روايةُ «العمى» لساراماغو… رموز فلسفية وبشر مثل القطعان من ظلام إلى ظلام

نغم نصر

تدورُ رحى الحوادث في مدينةٍ لم يذكر الكاتب اسمها ولا أسماء الشخوص، بل يكتفي الكاتب بالإشارةِ إليهم من خلال تسميةِ كلٍّ منهم بصفةٍ تميزه، لدلالةٍ على أنّ المغزى والرسالة اللّذين يودُّ الكاتب إيصالهما من الرواية موجهٌ إلى مدن العالم كلّها بلا استثناء، وأن شخوصها قد تُمثّل أي شخص.

تبدأُ القصة عند إشارة المرور في أحد الشوارع. تحدثُ زحمةٌ مروريةٌ خانقة بسبب إحدى السيارات التي تتوقف فجأة. يهرعُ الناس إليها غاضبين ليسألوا صاحب السيارة عن سبب توقفه فيكون جوابه: «أنا أعمى كنتُ أقود سيارتي وفجأة لم أعد أرى» !

يتمُّ أخذ الأعمى الى أحد المستشفيات ليخبرهُ الطبيب بأنه أصيب فعلاً بالعمى. هُنا تبدأ حوادث الرواية….فالأشخاص الذين احتكَّ بهم الأعمى يصابون بالعمى الواحد تلو الآخر، استثناءِ امرأةٍ واحدة يبقيها الكاتب مبصرةً، ربما لرمزية معينة أو لتنقل إلينا حيثيَّات ما يحصل! يدبُّ الرعب في أرجاء المستشفى، وتخاف وزارةُ الصحة من انتشار وباء قد يصيبُ المدينة برمّتها في حال لم يتصرّفوا بسرعة ويتداركوا الموضوع، عندئذ لا تجد الحكومة سوى حلِّ واحد وهو «التخلص من العميان بالنفي بعيداً» وإقصاؤهم إلى مكانٍ لا يقتربون فيه من أحد ولا يخالطهم انسان. يتمُّ تجميع العميان الذين باتوا كُثراً ويُعزلون في مصحّ، ومعهم كلّ شخصٍ مبصر احتكّوا به! تلك كانت وجهةُ نظر الحكومة، أن المبصرين الذين خالطوا العميان سوف يصبحون عمياناً عاجلاً أو آجلاً! لذلك، خوفاً من تفشي هذا المرض الغريب في كاملِ المدينة عزلوهم جميعاً عزلوا العميان وكل شخص مبصر قام بالاختلاط بهم . هُنا تبدأُ رحلة العذاب المريرة لهؤلاء البشر الذين لا ذنبَ لهم سوى أنهم استيقظوا فوجدوا أنفسهم فاقدي الأبصار، باستثناء تلك المرأة المبصرة التي ترافقهم إلى المصح بعد أن تتظاهر بأنها عمياء، لتُعيل زوجها الأعمى وتساعده في هذه المحنة.

تقوم حراسة على المصح، أو السجن إذا صحّ التعبير، ويؤمرُ العميان بأن يَحرِقوا كلّ شيء تلامسه أيديهم. عليهم أن يدفنوا موتاهم بأنفسهم وأن يُحضّروا طعامهم الذي يوضعُ لهم على باب المصح، وبالتالي يرغمون على السير لمسافات طويلة للحصول على قوتِ يومهم، ومن يتجاوز أيّاً من تلك التعليمات الصارمة يكن مصيره القتل». تلك هي الجملة التي أُلقيت على مسامعِ العميان. وبعد إخبارهم بقائمة طويلة من التحذيرات والقواعد والممنوعات تبدأ المعاناة. ينطلق المسير نحو الموت البطيء. يمتلئ المكان بالقاذورات التي تراكمت يوماً بعد يوم. عمَّت الفوضى أرجاء المكان. انتشر المرض والخراب والجوع والقهر. افتقد المصحّ أدنى مستويات العيش. تأبى الحيوانات الشاردة أن تعيش هنا! كيف اذا كان من يَقطنهُ بشر من لحم ودم ومشاعر؟ يتحول المصح على مرّ الوقت إلى مستودع للقمامة، مستعمرة تعيشُ فيها مخلوقات تتحرك في الظلام.

تتشكّلُ عصاباتٍ من العُميان أنفسهم وتبدأ بسرقةِ الطعام الذي يوضع على باب المصح يومياً، ثمّ تبدأُ عملية ُالمقايضة «الطعام مقابل النساء»! هُنا عليهم أن يبيعوا نسائهم مقابل قوتِ يومهم المغمّس بالقهر. ليسَ ثمة ما هو أشد قسوة ومرارة على الرجال من تناول طعام مصدره ساعاتُ متعة بنسائهم!

يزداد الألمُ والذُل والخنوع. ولكن حصّة الألم الكُبرى تكون من نصيب المرأة المبصرة، كونها الوحيدة التي تشاهد المأساة المحيطة بهم، فهي كانت وحيدة بالفعل تُراقب يومياً جبال القذارة التي تملأ المكان ترى مشاهد الذل والإهانة التي تتعرض لها النسوة على أيدي المغتصبين. كان وجعُها مضاعفاً. لم يكن أحدٌ من العميان يعلم أنها مبصرة سوى زوجها الذي ضحّت بحريتها لتُعيله وتساعده. ومن أكثر الجمل تأثيراً ووجدانية عندما تصرخ قائلة «مؤلم أن تكون مبصراً في عالمٍ يسودهُ العميان». ومن خلال هذه الجملة ذات الأوجه والمعاني المتعددة. رُبما يقصد الكاتب إيصال رسالةً معينة إلى القارئ بأن المرأة المبصرة في الرواية هي رمزٌ للإنسان المُتفكر العَالِم الذي يتألم كثيراً وسط عالم يسوده الجهل. ومثلما قال المتنبي «ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله… وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم» وبعد تلك المرارة والمعاناة تثور النسوة بقيادة المرأة المبصرة. من اليوم فصاعداً لا إهانات. انتهى زمن الانكسار. تضرم النسوة النار في غرفة أولئك الرجال «فاقدي الرحمة والإنسانية… سارقي الطعام والأجساد!»، فتكون النتيجة احتراق المصح بأكمله. يهرُب العميان من المصح بعدما استردُّوا شرفهم المهدور وكرامتهم المسلوبة. هربوا ظناً منهم أنّهم تحرروا. اعتقدوا أن في إمكانهم العودة إلى ديارهم وحياتهم. صحيحٌ أنّهم عميان، لكن بالنسبة إليهم، الخروج من ذلك المكان حلمٌ وتحقق الآن. خرجوا ليكتشفوا أن المدينة بأكملها أُصيبت بالعمى.

المدينة كلّها سوداءٌ الآن، متعطلةٌ تماماً. خَلت المحال من الطعامِ. لا كهرباء، لا ماء. انعدم أي أثر للحياة.

في نهاية الرواية يدخل العميان أحد المعابد الدينية ليرتاحوا قليلاً فتصرخ المرأة المبصرة مذعورة وتخبرهم بأن المصور والتماثيل كلها في المعبد، عُصّبت أعينها بأغطية بيضاء، وبأنّ لوحات القديسين طُمست أعينها بالطّلاء أيضاً. حينئذٍ يصرخُ أحد العميان قائلاً: أنا أرى! ثم يُبصر الجميع… الواحد تلو الآخر!

كأن الكاتب يريدُ أن ينقل إلينا حقيقةً مفادها: أنّه عندما يسودُ الجهل وتُطمس العقول، حتماً ستنتشر العدوى كالوباء لتعمّ كل البشر. وفي حال عميت الفئةُ المسؤولة عن نهضة والارتقاء بالمجتمع مثل العلماء والقادة ورجال الدين، فإذا كان قادة الرأي عمياناً فالمجتمع برُمّته سيتحول إلى بشر لا فاقدي الأبصار فحسب، بل إلى «صمّ بُكمٍ عُميٍ لا يفقهون».

«العمى» رواية فلسفية عميقة مليئة بالرموز، تحتاج إلى تفكر لفهم حيثياتها. رواية ماورائية، تهز الوجدان، تُدمي الذات الإنسانية، تؤكد على أن العمى ليس في البصر إنما في البصيرة. وفي الإشارة إلى «المعبد» رمزية لدور العبادة كلها. وطمس عيون القديسين يؤكد على وجود قوة تسيطر على هذا العالم. تقبع في مكان ما، تطمس عقول البشر وقلوبهم ليتحولوا إلى قطعان عمياء، فاقدة الروح، يسوقها رعاة من ظلام إلى ظلام. فعندما تكون الفئة المسيطرة التي تقود الشعب فاسدة وعمياء تلحق العدوى حتماً بكل البشر.

صحافية سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى