صباح 1927 ـ 2014 … الحياة بملئها

هي أكثر من سيرة في حياة واحدة. فثمّة للغائبة الكبيرة سيرة الفنّ، أغنيةً ومسرحاً وأفلاماً، وثمّة السيرة الخاصّة التي شغلت الناس طوال عقود، منذ الطفولة الحالمة والقاسية في آن واحد، إلى الشباب البهيّ والنضر الذي غرفت منه السينما المصريّة واللبنانيّة إلى أقصى درجات الارتواء، إلى غزارة الإنتاج غناءً ومهرجانات وأعمالاً متوالية على خشبات المسرح الغنائيّ، إلى أخبار «الزيجات» المتعدّدة والمتعاقبة بين حبّ وشغف ونزق وفشل وهوى موسوم بالجموح إلى حافّة الهاوية، وأحياناً إلى الوقوع في جوف المأساة.

صباح حياة غنيّة بما لا يقاس، غزيرة المحطّات والتفاصيل، حياة تداني أساطير البشر الخارقين لا العاديين، ذات ملامح من التراجيديا الإغريقيّة، ومن شخوص المسرح الشكسبيريّ الذي غذّته تلك الأساطير. حياة صباح تأرجحت باستمرار بين حدّي السعادة والألم، النجاح الفنيّ والفشل العائليّ، القوّة والضعف… لكن الأهمّ بالمطلق ما أنجزته صباح فنّاً باقياً، إن تراثيّاً فولكلوريّاً اشتهرت به، أو طربيّاً أبدعت فيه، أو رومانسيّاً أشعلت به الأفئدة والمشاعر.

صباح حبّة تسقط من عنقود الكبار الذين لم يبق منهم كثر، من سلالة فنّية أصيلة قلّما يجود الدهر بمثلها إلاّ كلّ بضع مئات من السنين، وسينتظر عشاق صباح وقادروها الكثر زمناً طويلاً قبل مجيء «أسطورة» تشبهها بالأصالة والفرادة والذكاء الفطريّ الخارق.

ج.ك

كتب محمد سمير طحّان من دمشق سانا : مثلما كانت على الدوام صباح الأغنية العربية، ورفيقة الأمل والحب والتفاؤل، غابت مع صباح أمس الأسطورة التي شغلت الناس على مدى أكثر من سبعين عاماً بأغانيها وأفلامها وجمالها وأناقتها وأخبارها الفنية والشخصية، عن عمر ناهز السابعة والثمانين، فكانت وتبقى المادة الدسمة لوسائل الإعلام، النجمة التي لا يمكن أن تنساها ذاكرة ستة أجيال من الجمهور العربي.

جانيت فغالي أو الشحرورة كما أطلق عليها في ستينات القرن الفائت، فتحت أمامها أبواب الشهرة والمجد من خلال اكتشاف المنتجة آسيا داغر لها في بداياتها الفنية فتعاقدت معها على بطولة ثلاثة أفلام دفعة واحدة وأخذتها معها الى مصر، وكلّفت الموسيقار رياض السنباطي بتدريبها وتلقينها أصول الغناء العربي واكساب صوتها الجبلي القوي إمكانات جديدة لتؤدي أصعب الأغاني بأشكالها كافة.

في رصيدها 83 فيلماً سينمائياً بين مصري ولبناني وسوري و27 مسرحية لبنانية، حتى أنها شكلت ظاهرة فنية فريدة لدى الجمهور العربي، إذ لم تغب عن الساحة الفنية يوماً وشغلت وسائل الإعلام بتفاصيل حياتها، وكانت مصدراً ملهماً للأناقة والجمال من خلال حضورها الذكي وجمالها المبهر وأناقتها اللافتة، إلى جانب صوتها المميز الذي قيل عنه الكثير ولم يشبه أي صوت آخر، فهي لم تكن لتنافس غيرها من الفنانات فحجزت لنفسها مكانا في الصدارة لا يمكن لأحد أن ينوب عنها فيه.

نستذكر مع صوتها الباقي تلك المنافسة الجميلة التي اندلعت بين الموسيقارين الراحلين فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب على صوتها عندما لحن لها الأول أغنية يا دلع فغار الثاني ولحقه بأغنية عالضيعة ، والأغنيتان كتبتا باللبنانية المحكية.

تعتبر صباح التي قدمت نحو ثلاثة آلاف أغنية عبر مسيرتها الطويلة من أواخر نجوم الزمن الجميل. غنت على أشهر المسارح العربية من دمشق إلى القاهرة وبغداد وتونس فالرباط وغيرها، كما وقفت على أهم مسارح العالم، فهي من بعد كوكب الشرق أم كلثوم غنت على مسرح الأولمبيا في باريس مع فرقة روميو لحود الاستعراضية، وغنت في قاعة ألبرت هول في لندن، وفي دار الأوبرا في سيدني، وغيرها الكثير.

على امتداد سنوات مسيرتها الفنية ارتبطت فنانتنا بعلاقة وثيقة بسورية، إذ لم تتوقف على زيارتها الدائمة لها وحفلاتها المستمرة على مسارحها وعلى أغانيها التي شدت بها أمثال من الموسكي لسوق الحميدية، وعلى تعاونها الوثيق مع ملحنين سوريين مثل سهيل عرفة والراحل محمد محسن وسواهما، بل جسدته عندما صرحت للصحافة عام 2006 بأن القيادة في سورية تكفلت بعلاجها وابنتها مدى الحياة، وأكدت في تصريح آخر قبل سنة بأن سورية عصية على السقوط.

قدمت سيرة صباح الفنية والشخصية عبر مسلسل درامي عام 2011 حمل اسم الشحرورة وأدت كارول سماحة فيه دور صباح، لكنه لم يلق القبول الشعبي المتوقع فحضور الأسطورة وبقاؤها على قيد الحياة كان أقوى وأهم من أي عمل يمكن أن يقارب هذا الحضور، وخبر صغير عنها في المصح الذي أمضت فيه أيامها الأخيرة كان يلهب وسائل التواصل الاجتماعي ويملأ الشاشات ووسائل الاعلام المختلفة، فهل يمكن اليوم وقد كتبت الصفحة الأخيرة من أسطورة الغناء العربي أن يُنجز عمل فني يتماشى مع هذه المسيرة الحافلة بالعطاء والحوادث، والأهم أن يحمل القيمة الفنية والحب والأمل مثلما حملته الراحلة صباح دوماً.

« إمبراطورة الأغنية اللبنانية»

د. روبير أبو ديب أعدّ سيرة بليغة وشائقة في كتاب عن الراحلة الكبيرة استهلّها بالآتي: في سماء الفن تظهر بين الحين والآخر أسماء لا تخبو بسرعة، بل يزداد وهجها يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، وهذه الأسماء هي بالفعل الكواكب الحقيقية التي تظل مشعة لسنين طويلة. وتعتبر المطربة صباح في طليعة هذه الكواكب، إن لم نقل ألمعها على الإطلاق. فهي منذ ظهورها في سماء الفن تزداد وهجاً وضياء وتألقاً. من هنا كانت تسميتها أيضاً «شمس الشموس».

«شمس الشموس» أحد ألقاب صباح التي تملك دائماً أشياء كثيرة وجديدة، لأنها تجدد نفسها باستمرار، فمنذ 1943 وهي تتألق متربعة على عرش المجد والفن. إنها أول من أدخل الأغنية اللبنانية الى القاهرة عاصمة الفن العربي، وباللهجة اللبنانية عبر الأغاني الخفيفة والقريبة الى القلب، وهذا ما لم يفعله الآخرون من قبل.

لذا استحقت «الشحرورة» لقب «إمبراطورة الأغنية اللبنانية»، لأنها لم تكتف بما حققته في عالم الفن، إذ أن طموحاتها كبيرة وبلا حدود، لذلك نجدها في هذا البلد أو ذاك تغني، وتزرع الفرح والمحبة في كل مكان.

الغناء عند الإمبراطورة صباح لم يعد مسألة اطلالة وإشراقة على جمهور كبير منتشر في لبنان والبلدان العربية والأوروبية، تطربه بصوتها الساحر الذي يتلاعب بأوتار القلوب. تحول على مدى الأعوام الى شيء لا تعرف هي نفسها سرّه، امتزج بدمها فصارت إذا تخلّت عنه تشعر كأنها تخلّت عن الروح. وتجدر الإشارة الى أن الإمبراطورة صباح على مدى ستين سنة تعذبت وهي تشق طريقها الفني وحدها. أما نجاحها فقد تقاسمت ثماره مع كل من أحبها وشاطرها جهادها. كما أن اتصالاتها وعلاقاتها، التي أقامتها مع الناس، فقد حبكتها ووطدتها بمفردها أيضاً، هي العصامية الكبيرة.

إن ايمانها بالله كبير وتؤدي طقوسه على طريقتها. كما تؤمن، وبيقين مطلق، بأنها لن تعيش سوى مرة واحدة، لذلك تراها، رغم ما يعكر حياتها من هموم، فرحة لا سيما إذا قاسمها المحيطون بها سعادتها وشهرتها ومكاسبها. تدرك صباح جيداً أن الهموم مثل السوس تنخر كيان المرء. لذا هي تقاومها. تطرد طيور الحزن، والتعب، بسلاحها الخاص والمعروف: ابتسامتها.

وبعد، هنا لمحة موجزة عن أحد أعظم الأصوات في شرقنا العربي، إن لم نقل أعظمها على الإطلاق، كما هي لمحة عن حياة إحدى أجمل الفاتنات في عالمنا الفني الساحر إن لم نقل أجملهن فعلاً. إنها صاحبة ألطف شخصية، وأعذب ابتسامة وأكبر قلب.

في ليل العاشر من تشرين الثاني سنة 1927 أبصرت صباح جانيت النور في بدادون، وهي المولودة الثالثة في أسرة جرجي فغالي بعد جولييت ولمياء، لذلك لم تستطع الأم منيرة سمعان أن تقاوم دموعها حين علمت أنها وضعت بنتاً، لأن الأسرة كانت تريد صبيّاً. لم يكن يوم مولد صباح يوماً سعيداً. لم تنطلق الزغاريد، ولم تقرع الطبول، بل سيطر الحزن العميق على البيت. وقيل إن الأم امتنعت طوال يومين عن إرضاع الوليدة الجديدة، ولم تكن راغبة في النظر الى وجهها، ولولا حكمة عمها الشاعر المعروف أسعد الفغالي شحرور الوادي لما اقتنعت بوجوب إرضاعها. وحلّت مشكلة الأسرة التي كانت تنتظر الصبي بولادة شقيق صباح أنطوان.

شعرت جانيت بحنان الأمومة في أروع صورة يوم بدأت تعي الحياة وتدرك الأمور ومعاني الأشياء. وراحت تتدرّج على يد والدتها وتتشبع بعاداتها. كانت خفيفة الظل، مرحة، تعشق الفن، حتى أنها كانت تحضر الى المنزل أحد عازفي العود لكي يعزف أمام العائلة، ما جعل مواهب جانيت الفنية تتفتح وتتجه نحو الغناء. كانت الحياة في العائلة هادئة، فالأم تغدق عليها العطف والحنان بلا حساب، والوالد يهتم بزراعة قطعة الأرض التي يملكها في القرية، وبسيارته الفورد العمومية التي يعمل عليها السائق طنوس. غير أن هذا الهدوء هزّه مقتل الإبنة البكر جولييت في حادث إطلاق رصاص وقع في القرية، وكان سبباً لمغادرة صباح القرية الى بيروت والالتحاق بالمدرسة الرسمية أولاً ثم بمدرسة اليسوعية الجيزويت نزولاً عند رغبة عمها الشاعر شحرور الوادي الذي لعب دوراً مهمّاً في هذه الفترة من حياة صباح، فهو الذي عوّدها على قراءة الشعر، لا سيما قراءة أشعاره وزجلياته التي كان ينظمها باللهجة اللبنانية. ولاحظ أنها كانت تبكي من شدة التأثر عندما تقرأ هذه الأشعار والزجليات، أو عندما تغنيها بطريقة مؤثرة، فتنبأ لها بمستقبل باهر في عالم الغناء.

ظلت صباح تتذكر ذاك اليوم الذي ذهبت فيه مع عائلتها الى بلدة جل الديب لزيارة إحدى العائلات الصديقة. قالت لهم صاحبة البيت: «بالقرب من منزلنا كنيسة، كل من يدخلها للمرة الأولى ويطلب أمنية معينة تتحقق له». بهر صباح كلام صاحبة البيت وشغلها كثيراً. وبات همها أن تختصر إجراءات الزيارة وتقاليدها لتذهب الى الكنيسة وتطلب أمنيتها الأولى. انتهزت انشغال الجميع بتناول الطعام فتسللت بهدوء وحذر شديدين من دون أن يشعر بها أحد ودخلت الكنيسة. بكت وهي تصلي طالبة تحقيق أمنيتها الوحيدة: أن تصبح مطربة ناجحة ومعروفة.

العمل في الفن مهنة كانت الأسرة ترفضها، وتعتبر أن احتراف الغناء عيباً، خاصة أن جدها، كبير الأسرة، كان كاهناً هو الخوري لويس الفغالي، وخال أمها كان مطراناً هو المطران عقل. لكن يبدو أن الظروف كانت تتحرّك وتعمل لمصلحتها. إذ حدث أن قررت المدرسة تقديم مسرحية عنوانها «الأميرة هند»، ورشحت الراهبة المسؤولة عنها صباح لأداء دور البطولة فيها، وكانت صباح في الرابعة عشرة من عمرها، تلميذة محبوبة، مقربة من الراهبات تغني لهن من حين الى آخر فيطربهن صوتها.

راحت الراهبة تخفق لها يومياً خمس بيضات وتقول لها: «اشربي، فهذا سيفيد صوتك ويجعله قوياً رائعاً». صدقتها صباح وراحت تشرب صفار البيض المخفوق، وتشتغل بالبروفات والتمارين. كانت تجربتها الأولى، وللمرة الأولى تواجه الناس من فوق خشبة المسرح. الدور تمثيلي غنائي لا يتطلب فقط صوتاً جميلاً بل يستلزم أيضاً أداء تمثيلياً سليماً، ولم تكن تملك خبرة سابقة في هذا المجال. وتذكرت دعاءها في الكنيسة وأمنيتها التي تأمل أن تتحقق. وما ضاعف من ثقتها بنفسها أن بعض الذين حضروا تمارين المسرحية وشاهدوها تستعد لأداء دور الأميرة هند شجعوها، وبينهم المرحوم عيسى النحاس الممثل المسرحي القديم الذي اعتزل التمثيل لتقدّمه في السنّ، ثم أصبح بعد ذلك يعتمد تأجير الملابس المسرحية مصدر رزق شريف يبقيه قريباً من العمل الذي أحبه. أعجب النحاس بهذه الممثلة الناشئة فأحضر لها ملابس الأميرة هند وأطلق عليها لقب «الشحرورة» تيمناً باسم عمها شحرور الوادي. ويوم عرض المسرحية ذهب الى والدها بعد انتهاء العرض قائلاً له: «حرام عليك أن تجعلها تغني فقط على مسرح المدرسة، يجب أن تعمل وتغني في أماكن أخرى».

غضب والدها غضباً شديداً. تقبل فكرة اشتراك ابنته في الغناء في حفلة مدرسية تحت إشراف الراهبات، لكنه لن يسمح بتكرار ذلك في أماكن أخرى. وجاراه في الرأي جدها الخوري لويس، وخال أمها المطران عقل وبقية أفراد العائلة، غير أن الأم كانت الى جانب ابنتها. رغبت في تشجيعها، لكن برعاية العائلة وإشرافها. والحقيقة أن تشجيع أمها، والاستحسان الذي لمسته من راهبات المدرسة، كانا دافعاً قوياً لها للسير نحو الهدف الكبير الذي تسعى الى تحقيقه ولو كلفها ذلك حياتها. أضحت مشغولة بالفن الى حد الجنون.

حانت أول فرصة للغناء خارج المدرسة وفي مكان محترم هو مقر نقابة الصحافة. حاولت أمها المستحيل لإقناع أبيها وبقية الرافضين في الأسرة بأن الغناء في مثل هذا المكان ليس عيباً، وقالت لهم إن جانيت عندما تغني في هذا المكان فهي تغني أمام أصحاب الأقلام من الأدباء والكتاب الذين يقدرون الفن ويحترمون من يمارسه احتراماً كبيراً، ولن يكون في المكان سكارى أو رعاع. وافق الأب على أن تشترك ابنته في حفلة نقابة الصحافة التي أقامها نقيب الصحافة يومذاك روبير أبيلا. ولم تعرف جانيت كيف تسيطر على أعصابها ومشاعرها عندما وقفت أمام هذا الجمع الكبير من الصحافيين وأصحاب الأقلام. ومن شدة خوفها ضاع منها صوتها. ليس جمهوراً عادياً بل جمهور ناقد لا يرحم. ورأت دموعها تسيل على وجهها وهي واقفة على خشبة المسرح تحاول استعادة صوتها وثقتها بنفسها. في تلك اللحظة سمعت التصفيق. يبدو أنهم شعروا بحرجها البالغ فأرادوا تشجيعها وإنقاذها منه. وحينما شعرت بتعاطفهم معها وتشجيعهم لها، استعادت صوتها وبدأت تغني مواويل «بو الزلف والعتابا والميجانا» مما نظمه عمها شحرور الوادي. وكان تقديم هذه المواويل صعباً بالنسبة الى فتاة صغيرة في مثل عمرها. صفقوا لها مراراً، وشعرت بأنها نجحت في هذا الامتحان القاسي.

ذات يوم اتصل مدير إذاعة «صوت أميركا» كنعان الخطيب بوالد جانيت، وقال له إن صوت ابنته مبشر، خامة طيبة في حاجة إلى من يرعاها بالتدريب والتوجيه، إن جانيت خلقت لتكون فنانة. وكان واضحاً،اهتمامه بها وحرصه الدائم على توجيهها ولعب دوراً فاعلاً ومؤثراً في تلك الفترة من حياتها. شجعها على إجادة اللغة الانكليزية وعلى قراءة الشعر أيضاً. ويكفي أنه ساهم في إقناع أهلها بالتخلي عن تشددهم الزائد عن الحد. وكان من حسن حظها أنه سمعها مصادفة، وأحياناً يكون لمثل هذه المصادفات غير المتوقعة أثر بالغ في حياة الناس.

كانت جانيت تفكر في الوصول الى ميكروفون الإذاعة. إنه أسرع طريق وأضمن وسيلة للوصول الى الناس. لكنها كانت مصابة بعقدة نفسية من الميكروفون، إذ حدث يوم كانت في عمر الثانية عشرة أن تقدمت إلى امتحان في الإذاعة اللبنانية، وقالت اللجنة التي كان من أعضائها محيي الدين سلام والد المطربة نجاح سلام: لا تصلح، إنها لا تزال صغيرة السن ويمكنها أن تتقدم مرة أخرى للامتحان عندما تكبر. وكبرت، وأضحت في الرابعة عشرة، فوقفت مرة جديدة أمام لجنة الاستماع في الإذاعة ونجحت، لكن اللجنة كانت تودّ أن تسمع رأي ملحن كبير ومعروف يفهم ويميز طبيعة الأصوات ومزاياها وعيوبها، وكان هذا الملحن فريد الأطرش. لم تنم تلك الليلة. كانت تشعر بنوع من الزهو الخفي لكونها ذاهبة للقاء فنان كبير مثل فريد الأطرش. وأخيراً وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام الموسيقار الكبير. كادت تذوب خجلاً عندما صافحته، الآن سيتقرر مصيرها.

طلب فريد الأطرش أن يسمع صوتها. غنت وعيناها لا تفارقان وجهه الذي لم تظهر عليه أيّ علامات ارتياح. وبعدما انتهت من الغناء تطلع الجميع الى الموسيقار فريد الأطرش الذي أطرق قليلاً ثم قال: «بصراحة إنها لا تصلح أبداً. يجب أن تعود الى مدرستها وتواصل دراستها فهذا أفضل لها، لا، لا تصلح».

انهارت آمال الشحرورة، لكنّها أصرّت على الاستمرار في الغناء وثقتها بنفسها كبيرة، وكذلك إيمانها بأنها ستصل رغم رأي فريد الأطرش. وبدأ اسم الشحرورة يتلألأ، وبدأت الطلبات تتوالى عليها من كل صوب وارتفع أجرها.

محطّات حياة

منحتها المنتجة آسيا داغر فرصة عمرها، وأهدت الفن العربي جانيت لتشرق شمس صباح في عالم الفن، بعدما دربها على الغناء الملحن رياض السنباطي الذي وضع ألحان أول أفلامها القلب له واحد ، الذي تقاضت عنه 150 جنيهاً، بالإضافة إلى توقيعها على عقد فيلمين آخرين يزيد أجرها فيهما عن فيلمها الأول.

قدمت صباح نحو 85 فيلماً و27 مسرحية وما يزيد على 3000 أغنية، وكانت أغنية يا هويدا أغنيتها الأولى، وقدمت ثنائيات فنية مع عدد من الفنانين بينهم فريد الأطرش ومحمد فوزي. ورغم عذوبة صوت صباح وخفة ظلها في أغانيها المصرية التي ما زال أهل الفن والجمهور يحفظونها ويرددونها حتى الآن، إلاّ أن ثمة رأياً يقول إن صوت صباح الجبلي لم تظهر قوته سوى في الأغاني والمواويل الي غنتها باللهجة اللبنانية.

إحدى أشهر اغاني صباح في المرحلة المصريّة هي «من سحر عيونك» التي غنتها أمام شكري سرحان في فيلم «إغراء»، وتردد كثيراً أن الأغنية كانت تتغزل بها صباح الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر، وورد في المسلسل الذي تناول حياة صباح «الشحرورة» أنها غنت الأغنية أمام الجيش وعبد الناصر في إحدى احتفالات الثورة، رغم تحذير عبد الحليم لها بعدم غنائها، وهي الأغنية التي منعتها الإذاعة المصرية، وبحسب ما ذكر الناقد طارق الشناوي في أحد مقالاته فإن الرقيب على المصنفات الفنية آنذاك الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ اعترض على أداء صباح لكلمة «ياااه»، لافتاً إلى أنها غنتها «بمبالغة أنثوية» حتى اضطر ملحن الأغنية محمد عبد الوهاب إلى إعادة تسجيلها مرة أخرى، مع تخفيف حدة مبالغة صباح في نطق الكلمة.

منحها جمال عبد الناصر الجنسية المصرية، لكنه عاد وسحبها منها والواقعة التي روتها صباح للمؤلف أيمن سلامة وضمها مسلسل «الشحرورة»، مؤكدة أن الرئيس أنور السادات أعاد إليها الجنسية مرة جديدة.

اشتهرت صباح بتعدد زيجاتها والتي وصلت إلى تسع، ومن أزواجها نجيب شماس والد ابنها صباح، والنجم رشدي أباظة، والنجم أنور منسي والد ابنتها هويدا، وأمير عربي رفض أهله تلك الزيجة مشترطين لقبولهم أن تترك صباح الفن، وذاك ما لم تقبل به.

أوصت صباح الجميع بألاّ يحزن على رحيلها، إذ عادت إلى قريتها وإلى الأرض التي حبتها، مثلما ورد في الرسالة التي نشرتها ابنة شقيقتها كلودا على صفحتها على «فيسبوك».

رحلت بعد أيام قليلة من احتفالها بيوم ميلادها، ليصبح تشرين الثاني الشهر الذي شهد ميلادها والشهر الذي غابت فيه تاركة لنا إرثا فني سيجعلها خالدة.

شاركت صباح في العديد من المهرجانات الدولية مثل: بعلبك وجبيل وبيت الدين. ومن الأعمال المسرحية الغنائية التي قدّمتها: «موسم العز»، للرحابنة، بعلبك 1960 ،

«دواليب الهوا» للرحابنة، بعلبك 1965 ، «القلعة»، للرحابنة، بعلبك، «الشلال»، للرحابنة، «ست الكل»، لوسيم طبارة 1973 ، «حلوة كثير»، لوسيم طبارة 1977 ، «عصفور سطح،

«فينيقيا»، لروميو لحود، «شهر العسل»، لوسيم طبارة، «ست الكل»، «الأسطورة «. أما «كنز الأسطورة» فكان آخر أعماله المسرحية مع جوزف عازار وفادي لبنان وكريم أبو شقرا وورد الخال والأمير الصغير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى