أول الغيث قطر

بشارة مرهج

ماذا كانت تتوقع تل أبيب؟

أن يسكت الفلسطينيون ومنهم الشهيدان غسان وعدي أبو جمل على بناء المستوطنات بصورة محمومة في القدس وحولها؟!

أن يسكت الفلسطينيون على اغتصاب حقوقهم وزجّ الآلاف من أبنائهم في السجون وبينهم أعضاء في المجلس التشريعي انتخبوا بإشراف الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية؟!

أن يسكت الفلسطينيون على الاغتيالات والإهانات والاستفزازات وكلّ أشكال القمع والقهر بما فيها التشريد والاقتلاع والحصار والتجويع؟!

أن يسكت الفلسطينيون على التزوير والتهويد وهدم المنازل ومصادرة الأراضي وسحب بطاقات الإقامة وزيادة الضرائب وحظر البناء ومنع ترميم العقارات والمدارس والمستشفيات؟!

بالفعل، ماذا كانت تتوقع تل أبيب ونتنياهو وليبرمان؟! أن يسكت الفلسطينيون على شنق أبنائهم وسحق مؤسساتهم ودفن آمالهم؟!

أن يسكت الفلسطينيون على قطعان المستوطنين يعيثون في الأرض فساداً، يغزون الأقصى ويتوغلون في أروقته وينتهكون قداسته ويمنعون أهله من عبور أبوابه والصلاة في رحابه؟!

ماذا كانت تتوقع تل أبيب؟ أن يسكت الفلسطينيون على التجاوزات والإهانات والحفريات تطوّق الأقصى من حوله وتحته لخلخلته وهز أركانه؟!

ماذا كانت تتوقع تل أبيب؟ أن يسكت الفلسطينيون وهي تحرق مساجدهم وتدنس كنائسهم وتتعرّض لمقاماتهم ونسائهم وأطفالهم؟!

ماذا كانت تتوقع تل أبيب؟ أن يكتفي الفلسطينيون بلقمة عيش مغمّسة بالدم وسقف يطبق على الأنفاس؟!

هل هي ساذجة إلى هذا الحد؟ وهل هي تجهل أنّ الفلسطينيين بشر مثل غيرهم ينفذ صبرهم ويستحيل إخضاعهم، لهم كرامتهم وهي وجودهم، ولهم رسالتهم وهي تاريخهم؟!

ألا تعرف تل أبيب أنه أسهل على المقدسيّ أن يرى دمه يُراق على درب الجلجلة من أن يشهد المسجد الأقصى تدوس بلاطه أقدام الغزاة؟!

إنّ تل أبيب تدرك كلّ ذلك، فهي ليست ساذجة أبداً، ولكن شأنها شأن الاستعماريين العتاة، تريد أن تجرّب حظها في استخدام العصا الغليظة والقنابل الذكية لكسر إرادة الفلسطينيين وتطويعهم مستفيدة من هزال الأنظمة العربية التي تعد ولا تفي، ورياء المجتمع الدولي الذي يتراجع أمام التعنت الصهيوني إثر كلّ مبادرة وإن تمثل بهيئات مرموقة أو لجنة رباعية تضم أقطاب الأرض.

لقد صدّقت تل أبيب نفسها واعتقدت أنها كما نجحت في إرغام البعيد والقريب على القبول بالاحتلال والسكوت على الاستيطان والدوران في حلقة المفاوضات الكاذبة ومنظومة التصريحات الشاجبة، هي قادرة أيضاً على طي الصفحة الفلسطينية وإيداعها أروقة الأمم المتحدة والجامعة العربية. حتى أنها لم تعد ترى في أهل القدس والضفة وغزة سوى أرقام تظهر لتختفي وأصوات ترتفع لتنزوي.

بالأمس زارتها الصدمة في غزة، واليوم تعتريها قشعريرة في القدس بعدما زمجر «المكبر» وعشش الخوف في صدور قادة طالما انتشوا بالدم الفلسطيني، وغزا القلق مخيلة مستوطنين طالما تبجحوا بقسوة أيديهم.

فجأة تكتشف تل أبيب أنّ الشوارع غير آمنة وأنّ الطرق غير سالكة، وأن وراء كلّ أكمة فلسطينياً يتأبّط مفاجأة.

ليست هناك مفاجآت… إنه السيل الجارف يرتد عليها، والرصاص المسكوب يفلت من بين يديها، وعناقيد الغضب تنفجر بوجهها. أما السحاب في سماء فلسطين فلا ينفك يتلبد مصطخباً.

وأول الغيث قطر.

وزير ونائب سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى