يهوديّة الدولة

إبراهيم علوش

يمكن أن يقودنا الحديث الدائر اليوم عن رفض ما يسمى «يهوديّة إسرائيل» في اتجاهين، اتجاه تسووي تفريطي، وآخر جذري مقاوم. فهناك من يجعل مناهضته ليهودية دولة «إسرائيل» مدخلاً للتأكيد على مطلب «دولة لمواطنيها كافة» أو «الدولة ثنائية القومية»، باعتبار ذلك رداً على الهوية اليهودية الصافية لدولة «إسرائيل». وهذا البرنامج يعني فعلياً: 1 نفي الهوية العربية عن فلسطين، باعتبارها لمواطنيها كافة من غزاة وغير غزاة، أو ثنائية القومية، عربية ويهودية، 2 المطالبة بالتعايش مع الغزاة في فلسطين تحت عنوان «حقوق المواطنة»، وهنا تصبح «مقاومة التمييز العنصري»، لا التحرير، إستراتيجيتنا الأساسية، 3 تبني الوسائل السلمية في النضال، بالأخص تلك التي تضم «تقدميين يهوداً» أو «أمميين!».

لكنّنا لا يجوز أن ننجرّ بخفةٍ وطيشٍ للمطالبة بالتعايش، وبحقوق «أقلية» على أرضنا، وبتقبل الغزاة لنا، لأن الصهاينة قرروا تبني برنامج «يهودية الدولة». بل يجب أن نصرّ على برنامجنا الأصلي، وهو الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدّل الذي يقول ببساطة إنّ فلسطين عربية من البحر إلى النهر، وإن اليهود فيها غزاة، وإنها لا تحرّر إلا بالكفاح المسلح. فالرد على خطاب «يهودية الدولة» لا يكون بتبني خطاب رث من نوع: «نرجوكم ألاّ تهمّشونا في دولة «إسرائيل!»، و»نرجوكم أن تفسحوا لنا حيزاً صغيراً على أرضنا التي تحتلونها!»، حتى لمن يريدون التفاوض، ويريدون دويلة سخيفة، باتت اليوم غير ممكنة أكثر فأكثر، في حدود الـ67…

تصاعد خطاب «يهودية الدولة» وعلا تحديداً بعد احتلال العراق عام 2003، علماً أنه كان موجوداً قبل ذلك، ورغم أن «يهودية الدولة» هي الثمرة الطبيعية لـ»الدولة اليهودية»، ورغم أن «يهودية الدولة» هي الخطوة المنطقية التالية للحركة الصهيونية بعد مقولة «الوطن القومي اليهودي»، إلا أنّ الخطاب السياسي الذي تتبناه على نحو متزايد فئات أوسع وأوسع من اليهود الصهاينة، وغير اليهود من الصهاينة، لا يعكس خدعةً تكتيكية أو حبكة إعلامية عابرة، بل يعكس تزايد انتقال الجمهور الصهيوني إلى اليمين، ويعبر عن النزعة العنصرية المتأصلة في الفكر اليهودي الصهيوني، فكر «شعب الله المختار» و«أرض الميعاد»، بل أن «يهودية الدولة» هي النتاج التاريخي لفكرة «أرض الميعاد»!

بيد أن المشروع السياسي لا يمثل نزعة يمكن أن نتركها لعلم الاجتماع السياسي فحسب. فـ«يهودية الدولة» تمثل الجزء المكمل لمشروع «الشرق أوسطية». و«الشرق الأوسط»، كتعبير استعماري، يحمل كثيراً من المهانة لأبناء وطننا. فأنت لا تسمع من يقول عن أوروبا الغربية «الغرب الأوسط»، وعن أميركا الشمالية «الغرب الأقصى»!

لكن «الشرق الأوسط» كمشروع إمبريالي-صهيوني مشترك يصبح هنا مشروعاً ضرورياً لبقاء «إسرائيل» واندماجها في المنطقة من موقع فوقي، أي من موقع المهيمن الذي يحوّل بلادنا إلى إمبراطورية «إسرائيلية».

يقوم مشروع «الشرق الأوسط» على دعامتين:

الأولى، نفي الهوية المشتركة للمنطقة، وإبراز النزعات الطائفية والعرقية والمناطقية في بلادنا باعتبارها قضايا «حق تقرير مصير» تتطلب الانفصال وتشكيل دويلات خاصة بها، من العراق إلى السودان، ومن سورية إلى ليبيا، ومن الجزائر إلى اليمن.

ففي بيئة من هذا النوع، يصبح وجود «إسرائيل» طبيعياً، بل مرغوباً، أما إذا كان هذا الجزء من العالم هو العالم العربي، لا «الشرق الأوسط»، فإن «إسرائيل» لن تصبح دولة طبيعية مقبولة فيه يوماً.

الثاني، تفجير الصراعات والنزاعات، خاصة النزاعات الطائفية، وفي مقدّمها الصراع السني-الشيعي في بلدان المشرق العربي، وهنا نصل إلى بيت القصيد، لأن «يهودية الدولة» هي المتمم الطبيعي للدولة السنية والشيعية والدرزية والمسيحية، إلخ… واليمين الصهيوني الداعي إلى نقاء «الدولة اليهودية» وصفائها هو المتمم الطبيعي لدعاة الدولة المذهبية العربية، بغض النظر عن نوع مذهبها، ولدعاة الانفصال على أسس عرقية من دارفور إلى كردستان، خاصة أن الحركة الصهيونية تقدم نفسها كحركة قومية-دينية، لا كحركة دينية فحسب.

اللافت أن القاسم المشترك بين دعم «الدولة اليهودية» ودعم الحراكات الطائفية والانفصالية في العالم العربي كان هنري برنار ليفي، القائد العام لما يسمى «الربيع العربي». ففي بيئة تزدهر فيها الدويلات الطائفية المتعصبة، تصبح «يهودية الدولة» تحصيلاً حاصلاً، ويصبح من الطبيعي أن يكون نتنياهو واليمين الصهيوني من أكبر مؤيدي إسلامويي «الثورة السورية»، والإسلام منهم براء.

نذهب الآن في اتجاه إعادة هيكلة إستراتيجية للوطن العربي لخلق حزام جغرافي – سياسي يمنع تمدد نفوذ روسيا والصين الصاعدتين في مواجهة الناتو والولايات المتحدة الأميركية. وقد طُرح مشروع إعادة فك المنطقة وتركيبها منذ أمدٍ بعيد، كما نلاحظ في وثيقة «كيفونيم»، ووثيقة «كارينجا» قبلها، ومشروع المستشرق الصهيوني برنار لويس، أما التبني الفعلي لهذا المشروع كاستراتيجيات عملية لتحديث اتفاقية «سايكس-بيكو» التي قسمت المشرق العربي، فتبلور مع مجيء بوش مع فريق المحافظين الجدد للحكم عام 2000، وقد وضع المحافظون الجدد أنفسهم وثيقة «بداية جديدة» لنتياهو لإسقاط الأنظمة في سورية وليبيا والعراق وغيرها، وضرب المقاومة اللبنانية والفلسطينية، في عام 1996، قبل حوادث 11 أيلول بأمدٍ بعيد.

إذا كان جورج بوش قد جرب تطبيق ذلك المشروع عبر «الحرب على الإرهاب» مباشرة، ومن فوق، وبالقوة، وبشكل أحادي، ففشل، فإن مرحلة أوباما تمثل مرحلة التحول لتطبيق المشروع نفسه عبر «الحرب الديموقراطية»، على نحو غير مباشر عامة، ومن تحت، وبالقوة الناعمة، وبشكل غير أحادي، خاصة بعد إعادة إحياء التحالف الناتوي مع الإسلامويين الذي كان قد فُصم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، فجاءت إعادة إحيائه في خطاب أوباما المشهور في القاهرة عام 2009، ويحكي لنا «الربيع العربي» بقية القصة…

في هذا السياق تحديداً يمكن أن نفهم مسالة الإصرار على «يهودية الدولة»… وعدم وجود فرق حقيقي بين معارضيها ومؤيدها في الكيان الصهيوني كما تتجلى في رفض عودة اللاجئين لدى ليفني ولابيد وبقية النخبة الصهيونية الحاكمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى