مدارات

خضر سعاده خرّوبي

خرجت إيران والمجموعة الدولية أخيراً باتفاق، رأت فيه طهران أنه يحفظ حقوقها، التي طالما أصرّت عليها في المفاوضات، أهمّها الحقّ في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، ومبدأ الرفع التدريجي للعقوبات. وعلى رغم السِّجال الذي يشهده الداخل الأميركي حول المواصفات المطلوبة لأية «صفقة نووية» مع إيران، فإنّ أوباما وإدارته يريدون لهذه التجربة التفاوضية النجاح. فالديمقراطيون يريدون أن يحققوا من خلالها، إنجازاً يقدمونه إلى ناخبيهم بعدما حققه الجمهوريون أخيراً في انتخابات الكونغرس، التي اعتُبرت مؤشراً على فقدان الحزب الديمقراطي حظوظه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في ظلّ التراجع المستمر في شعبية الرئيس أوباما.

وكما كانت عملية قتل أسامة بن لادن خلال الولاية الأولى لأوباما، سبباً في إطالة عمره الرئاسي، تذهب بعض التحليلات إلى القول بأنّ معسكر الديمقراطيين يفكر جديّاً في تقديم حلّ سلمي لصاعق التفجير المزمن في البرنامج النووي الإيراني، كمدخل يعيد حظوظه على سكّة الانتخابات الرئاسية الأميركية. كما أنّ الأميركيين، وإن كانوا يبدون ارتياحاً لواقع الحال المضطرب والتطاحن الحاصل بين القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، وتحديداً بين محور المقاومة وأعدائه الإقليميين، فإنهم على علم بأنّ الاستمرار في هذا الخيار القائم على ترك الحبل على غاربه، من أجل تشجيع المزيد من استفحال الفوضى، إنما ينطوي على ممارسة لعبة خطرة قد تتمكن إيران في لحظة ما من قلبها لمصلحتها، وقد تفتح تلك اللعبة باب المنطقة من جديد كي تستحيل وكراً لإرهاب لم تبرأ الذاكرة الاستراتيجية الأميركية من جراح تجربتها معه حتى اليوم. فاللعبة الخطرة التي مارستها واشنطن في الثمانينيات بدعم ما يسمى «التنظيمات الجهادية» للتخلص من العدو الشيوعي قبل أن تضطر في مرحلة لاحقة إلى محاربتها، تتكرر ذاتها اليوم، ولكن في وجه طهران هذه المرة. وحتى وقت قريب، كان الرهان معقوداً على حصان هذه الجماعات لإشغال محور المقاومة الذي تشكّل طهران ركناً أساسياً فيه، لإضعاف موقفه وتليينه على طاولة التفاوض حول النووي. إلا أنّ رياح تغيير المواقف طاولت الطرف الآخر، وبشكلٍ أساسي واشنطن، التي بدأت تتلمس طرق الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه. وما يفسر التحوّل الأميركي واضطراره المفاجئ لحشد التحالفات تحت عناوين «مكافحة الإرهاب» هو تصاعد خشيته من تحول «الإرهاب المدجّن» الذي رعاه إلى «إرهاب خارج عن السيطرة». هذه «الهمّة الأميركية» المفاجئة التي تبدو وكأن «ضميرها الحي» استفاق فجأة على خطر إرهاب خلقته ودعمته في الأساس إرهاب حدود تكليفه محاربة محور المقاومة لا أكثر ولا أقل ، تثير التساؤل التالي: هل جاءت الولايات المتحدة أخيراً لمحاربة الإرهاب؟ قد لا يملك كثيرون إجابة محدّدة على هذا السؤال، لكنّ أغلب التحليلات تُجمِع على أن ليس لدى «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» إرادة حقيقية للقيام بهذه المهمّة.

وللوقوف على حقيقة المشهد، يميل محللون إلى الحديث عن محورين: محور يحارب الإرهاب فعلياً تعبر عنه سورية وإيران، ومحور مقابل يدعم الإرهاب ويدّعي محاربته، إلى جانب القيام ببعض التحركات العسكرية الصُوَرية لغايات استعراضية وإعلامية، تعبر عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها. فالتحالف الدولي المذكور، إنما يشنّ عملية انتقائية في محاربة الإرهاب تهدف، في أحسن الأحوال، إلى معاقبة تنظيمات إرهابية بعينها دون غيرها، كما أنّ أميركا تبدو كمن يعالج النتائج من دون البحث في علاج الجذور الحقيقية لظاهرة الإرهاب. ومن هذا المنطلق، فإنّ القائمين على «جهود» هذا الحلف، كأنهم يريدون لهذه الجهود، عن سابق تصور وتصميم، أن تكون محكومة بالفشل طالما أنهم يتجاهلون مناهل هذه الظاهرة ومنابعها المالية والفكرية ورعاتها من الدول والمؤسسات والأشخاص منذ عشرات السنين.

وعلى رغم ذلك، يفضّل الأميركيون وحلفاؤهم الإبقاء على ورقة «الجهاديين»، أما السبب، فهو استدراج إيران وابتزازها بهذا الملف لدفعها إلى «تعاون» أكبر في المفاوضات الجارية حول ملفها النووي. أما الرسالة التي كُشف عنها أخيراً، وهي الرسالة التي تلقاها السيد الخامنئي من أوباما والتي أوضحت المصادر أنها ليست الأولى وليست الوحيدة، إنما تعبر عن السعي الأميركي الحثيث إلى التوصل إلى صيغة ما من الاتفاق مع الإيرانيين في موضوع مكافحة الإرهاب. ومن المستبعد أن تقدم واشنطن رأس الإرهاب على طبق من فضة إلى الإيرانيين قبل أن تجري تفاهمات حاسمة بشأن القضايا العالقة، ومن بينها الملف النووي. من هنا يرى المراقبون أنّ عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، إنما هي عودة للوقوف على مرمى حجر من رسم التوازنات المقبلة في هذا الإقليم التي تعطي لها بعض المصادر الدبلوماسية مهلة أشهر وليس سنوات. وإذا كان الجميع يركز اليوم على ما يقال على ضفتي طهران وواشنطن للحكم على الاتفاق، يبقى الأهم ما لم يقل حول حقيقة ما جرى في الكواليس واللقاءات الثنائية بعيداً من اجتماعات فيينا التي ضمّت أطرافاً لا تريد للتفاوض أن يبرح المربع الأول، وهذا يتقاطع مع ما تناقلته تقارير إعلامية غربية عن تحوّل فرنسا إلى «وكيل التفليسة» لـ»إسرائيل» وأطراف عربية وتعهّدها معارضة أي اتفاق نووي بين الغرب وإيران. ومن السهل إدراك تململ «إسرائيل» من سياسة أوباما المتردّدة، فالرئيس المنشود بالنسبة إليها، هو من يبدي استعداده للغوص في وحول المنطقة بحيث يصبح بعدها الخروج منها أمراً صعباً. هنا تلتقي «إسرائيل» وبعض العرب، وهذا ما كان في صلب محادثات الأمير متعب في واشنطن قبل أيام. وبالعودة إلى الاتفاق النووي، يقول البعض إننا في ربع الساعة الأخير، فيما يقول آخرون ما زلنا في بداية الطريق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى