ثمانون ألف مواطن يسألون: مَن نحن؟!

أحمد طيّ

عندما يغيّب الموت عزيزاً، سرعان ما نقول عنه: «رحل جسداً، لكن روحه باقية بيننا ولا تغادرنا». ربّما تكون هذه الحالة عادية، إذ إن الموت والحياة، يبقيان خارج إرادة الإنسان…

ولكن، هل لأحدٍ أن يفسّر لنا، كيف يكون أحدهم بيننا جسداً وروحاً، إنما رسمياً ـ على ذمّة الدولة ـ هو غير موجود.

كيف يمكن لنا أن نصدق، ونحن في هذا القرن المتقدم من الزمن، ونفتخر بكل ما أتينا به من تطوّر، كيف لنا أن نصدق أن في بلدنا أطفالاً ما زالوا يبحثون عن إجابةٍ لسؤال يتوجّهون به يومياً إلى الدولة وهو: «من نحن؟!».

هل يليق بنا أن ندّعي التطور والتقدم والديمقراطية وغنى التنوع، والتحدث بكل لغات العالم، وتقليد البلدان القريبة والبعيدة، وما زال في بلادنا، حوالى 80 ألف طفل ومراهق، من مكتومي القيد، الذين لا إسم لهم في دوائر الدولة الرسمية، ما يعني ألا وجود لهم في هذا الكيان الكليّ؟

هل حقوق الإنسان وحقوق الطفل التي نتغنّى بأن لبنان من الدول الأولى التي وقّعت على شرعتها، تسمح للبنان بأن ينتهكها هو من خلال عدم تسوية أوضاع هؤلاء الذين تكرّمت الدولة عليهم بتسمية «مكتومي القيد»؟

لعمري أنّ العجب كلّ العجب في هذا اللبنان، الذي يرى المشاكل أمامه، والحلول أمامه، فيحيد عن الحلول ويغرق في مستنقعات المشاكل… والأمثلة كثيرة.

مكتومو القيد، يحيون في لبنان من دون مدارس، من دون عمل، من دون زواج، وحتى عندما يرحلون عن هذه الدنيا، ربما لا يحظى أحدهم بشاهد على قبر!

افتتحت في وزارة الإعلام أمس، ورشة عمل متخصصة للإعلاميين، حول «الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد»، برعاية وزير الإعلام رمزي جريج، ومن تنظيم لجنة معالجة أوضاع الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد، بالتعاون مع «مؤسسة الرؤية العالمية»، بحضور الوزيرة السابقة منى عفيش، مدير عام وزارة الإعلام الدكتور حسان فلحة، مدير الإذاعة اللبنانية محمد ابراهيم، مديرة الوكالة الوطنية للإعلام لور سليمان صعب، مدير الدراسات خضر ماجد، رئيسة لجنة معالجة أوضاع الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد المحامية آليس كيروز سليمان، سناء معلوف من «الرؤية العالمية»، القاضية رنا عاكوم عن هيئة القضايا في وزارة العدل، مديرة معهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين في بيروت المحامية إليزابيت زخريا سيوفي، وممثلين عن الوزارات والجمعيات الأهلية المعنية.

وألقى جريج كلمة قدّم في بدايتها التعازي إلى الجسم الإعلامي وقناة «المنار» باستشهاد مراسلها ورفيقيه في سورية، مشيراً إلى أنهم «ينضمون إلى قافلة من شهداء الصحافة الذين قدموا حياتهم على مذبح الكلمة الحرة».

وقال: «إن مشكلة الأطفال مكتومي القيد، التي غاب حلها لعقود طويلة بسبب التجاذب السياسي حول مسألتي التجنيس والتوطين، تتطلب من الدولة الاعتراف بحقوق هذه الشريحة المهملة والتي تعيش على هامش المجتمع. إن عبارة مكتوم القيد هي عبارة واسعة جداً وتشمل عدداً من الحالات…

أمام هذا الواقع المؤلم لا بدّ من استنباط حلّ جريء، لأن النتائج المترتبة على ترك الأمور على حالها يتنافى مع متطلبات العدل والإنصاف. فإذا لم نعمد إلى تصويب هذه القضية الإنسانية وبأسرع ما يمكن فإننا نكون مساهمين، من حيث لا ندري، في إلحاق الظلم بهذه الفئة من الناس المغلوبة على أمرها والمتروكة لأقدارها».

وقالت آليس كيروز سليمان في كلمتها: «ليس صدفة أن يطرح تجمع الهيئات من أجل حقوق الطفل في لبنان قضية في غاية الأهمية بالنسبة للسيد/ة حقوق الطفل والقضاء على التمييز ضده، باعتبار انه منذ تأسيسه عام 1991، عقب تصديق لبنان على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي دخلت منظومة القوانين الوطنية، عمل على نقل مواد هذه الاتفاقية من الورق إلى الواقع بهدف تحقيق هذه الحقوق وتعزيز الفرص للتمتع بها».

وأضافت: «انطلاقاً من المادة السابعة من الاتفاقية التي تنص على حق كل طفل أن يسجل بعد ولادته فوراً ويكون له الحق منذ ولادته في اسم وفي جنسية، عقدت عدة اجتماعات تشاورية مع المعنيين مباشرة بموضوع الأطفال اللبنانيين، دون 18 سنة، مكتومي القيد الذين لم يسجلوا في دوائر النفوس اللبنانية، فأصبحوا من دون أوراق تثبت هويتهم، ولا يتمتعون بأيّ حق من الحقوق الإنسانية الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية حقوق الطفل. لذلك توافق المجتمعون على تشكيل لجنة تضم ممثلين عن وزارات: العدل، الداخلية والبلديات، الشؤون الاجتماعية، الصحة، التربية، والإعلام. وعن المجلس الاعلى للطفولة، المديرية العامة للامن العام، المديرية العامة للامن الداخلي، ومعهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين في بيروت، نقابة الأطباء، نقابة المستشفيات الخاصة، رابطة القابلات القانونيات، رابطة مختاري مدينة بيروت، ورابطة مختاري طرابلس والشمال، ومحامين وجمعيات أهلية معنية مباشرة بالموضوع.

كما عدّدت أهداف اللجنة، إنجازاتها العملية، والمشاريع المستقبلية.

الجلسة الأولى

وأدارت سيوفي الجلسة الأولى وقالت فيها: «نلتقي اليوم في إطار ورشة عمل مخصصة للإعلاميين، محورها الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد، أي الأطفال من أب لبناني غير المسجلين في دوائر النفوس اللبنانية لأسباب أقل ما يقال فيها انها، أيّاً كانت ومهما كانت، لا تبرر تعريض طفل للمخاطر ولانتفاء كامل حقوقه كإنسان وكمواطن لكونه غير موجود بالنسبة إلى الدولة والقانون».

وأضافت: «يأتي هذا اللقاء بدعوة من لجنة معالجة أوضاع هؤلاء الأطفال وفي سياق خطة العمل التي وضعتها للحد من هذه الظاهرة والتي تشتمل من جهة على مقاربة وقائية قوامها نشر التوعية حول واجب الأهل بتسجيل أطفالهم لدى دوائر النفوس عند الولادة، ومن جهة أخرى على التعريف بالإجراءات القضائية لقيد هؤلاء الأطفال أصولا لدى المراجع المعنية في حال انقضاء مهل التسجيل الإداري. ومن الراهن ان نجاح هذه الخطة يتطلب تضافر جهود مختلف المراجع الرسمية وهيئات المجتمع المدني وبوجه خاص الإعلام الذي له، بمختلف أنواعه ووسائله، دور أساسي في التوعية ونشر المعرفة، وأثره على المستمع أو القارى أو المشاهد لا يقبل أي جدل».

وتابعت: «أضحى الفرد يكوّن قناعاته بشأن أي موضوع تبعاً لموقف الوسيلة الإعلامية التي يعتمدها مصدراً للمعرقة ويثق بها، وأي أمر تسلط وسائل الإعلام الضوء عليه يصبح هو الحدث والشغل الشاغل للناس، والإعلام واسع المدى يغطي المساحات ويطاول الجميع، في لبنان والخارج. من هنا، كان لا بد من دعوة الإعلام للمشاركة في مسيرة التصدي لهذه الحالة الشاذة التي تمس بالأطفال ولكن تعاني من نتائجها أسر بأكملها، حالة تهدد سلامة الأطفال وتحرمهم حقهم في الحياة الكريمة بمختلف مقوماتها. المطلوب بإلحاح أن يولي الإعلام الأولوية لهذا الموضوع، حماية للطفل في لبنان وصوناً لحقوقه».

ثمّ عرضت معلوف واقع الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد ومستقبلهم، وكان عرض شهادات لثلاث حالات: شاب وفتاة وأم وولديها، ومّما جاء فيها: «لا أحد يسمح لي بالعمل، حاولت وبحثت كثيراَ ولكن يسألون دائماً عن بطاقة الهوية، وعندها يرفضون لأنها مسؤولية كبيرة». تقول الفتاة: «لا يمكنني امتلاك سيارة ولا أي شيء على الإطلاق، لا يمكنني العمل ولا الزواج». وقال شربل البالغ 14 عاماً: «أنا إنسان طبيعي لماذا لا أستطيع العيش مثل أصدقائي، كما أنني مستعد للقيام بأي عمل في البناء، نقل المفروشات، حمل الحقائب، نقل البضائع، رمي النفايات، أي شيء المهم أن أجد عملاً».

وتحدثت عن الصعوبات في مجال التعلم والصحة والوضع الاقتصادي والتمييز والوضع القانوني.

أما عاكوم فتطرقت إلى الاجراءات القانونية لهذا الموضوع، مشيرة إلى ان مكتوم القيد هو الشخص الذي لا يتمتع بأي وجود قانوني، أي ليس له سجل في دوائر الأحوال الشخصية إنما هو موجود فقط بحكم الواقع.

وحددت مكتومي القيد بفئتين: اللبناني الذي لم يسجل في سجلات الأحوال الشخصية اللبنانية، اي الذي لم يتم قيده في دوائر النفوس اللبنانية. أو الأجنبي المولود في لبنان والذي لم يسجل لا في سجلاته الأجنبية ولا في سجل وقوعات الأجانب، فبقي مجهولاً من الدولة اللبنانية.

وأوضحت أنّ عدد مكتومي القيد وصل إلى نحو 80 ألف لبناني، 35 في المئة منهم جنسية والدهم ثابتة وما عليهم إلا التقدم بدعوى أمام دوائر النفوس ليُسجّلوا.

الجلسة الثانية

وتمحورت الجلسة الثانية حول دور الإعلام في دعم قضية الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد، وتحدث فيها المحامي جورج يزبك الذي أوضح ان مكتوم القيد لا حق له بالجنسية أو الهوية أو القيد وهو مجني عليه وبمثابة العدم أو الفراغ، كما أنه مشكلة إنسانية وهو غير موجود بالنسبة إلى الإعلام، فلا من يدفع له أو يدفع عنه، أو من يدافع عنه. مكتوم خارج الزمان والمكان. النقطة الإيجابية الوحيدة إنهم عابرون للطوائف لا ميراث لهم ليطبق عليهم وهم فاقدون لحقوقهم الأساسية. هم حاضرون على الأرض وغائبون عن هواء الإعلام، هم حالة باردة وليسوا كتلة ناخبة أو مادة سجالية.

وتمنى على الإعلام ألا يتعامل مع هذه الحالة الإنسانية كصدأ، متمنياً أن يرفع كاتم الصوت الإعلامي عن هذه الحالة.

توصيات

ختاماً، تلت نينا داود التوصيات التالية:

ـ رفع مستوى الوعي عبر نشر أهم الإجراءات الإدارية والقانونية المطلوبة لتسجيل الولادات اللبنانية ضمن المهل القانونية.

ـ تسليط الضوء على الإجراءات التي اتخذتها اللجنة لمعالجة أوضاع الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد لا سيما: المساعدة القانونية من قبل محامين في تقديم دعاوى تسجيل الولادات المعنية. والدليل المنجز من قبل لجنة معالجة أوضاع الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد حول كيفية تسجيل المواليد في دوائر النفوس اللبنانية.

ـ التوعية حول حقوق الإنسان بشكل عام وحقوق الطفل بشكل خاص: الحق في الهوية وما يرتبط بها من حقوق الحق في الإسم، الحق في الجنسية، الحق في الطبابة، الحق في التعليم، الحق في العمل، الحق في التنقل والسفر، الحق في التملك وضرورة التنبيه إلى التداعيات السلبية المترتبة نتيجة الحرمان منها.

ـ تسليط الضوء على معاناة هذه الفئة المهمشة ومشاكلها والعقبات والمخاطر التي تتعرض لها، وأقصى درجات الإهمال التي يتعاطى بها المجتمع والدولة تجاهها مع إبراز الحقوق وبالتالي الخدمات التي تحتاج اليها من أجل: التأثير على صانعي القرار لاتخاذ الإجراءات الجدية لمساعدتهم على التمتع بحقوقهم. وحث الجمعيات على تقديم الدعم المادي والخدماتي لهؤلاء الأشخاص.

ـ حث اللبنانيين مكتومي القيد على الحصول على الأوراق الثبوتية في المهل القانونية لتفادي سلوك الطرق القضائية التي تستهلك الوقت.

ـ إبراز الثغرات القانونية التي تساهم في تفاقم المشكلة لا سيما ضآلة الغرامة المالية المحددة في المادة 11 من قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية بألف ليرة لبنانية فقط جزاء على عدم التسجيل في مهلة الثلاثين يوما وذلك بغية درء المخاطر المترتبة على عدم التسجيل، وبالتالي المطالبة بوجوب تشديد هذه الغرامة.

ـ وجوب إجراء إحصاء عام من قبل وزارة الداخلية والبلديات للبنانيين المقيمين، والمهاجرين، والأجانب تمكينا لتحديد عدد اللبنانيين مكتومي القيد آخر إحصاء عام 1932 .

ـ تأمين بطاقات تعريف خاصة باللبنانيين مكتومي القيد من قبل المديرية العامة للأمن العام تمكنهم من الدخول إلى المستشفيات ومؤسسات الرعاية التابعة لوزارة الشؤون الإجتماعية ريثما يتم البحث في ملفاتهم وتسوية أوضاعهم القانونية.

ـ التنسيق مع وزارة التربية والتعليم العالي بغية تذليل العقبات التي تعترض اللبنانيين مكتومي القيد في متابعة تحصيلهم العلمي.

ـ خلق شراكة مع وسائل الإعلام لدعم التوصيات المشار اليها وتنفيذها ومتابعة النشاطات كافة، والإجراءات ذات الصلة بقضية الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد، توصلاً إلى ضمان تمتعهم بجميع حقوقهم التي تكفل لهم العيش بكرامة والارتقاء إلى مجتمع أفضل باعتبار هذه القضية ذات طابع وطني وإنساني بامتياز.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى