غابت «الشحرورة» صباح عن حياة مليئة عطاءً لصوتها الخلود بالمعنى الذي شاءته لفنّها

جورج كعدي

تفاصيل كثيرة، أقلّ أهميّة في سيرة الغائبة الكبيرة صباح، صرفت الانتباه والكلام عن الأهمّ: صوتها. فحتّى غير الخبير في الغناء والطرب والموسيقى يسعه اكتناه الفرادة في صوت «الشحرورة»، بين قوّة ورقّة، عنفوان ودلع، بحّة وصفاء، علوّ وانخفاض… صوت مقدود من صلابة الصخر وانسياب الينبوع، يتلوّن مطواعاً تبعاً للأنواع الموسيقيّة كافة التي غنّتها، من الجبليّ البلديّ، إلى الطربيّ قديمه وحديثه، فالعاطفيّ والرومانسيّ الذي ضمّنته أقوى مشاعر الأنثى التي لا يخجلها البوح بحرارة عشقها. وغنّت، لا ننسى، في الأفلام وبمختلف اللهجات، المصريّة واللبنانيّة بخاصّة، وأبدعت في كلّ نوع وأطربت وأبدعت وأطلعت الآه من عمق الجوارح.

صباح كانت صوتاً عملاقاً فريداً، أوّلاً وأخيراً، أمّا ما بين بين بحسب تعبير أديبنا الكبير الراحل فؤاد كنعان، فسيرة ذاتيّة غنيّة جداً بمحطّات الكفاح والتمرّد واختراق المحرّم، والكثير من النجاحات والسعادة والفرح، وربّما أكثر من الإخفاقات على المستوى الشخصيّ والعائليّ تكفي مأساة الأمّ التي قضت على يد الشقيق غسلاً لعار، غير مؤكد في المطلق، لحق بـ«شرف العائلة» عهدذاك ، ولعلّ صباح نفسها غذّت «أسطورتها» بنفسها فأضرمت بيدها نيران «الفضائح» والقصص الشخصيّة التي تجذب غوغاء العامّة، وكانت على قدر عالٍ من الذكاء الذي يشهد له جميع الذين عرفوها عن قرب، وكم تجلّت فطنتها في الحوارات التلفزيونية أو الصحافيّة التي أجريت معها، وبدت فيها فضلاً عن الذكاء الخارق امرأة قويّة جداً، شديدة الثقة بنفسها رغم جروح الحياة وآلامها الكثيرة ليس أقلّها تبدّد حلمها بابنتها هويدا ، امرأة قديرة، ذات إرادة وتصميم، لا تخاف شيئاً لا في الحياة ولا في الآخرة، على ما أفصحت مراراً بفطريّة «ميتافيزيقيّة» متناقضة، نافيةً إيمانها بحياة بعد الموت، إنّما مؤكّدة في المقابل على إيمانها بخالق طبقاً لفهمها الذاتيّ ورؤيتها الخاصّة.

عاشت صباح ملء الحياة. عمرها المديد لا يقاس بعدد السنين بل بعدد الإنجازات الفنيّة نحو ثلاثة آلاف أغنية وأكثر من ثمانين فيلماً وعشرات المسرحيّات الغنائيّة بين بعلبك وبيت الدين وعلى امتداد الأمّة السوريّة التي أحبّتها عميقاً، فمن آخر ما صرّحت به قبل نحو سنتين أن الشام قويّة ولن تسقط .

صباح حياة كاملة طولاً وعرضاً، ثريّة بما حقّقت وبما تركت من إرث خالد مطابق لمعنى الخلود الذي آمنت به أبعد من الأرض والسماء. خلود فنّي مكتفٍ بذاته ولذاته فحسب، وذاك كان هدف «الشحرورة» ورهان حياتها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى