قراءة في التحوّلات الجديدة في المشهد الدولي

زياد حافظ

في عصر الثورة التكنولوجية للتواصل والمعلومات تتكاثر الأحداث بشكل مكثّف ما يجعل التوقف عندها عملية غير سهلة لمن يريد متابعة ومراقبة المشهد الدولي. في هذا السياق نجد أنّ الإعلام الغربي بشكل عام والإعلام العربي بشكل خاص والنخب العربية لم يعطوا الأهمية الكافية لما حدث خلال الأسبوعين الماضيين في شرق آسيا. ونعني بذلك قمة دول المحيط الهادي التي عقدت في بكين في 10 و11 تشرين الثاني والقمة التي تلتها في بريسبان في 14 و15 تشرين الثاني في بريسبان في استراليا لمجموعة دول العشرين.

فماذا حصل خلال القمّتين؟ إذا قرأنا الإعلام الغربي المهيمن والذي تملكه مؤسسات كبرى فإنّ القمتّين كرّستا عزل الرئيس بوتين بسبب الملف الأوكراني. أما إذا قرأنا الإعلام الآسيوي فنرى صورة مختلفة كليّا. إنّ أهمّ ما يمكن استخلاصه من القمّتين هو تكريس تراجع نفوذ الولايات المتحدة في آسيا بما يهدّد بشكل جدّي نظرية «التحوّل إلى المحيط الهادي». فما هي الدلائل على ذلك؟

أولا، ما حصل في قمة بكين وقبلها وبعدها هو تكريس النفوذ الصيني في آسيا عبر سلسلة من الإجراءات قامت بها حكومة بكين قبل عقد القمة ثم تثبيت وتعميق التحالف الصيني الروسي. فالإجراءات التي اتخذتها الصين شملت الدول الآسيوية المتحالفة مع الولايات المتحدة والتي كانت تريد هذه الأخيرة أن تجعلها جزءاً من حزام سياسي واقتصادي وأمني يحاصر الصين. فقبل قمة بكين وثّقت الصين علاقاتها الثنائية مع كلّ من كوريا الجنوبية وماليزيا واندونيسيا والفيليبين ففتحت لها أبواب أسواقها التجارية عبر رفع سعر صرف الرنمنبي أو اليووان العملة الوطنية الصينية لجعل المنتجات الآسيوية أكثر تنافساً من المنتجات الصينية وذلك في السوق الصيني نفسه. إنها نوع من الهدية لتلك الدول التي تطمح أن يكون لها حصة في السوق الصيني. وهذه الهدية تحيّد الكثير من التعبئة العدوانية التي كانت تحرّض بها الولايات المتحدة ضدّ الصين عند تلك الدول إما عبر إثارة المخاوف من الصين وإما عبر إيهامها بأنّ الضغط على الصين سيضعفها. وهذا يعني أيضاً أنّ السوق الصيني أصبح يقترب حجماً من السوق الأميركي، وهذا قد يجعل الاعتماد على السوق الأميركي للصادرات الصينية في مرحلة تراجع. هذا يعني أنّ الصين لن تكون في مرحلة مقبلة حاملة لسندات الخزينة بنفس الكمية والقابلية، وبالتالي لن تكون مصدراً لتمويل العجز في الخزينة الأميركية. نذكّر أنّ الصني تحمّل ما يوازي 1،3 تريليون دولار من سندات الخزينة الذي يقارب 17 تريليون دولار!

أما الإجراء الثاني الذي اتخذته الصين فهو فتح الأسواق المالية الصينية للتداول مع الدول الآسيوية بالعملات الوطنية وليس بالدولار الأميركي. ويشكّل في رأينا هذا الإجراء تحوّلاً استراتيجياً كبيراً إذ يكسر الاحتكار والهيمنة الأميركية عبر الدولار في التدوال التجاري والمالي في العالم. فقوة الولايات المتحدة حتى هذه الساعة لا تكمن لا في قوّاتها المسلحة ولا في اقتصادها بل في تحكّمها بالأنظمة المالية العالمية وبوسائل الدفع عبر السيطرة على شبكات التحويل المالي. فالضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على كل من ينافسها أو يتحدّاها فتتحوّل إلى عقوبات خانقة بسبب التحكّم في وسائل المدفوعات والتحويلات المالية هي مصدر نفوذ الولايات المتحدة. ونذكّر هنا بأن الضغط الأميركي على المصارف السويسرية واللبنانية لفتح دفاترها للولايات المتحدة يعود إلى تحكّم الولايات المتحدة بنظام وشبكات التحويل المالي. نلفت النظر إلى أنّ التعامل بالعملات الوطنية متجنبة الدولار بدأ منذ فترة، فحجم التعامل بين الرنمنبي والروبل زاد عام 2014 بأكثر من 800 بالمائة!

ثالثاّ، إنّ قصر نظر الولايات المتحدة في سياساتها التهديدية وحتى العدوانية ضدّ كلّ من الصين وروسيا دفع الدولتين إلى توثيق العلاقات بينهما. فالصفقة الجديدة التي عقدتها الصين مع روسيا بقيمة 400 مليار دولار لتزويدها بالغاز جعل من روسيا المصدر الأول للحاجيات الغازية في الصين. ونتيجة جملة الاتفاقات التي عُقدت بين الصين وروسيا تجعل من روسيا تغطّي ما يقارب 20 بالمائة من حاجات الصين بحلول عام 2020. واعتبر البعض أنّ هذه الصفقة صفعة للولايات المتحدة بعد كلّ تهديداتها الفارغة ضدّ كلّ من الصين وروسيا. هذه الصفقات كانت الردّ الاستراتيجي على محاولات ضرب القطاع الغازي في روسيا وفي تهديدها بخسارة السوق الأوروبي عبر الغاز القطري المزمع تصديره لأوروبا عبر سورية. من هنا نفهم الأسباب الاستراتيجية للموقف القطري تجاه سورية فروسيا هي المستهدفة ومن هنا نفهم الموقف الروسي من الأزمة السورية. ونضيف هنا أنّ عقد الصين لذلك الاتفاق مع روسيا يأتي للاستفادة من شبكة الأنابيب التي ستبنى وتجعل كلّ من الصين وروسيا بمأمن من النقل البحري الذي تتحكم به الدول الغربية والولايات المتحدة بشكل خاص وحليفاتها الآسيوية. فحماية الأنابيب عبر القارة الآسيوية أسهل وأكثر أمناً من اللجوء إلى النقل البحري.

رابعاً، تمّ الاتفاق في قمة بكين على إنشاء سوق مشترك آسيوي ضمّ 22 دولة آسيوية بينما المشروع الأميركي العابر للمحيط الهادي ضمّ فقط 12 دولة واستثنى كل من الصين وروسيا. هذا القصر النظر الأميركي مخيف لأنه يدّل مرّة أخرى على سوء فادح في تقدير الموقف وعلى استعلاء غير مبرّر تجاه الدول. فالسوق الآسيوى المشترك أهمّ بكثير من المشروع الأميركي خاصة إذا ما تلازم مع منظمة شنغهاي.

خامساّ، تمّ إقرار إنشاء مصرف إنمائي آسيوي مهمته تمويل مشاريع البنى التحتية الآسيوية فقط. وهذا المصرف يحدّ من نفوذ ودور البنك الآسيوي للتنمية الذي يتبع دائماً وصفات وإرشادات البنك الدولي. نرى هنا خطوة إضافية للتخلّص من الهيمنة الأميركية عبر مؤسسات دولية تنفّذ سياسات الولايات المتحدة. وهذا المصرف يلتقي مع مقرّرات دول «بريكس» التي اجتمع قادتها على هامش قمة مجموعة دول العشرين في بريسبان كما سنرى لاحقاً.

سادساً، كجائزة ترضية للولايات المتحدة وقّعت الصين على اتفاق لتخفيض التلوّث المناخي. هذا ما أشارت إليه فقط وسائل الإعلام الأميركية وكأنه انتصار شخصي للرئيس الأميركيي.

سابعاً، نلفت النظر هنا إلى أنّ الهند ما زالت تعارض التوقيع على المنظمة العالمية للتجارة مما أثار استياء الدول الغربية التي تهيمن عليها. والمعروف أنّ رئيس الوزراء الجديد موتي يحبّذ النهج النيوليبرالي وبالتالي اعتبرت الدول الغربية ومعها الولايات المتحدة أنّ الهند ستكون حليفاً أساسياً في منظوماتها السياسية والاقتصادية. إلا أنّ ما لم يكن في الحسبان والشعور القومي الهندي المتجذّر عند موتوي حيث المصالح الهندية فوق أيّ اعتبار للمصالح الغربية. واستمرار رئيس الوزراء الهندي في مساندته لدول «بريكس» ونهجها زاد من استياء الولايات المتحدة والغرب.

وأخيراً هناك الصورة التذكارية الختامية حيث مكانة الرئيس الروسي بوتين على يمين الرئيس الصيني بينما الرئيس الأميركي كان الخامس من اليمين بعيداً عن الرئيس الصيني. فالصورة أكثر تعبيراً من الكلمة!

أما في قمة بريسبان فالحدث الملفت كان الاجتماع الذي ضمّ دول «بريكس» حيث تمّ إقرار رأس مال المصرف التنموي بقيمة مائة مليار دولار، وتكون الصين المساهم الأكبر حتى الآن بمساهمة قيمتها 41 مليار دولار. كما أنّ قمة «بريكس» أقرّت أيضاً المضيّ في إنشاء صندوق مالي ينافس صندوق النقد الدولي ويجعلها متحرّرة من هيمنته وسيطرته. هذه خطوة إضافية نحو إنشاء نظام مالي يوازي النظام القائم حاليا على هيمنة الدولار. وبالنسبة إلى الذين لا يستوعبون حجم دول «بريكس» فإنّ مجموع الناتج الداخلي لهذه الدول مجتمعة آخذين بعين الاعتبار القوة الشرائية لها يفوق الناتج الداخلي لدول مجموعة السبع.

حاول الإعلام الغربي أن يضخّم صورة عزلة الرئيس الروسي بوتين. صحيح أنّ خمس دول من أصل العشرين المجتمعة أدانت روسيا وسياستها الأوكرانية وقاطعتها لكن لم يكن ذلك الحال مع الدول الـ15 الباقية حيث كانت لقاءات مكثفّة مع بوتين. نشير هنا إلى الجلسة التي استمرت أكثر من ثلاث ساعات مع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل مما يقلّل ما حاول إيهامه الاعلام الغربي. ومن القصص الطريفة التي لها دلالات لم يحضر الرئيس الروسي بعض الاجتماعات التذكارية التي لها طابع فولكلوري بل فضل الذهاب إلى النوم قائلاً أنّ حاجته إلى النوم أكبر من الحضور! كما أنه غادر القمة قبل انتهائها ولم ينتظر صدور البيان الختامي.

من خلال كلّ ذلك نستخلص تأكيد تراجع نفوذ الولايات المتحدة. ففي أحسن الأحوال أصبحت دولة عادية من بين الدول، وأنّ الكلام عن حجمها الذي يتجاوز واقعها الفعلي لم يعد له أي تأثير. فيبقى السؤال: كيف سينجرّ كلّ ذلك على الملفّات الساخنة كالملف النووي الإيراني، والملف الأوكراني، والأزمة السورية، والصراع الصهيوني الفلسطيني والعربي؟

الأمين العام للمنتدى القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى