «إسرائيل»، وفي هذا نقول، إن حزب الله يعرف تماماً متى يبدأ المعركة مع «إسرائيل»، ومتى يترك الصهاينة وحلفاءهم يرتاحون قليلاً.

كُتب هذا التقرير ونُشر طبقاً لسياسة الاستقلال الفكري للمجلس الأطلسي.

أنشئت مبادرة الأمن والسلام في الشرق الأوسط عام 2012 كمصدر رئيس للدراسات في مركز «برنت سكوكروفت للأمن القومي» في المجلس الأطلسي، السلام في الشرق الأوسط، ومبادرة الأمن التي يجتمع حولها قادة الفكر والخبراء السياسيون، الأعمال، ومؤسّسات المجتمع المدني لوضع استراتيجيات مبتكرة لمعالجة التحدّيات الحالية والمستقبلية في المنطقة.

هزّت الانتفاضات العربية، ردّ الفعل السلطوي، انهيار الدول، وسلسلة الحروب الأهلية، في الشرق الأوسط وأصابته في الصميم. انهارت التحالفات القديمة وأخرى جديدة بدأت. برزت الطائفية بقوة أكثر من المظالم التي طاولت الشعوب العربية نتيجة الحروب العربية ـ «الإسرائيلية»، وجهات فاعلة غير شرعية كـ«داعش»، أصبحت هي المؤثر الأكثر بروزاً على مستوى أجندة المنطقة.

الهزّات التي تصيب المنطقة غالباً ما تضرب لبنان بقوّة، ولم تكن الكارثة الأخيرة لتكون استثناءً. فقوس الأزمة الواضح الممتدّ من ليبيا إلى العراق والذي يصيب حزب الله اللبناني بشكل خاص، يشكّل العامل الأقوى والأكثر تعقيداً في البلد. فلطالما كان موقع حزب الله في لبنان مرناً وإيجابياً إلى حدّ بعيد: معارضته «إسرائيل» وإثباته قدرات جيشه الذي أسّسه علاقاته مع الجهات الأجنبية الراعية له أي إيران وسورية وموقعه السياسي والاجتماعي القويّ في لبنان نفسه. فقوّة حزب الله التي تشكّل مزيجاً من قوّة المال والأداء، مكّنته من فرض وجوده على المجتمعات الأخرى خارج إطار الطائفة الشيعية، التي أصبحت هي المسيطرة في لبنان، وتصنّف نفسها كلاعب إقليمي هامّ.

كلّ هذه الوقائع تخضع لتغيير شامل الآن. فالصراع السوري لا ينفكّ يمارس تحويلاً على حزب الله. وهي خطوة حاولت تخطّي الطائفية لتضع حزب الله في خيمة النظام السوري، لتجعل منه فزّاعة تخيف المجتمع السنيّ. وفي الوقت عينه، فإن تورّط حزب الله العميق في الحرب السورية، دمّر موقعه اللبناني إلى حدّ استثارة التساؤلات والاستفسارات وسط المجتمع الشيعي نفسه. في حين تلاشى الصراع مع «إسرائيل» وأصبح أسير الأدراج على رغم الخطابات الكثيرة ضمن هذا الإطار.

والسؤال حول مستقبل حزب الله يعتبر المفتاح الرئيس في ملف استقرار المنطقة، كذلك للولايات المتحدة وشركائها. فالحرب الأهلية في لبنان مرشّحة للاشتعال مجدّداً إذا ما استمرّت الطائفية في النموّ، وإذا ما استمرّت الحرب السورية تلقي بتبعاتها السلبية. وقد أثبت حزب الله أن دوره كان فعّالاً في استمرار بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم، كما ساهم أيضاً في تغيير طبيعة المعارضة السورية، تقوية الجهاديين الذي يمجّدون طائفتهم ودينهم ويرون في حزب الله عدوّهم الرئيس. فلطالما اعتبرت «إسرائيل» أن حزب الله هو أخطر جار يتموقع على حدودها، فضلاً عن تقديرها أن قدرة حزب الله على القتال قد تلاشت ما يعزّز من أمن «الدولة اليهودية». وتكمن المفارقة في أن الولايات المتحدة وجدت نفسها تقف مع حزب الله في الخندق عينه لمحاربة «داعش»… غير أن كلّ هذه الوقائع والمقاربات لم تلبث أن تتغيّر بسهولة.

ما يتبقى من هذا المقال يلقي الضوء على كيفية تنقل حزب الله بين الوحول الكثيرة في الشرق الأوسط، وتداعيات مقارباته السياسية الجديدة. فالقسم الأول يقيّم وضع حزب الله في لبنان. بينما يعرض الجزء الثاني لتطوّر علاقات حزب الله مع كلّ من سورية وإيران، كما مع جيرانه الإقليميين. أما القسم الثالث، فينظر إلى نشاطات حزب الله وقدراته العسكرية، سواء في سورية أو في ما يتعلّق بمعركة قريبة مرتقبة مع «إسرائيل». أما القسم الأخير فيحلّل الآثار المترتبة على تنامي دور حزب الله وتداعيات ذلك على الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

يشكر المؤلفان خبراء حزب الله الدوليين الذين شاركوا بشكل يومي في المؤتمر الذي عُقد بالتعاون مع مركز «برنت سكوكروفت للمجلس الأطلسي ـ قسم الأمن العالمي» ومركز «بروكينغز لسياسة الشرق الأوسط» في 30 أيلول 2014. ولأن هذا المؤتمر اكتسب شرعية في ظلّ حكم تشاتهام، فإن مداخلات المشاركين ومساهماتهم بقيت طيّ الكتمان. ولا تعكس آراءهم هذه وجهة نظر المركز بأيّ شكل من الأشكال.

التحديات في لبنان

أعلنت وفاة حزب الله مرات عدّة منذ نشوئه في الثمانينات من القرن الماضي، غير أن هذا الحزب الشيعي نجح في خوض غمار الكثير من التحدّيات: ثلاث صراعات عسكرية عنيفة مع «إسرائيل» أعوام 1993، 1996، و2006 اغتيال « عدد من قادته الرئيسيين على يد «إسرائيل»، مثل الشيخ راغب حرب عام 1984، عباس الموسوي عام 1992، عماد مغنية عام 2008 ، وقد لا تكون مصادفة أن يُغتال هؤلاء الثلاثة في شباط انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005 حرب استخباراتية لا هوادة فيها وكذلك حرب مكافحة التجسّس أزمات سياسية متعدّدة واجهته في بيروت والمحكمة الدولية التي تحقق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري والتي وجّهت اتهامات رسمية لأربعة من عناصره.

كيف نجح حزب الله في الوقوف في وجه كلّ هذه العواصف وما يعتمل فيها من عوامل داخلية وخارجية، بما فيها القيادة، الانتظام والتماسك المؤسّساتي، السياسة العنيفة والتكتيكية، تدريب عالي المستوى، وبالتأكيد، الدعم الإيراني والسوري. لكن كلّ هذا لا يكاد يُقارن بالدعم القويّ للحزب من جمهوره الشيعي. وعلى عكس الكثير من الجهات غير الرسمية الفاعلة في المنطقة، فإن حزب الله يتمتع بقاعدة محلية من حوله تهتمّ به وتدعمه بقوّة. فهذه المنظمة قد وضعت في صلب أولوياتها تفعيل علاقات جيدة مع الشيعة اللبنانيين، باعتبار أن مثل هذه العلاقات ستكون بمثابة الحجر الأساس والنهائي لخطوط دفاعاتها.

ومع ذلك، لم يكن حزب الله تحت ضغط مماثل لما هو عليه الآن. فأمين عام الحزب السيد حسن نصر الله وبعد تدخله في سورية لدعم نظام الرئيس بشار الأسد، وضع حزبه وجمهوره في مسار تصادمي مع السنّة المعتدلين والمتطرّفين على حدّ سواء في لبنان كما في سورية والمنطقة ككلّ. ويمثل هذا الإجراء مخاطرة كبيرة لحزب الله وجمهوره بسبب التركيبة السكانية في المنطقة التي لطالما عملت بشكل معاكس للطائفة الشيعية. فحتى أعتى أنصار حزب الله من الشيعة اللبنانيين يفضلون العيش بسلام مع جيرانهم السنّة، على أن يجرّ هذا الصراع المنطقة إلى مجاهل لا يستطيع أحد ضبطها أو التكهّن بنتائجها.

على نصر الله أن يتساءل عما إذا كانت مقاربته الحرب السورية قد جاءت بنتائج عكسية. فهؤلاء الإسلاميين المتطرّفين، استطاعوا اختراق عقر دار حزب الله وأن يعيثوا فيه دماراً وفساداً، وذلك ردّاً على تدخله العسكري في سورية. وأكثر من ذلك، فالسنّة المتطرفون أنفسهم الذين كان يأمل نصر الله محاربتهم في سورية، قد يضطرّ إلى مواجهتهم في لبنان خوفاً من تحويله إلى عراق آخر، في بلد يموج بالاحتقانات المذهبية السنيّة الشيعيّة. ووفقاً لهذا السيناريو المحتمل، فإن حزب الله سيكون هو الخاسر الأكبر إذ ستحوّل الحرب الأهلية اللبنانية اهتمامه عن النضال في وجه «إسرائيل».

لكن لا يجوز المبالغة في الحديث عن توترات تسود صفوف حزب الله. فالمشاعر الشيعية الغالبة في لبنان لا تزال موالية لحزب الله، مع أن البعض من جماهيره يطرحون تساؤلات حول الفائدة من المجازفة بكلّ شيء لمساندة نظام غير مستقرّ و«قاتل». ستستغرق هذه المعارضة الشيعية وقتاً طويلاً قبل أن تتمكن من زعزعة سيطرة حزب الله على جماهيره. فبعد كلّ شيء، يؤمّن حزب الله لقاعدته الشعبية منذ عام 1982، الرعاية الاجتماعية والسلع الغذائية والتجارية، الأمن، الأصوات السياسية، والشعور بالقوة، فضلاً عن عدم وجود حركة قوية منافسة له في مناطقه. وقد يكون العامل الأكثر إلحاحاً في لجوء حزب الله للقتال إلى جانب الأسد، هو اعتماد «داعش» سياسة العنف، وذبح الأقليات، ليجعل المشهد يبدو على النحو التالي: «إما أن نقتل أو نُقتل». فحزب الله لا يسعى إلى زيادة شعبيته، بل إن جمهوره الشيعي كما غيره من اللبنانيين بدأوا يصابون باليأس لكن، ومع كلّ تفجير يحدث، وكل روح شيعية تستشهد في بندقية غير «إسرائيلية»، فإن قاعدة الدعم الشيعية ستتضاءل وتضمحلّ.

قد تنهار علاقات حزب الله مع حركة أمل الشيعية والتيار الوطني الحرّ المسيحي نتيجة لتدهور الأوضاع في سورية ولبنان، وإمكانية انهيار النظام السوري. قد تقف حركة أمل إلى جانب حزب الله نظراً إلى عدم وجود بديل حقيقي للأمن، بينما قد يعيد التيار الوطني الحرّ حساباته مع حليفه الشيعي بسبب اختلاف قيمه ونظمه العقائدية. ومن ناحية أخرى، فقد يعمد بعض المسيحيين بمن فيهم مناصرو التيار الوطني الحرّ على تقوية علاقاتهم مع حزب الله، لأنهم يرون أنه الوحيد الذي قد يحميهم من خطر التمدّد الإسلامي المتطرّف، نظراً إلى ضعف بنية الجيش اللبناني. وما لم يتوفر للتيار الوطني الحرّ حوافز أمنية وسياسية بديلة من السعودية ودول الخليج العربي، سيكون من الصعب على قائد هذا التيار أن يفكّ رباطه شديد الوثاق مع حزب الله في وقت يتّصف بالحاجة وانعدام الأمن.

يفترض هذا التحليل أن انهياراً تدريجياً أو كاملاً للأسد أصبح أمراً حتمياً، لكن هذا لا يمنع بقاء الأسد مسيطراً على بعض المناطق السورية بما فيها دمشق. إنه جمود إلى أجل غير مسمّى سيكلّف حزب الله غالياً لكنه لن يحلّ مشكلة الامتداد السوري بل سيفاقم من حجم التوتر السياسي في بيروت، ويبقي لبنان ومناصري حزب الله الشيعة في مرمى هجمات «داعش». لكنّ هذا أيضاً لن يجبر حزب الله وإيران على اتخاذ قرارات جذرية وتنازلات صعبة.

تمدّد للدور الإقليمي؟

لن يتمكن حزب الله من السيطرة على السياسة اللبنانية من دون الدعم المتواصل من إيران وسورية، ومن دون بناء دولة داخل الدولة، ومن دون أن يصبح قوة إقليمية هائلة. غير أن العوامل ذاتها التي ساهمت في بناء قوة حزب الله على مرّ السنوات، حدت به إلى دفع تكاليف باهظة على مستوى القتلى، المصادر، السمعة، والمكانة السياسية في لبنان والمنطقة. فالتورط العسكري لحزب الله في الحرب السورية ما هو إلا مثال واضح على الارتباط الاستراتيجي العميق مع دمشق وطهران، والمستمرّ منذ سنوات طويلة، ما يمكن أن يشكل عبئاً كبيراً.

الصراع السوري هو التحدي الأكبر الذي واجهه حزب الله منذ بداية وجوده. وهو يدعو دوماً إلى حلّ سلمي لهذه الأزمة، لكن، ومع عسكرة الصراع الشعبي ودخول عناصر متطرّفة على خط المواجهة ـ «بسبب تكتيكات الأسد الوحشية» ـ لم يستطع الحزب أن يقف موقف المتفرّج. وبسقوط الأسد، سيخسر حزب الله داعماً رئيساً له من بلد لعب دوراً تاريخياً في السياسة اللبنانية. والأهم من ذلك، أن سورية هي الحليف الأقرب لإيران، التي ما انفكّت تطلب في مجالسها المغلقة رصّ الصفوف إلى جانب نظام الأسد.

ومع سقوط سورية، سيخسر حزب الله شرياناً حيوياً لتمرير الأسلحة من إيران وسورية. وتحّسباً لأيّ انهيار للنظام السوري أو تحوّل دراماتيكي سريع في سياق الأحداث السورية، فإن حزب الله بدأ بنقل مئات الصواريخ من مخازن الأسلحة في سورية إلى قواعده في شرق لبنان. فالخسارة المحتملة لمراكز الإمداد والتموين السورية ستنعكس سلباً في صراعه مع «إسرائيل». فالحزب استفاد كثيراً من خط العبور الاستراتيجي هذا إبان حرب تموز 2006، إذ كان يجدّد إمداداته بسرعة ما يعني أن فقدان الدعم السوري سيحدو بحزب الله إلى التمسّك أكثر بأسلحته الاستراتيجية الموجودة في حال لم يستطع الحصول على غيرها أو استبدالها… إلّا في حال استطاع الحزب أن يبني مع إيران خطّ إمداد آخر في موقع آخر، ومن المرجح أن يواجه تحدّياً جديداً في المستقبل المنظور، في إعادة تموين صواريخه وقذائفه.

لكن هل يُفترض بالأسد أن يرحل ـ أو هل على عزيمة معارضيه الجهاديين أن تنمو وتقوى ـ كما يحصل الآن ـ فالخطر الأكبر الذي يجب أن يتصدّى له حزب الله بشكل خاص ولبنان بشكل عام، هو التطرّف السني. فالجهاديون السنّة لن يقنعوا بالسيطرة على سورية، فقط بل سيمدّدون حدود انتشارهم لتطاول لبنان والأردن أيضاً، لتحقيق أهدافهم الأيديولوجية في القضاء على حزب الله وأتباعه من الشيعة. فقد هاجم المجاهدون السنّة المراكز الشيعية الحيوية في لبنان في مناسبات عدّة تفجير السفارة الإيرانية في 19 تشرين الثاني 2013 كان الحدث الأبرز والأكثر دموية . وأظهر الحزب، بالتنسيق مع الجيش اللبناني، مرونة واضحة في السيطرة على تهديدات الجهاديين على طول الحدود السورية ـ اللبنانية وفي مناطق مختلفة من الشمال اللبناني، وأجبروا عدداً منهم على الانكفاء والتراجع إلى داخل الأراضي السورية. غير أن المعركة لم تنتهِ.

لا يقف حزب الله موقف الغافل وغير العاقل مخاطر التدخل العسكري في سورية وتكاليفه. فقياداته تحتسب لذلك ما دام ميزان القوى يميل لمصلحة قوّات الأسد وما دامت الحدود السورية ـ اللبنانية مضبوطة إلى حدّ كبير. ومع ذلك، إذا تفاقمت الأوضاع في سورية، وازدادت قوّة المقاتلين الجهاديين وأيضاً تنظيمهم، ونأى الحلفاء الدوليون من روسيا وإيران بأنفسهم عن دمشق، ستكون تبعات انهيار النظام السوري لا تُحتمل على حزب الله. ولهذا، فمن الممكن أن يعيد الحزب حساباته في سياسته الدفاعية بهدف حماية مصالحه الأساسية، الحفاظ على سبل إمداداته العسكرية، البقاء على أهبة الاستعداد تحسّباً لأيّ جديد قد يطرأ على الجبهة المواجهة مع «إسرائيل»، ومساعدة إيران في حال تعرّضت لهجوم.

قد لا يصمد نظام الأسد. لكن ارتباط حزب الله بإيران سيبقى وثيقاً، علماً أنّ هذه العلاقة ستتغيّر تبعاً لتغيّر الظروف المحيطة. وعلى عكس علاقته البراغماتية مع النظام السوري، تستند علاقته العضوية مع إيران إلى ثقة عميقة ومصالح مشتركة. فحزب الله يتطلّع إلى توجيه أيديولوجي واستراتيجي من المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، الذي يعطي تعليمات لمؤسساته الاستخباراتية ووحدات النخبة العسكرية إلى إبقاء الترابط الوثيق مع قيادات حزب الله. فمما لا شكّ فيه أن هذا الحزب قد اكتسب المزيد من القدرة على الحكم الذاتي من إيران منذ الثمانينات، ويعتبر الآن شريكاً لإيران أكثر منه بديلاً، علماً أنّ الحزب لا يزال يعتمد على إيران في العمليات التدريبية، التسليح والتمويل. نحن لا نعلم الرقم النهائي، لكن من المرجّح أنّ التمويل السنوي الذي يتلقّاه حزب الله من إيران يتراوح بين 100 و200 مليون دولار أميركي. ما يدلّل على أن مثل هذه العلاقة ستبقى وثيقة بغضّ النظر عن تطوّر سياق الأحداث في سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى