قانا… أيقونة الجنوب التي تنتظر العدالة
هي قانا 1996 قبل نسختها الثانية في 2006، عندما أرادت نيران «عناقيد الغضب الصهيونية» أن تحرق أيدي أطفال ونسوة وشيوخ هتفت بالمقاومة خياراً.
هذه القرية الوادعة عند ساحل صور التي تلامس شمسها قلوب المستضعفين في هذه الأرض المباركة…
قانا التي لم تحمِ أهليها مواثيق وقرارات ولا قبّعات زرقاء تنشد للسلام ممّن لجأوا في ذاك الصباح الجنوبي إلى مركز القوات الدولية العاملة في الجنوب، فكان الموت أسرع، حاصداً أرواح 106 لبنانيين، معظمهم من الأطفال والنساء، وجراحات لا تندمل مع السنين.
قانا التي اجتمع لأجلها أعضاء مجلس الأمن للتصويت على قرار الإدانة، لم ينتظر أطفالها الكثير للتبريك على هذه الخطوة. فقرار «الفيتو» الأميركي كافأ الجلاد على صنعته. و «نحن» كافأنا أطفال قانا عندما امتطينا جواد النصر في أيار 2000 وتموز 2006 فكان نصراً ذهبياً يلمع في عيون شمس الأطفال ويصنع من توابيتهم خشباً لتوابيت تطرد الاحتلال مذلولاً مدحوراً تحت جنح الظلام!
اليوم، صارت «قانا» نسخة من مجازر أخرى في موازييك الذبح اليوميّ المترامي على طول هذا الشرق المصلوب، تارةً في فلسطين وتارةً أخرى في العراق وسورية ولبنان ومصر. لكن فجراً سيصدح من رحم هذا الشرق، يعيد للمسجد حلو الآذان، وللكنيسة صدى تراتيلها في كنيسة المهد في فلسطين ومعلولا.
«عن قناة المنار»
قرابة الثانية من بعد ظهر يوم الخميس 18 نيسان 1996، كان مركز القوات الفيجية العاملة ضمن قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، في قرية قانا، يغصّ بعشرات العائلات التي قصدته للاحتماء من القصف «الإسرائيلي»، من قرى: جبال البطم، وقانا، ورشكنانيه، وصدّيقين، وقرى أخرى في قضاء صور، إضافة إلى نحو مئة جنديّ من الوحدة الفيجية. وكان تعداد أفراد هذه العائلات يقدّر بما يفوق 500 نسمة، نزحوا إلى مركز القوات الفيجية منذ اندلاع عدوان «عناقيد الغضب» في 11 نيسان 1996، خوفاً من إقدام «إسرائيل» على تدمير منازلهم فوق رؤوسهم، خصوصاً أنّ الجيش «الإسرائيلي» دأب خلال العدوان، على بثّ بيانات يطلب فيها من أهالي قرى الجنوب إخلاء بيوتهم وقراهم وإلّا…
في حرم مركز القوات الفيجية، الذي يرفرف فوقه علم الأمم المتحدة، توزع هؤلاء النازحون على عنبرين لا يبعد أحدهما عن الآخر سوى عشرات الأمتار. نحو الساعة الثانية وخمس دقائق، سقطت قرب العنبر قذيفة أولى، ثم قذيفة ثانية، عندئذٍ، حاول الأهالي الخروج من العنبرين، فإذ بقذيفة ثالثة تصيب العنبر الأول، وتقع المجزرة. كانت الساعة حينذاك بالتحديد الثانية وعشر دقائق بعد الظهر، إذ انهالت قذائف المدفعية على مركز الفيجيين، وتحديداً على عنبرين حيث يحتمي عشرات النازحين، مصدر إطلاق القذائف كان مواقع الاحتلال «الإسرائيلي» في جبل حميد ورشاف، في هذا الوقت كانت طائرة استطلاع «إسرائيلية» ترشد المدفعية إلى أهدافها المدنية. وبعد أن سكتت القذائف، اتّضح حجم المجزرة: أكثر من مئة قتيل اختلطت أشلاؤهم ببعضها، وأكثر من هذا العدد بقليل من الجرحى. ولفترة من الوقت، ظلّت النيران تشتعل في المكان الذي كان في ما مضى مجرّد مطعم يجتمع فيه عناصر القوة الدولية لتناول وجبات الطعام.
ولكي تكتمل المجزرة، استمرّت القوات «الإسرائيلية» بإطلاق صواريخها التي كانت تنفجر قرب الأشلاء وفى محيط المنطقة، معيقة بذلك عمل سيارات الإسعاف.
شهداء المجزرة
بلغ عدد شهداء مجزرة قانا 110 شهداء، وهناك 18 جثة شهيد لم يُعرف أصحابها إلى الآن، وكتب على أكفان أصحابها امرأة مجهولة أو رجل مجهول أو طفل مجهول، وذلك لشدة ما لحق بها من تشويه، ومن بين الشهداء 27 شهيداً من عائلة «بلحص» صدّيقين ، وعشرة شهداء من عائلة «البرجي» قانا ، وتسعة أشخاص من عائلة «ديب» رشكنانايه ، وثمانية أشخاص من عائلة «جعفر» صدّيقين ، وسبعة أشخاص من عائلة «خليل» جبال البطم ، و21 من عائلة «إسماعيل» التي لم يبق منها إلا عبد الحسن عباس الذي ظلّ لهول الصدمة ثلاثة أيام في غيبوبة.
المجزرة الثانية
مجزرة «إسرائيلية» أخرى حلّت في قانا، وذلك نهار الأحد 30 حزيران 2006، قُتل فيها أكثر من 67 لبنانياً من النساء والأطفال 37 طفلاً في قصف «إسرائيلي» على تلك البلدة الجنوبية.
بين القداسة والحقد
تقف قانا بين عرسين: عرس شهد أولى معجزات السيد المسيح حين فاضت أجاجين الماء خمراً وفاضت القداسة حباً غيّر تاريخ البشرية. وعرس الدم المتفجر الذي سال أنهاراً سقت تعطّش العدو الوحشي للّحم والدم، وروت أرضاً تستقي من شهدائها لتنبت أبطالاً… قانا الجليل: الفرح والحزن، القداسة والشهادة.
بقيت قانا الجليل في الجنوب اللبناني مجهولة من الباحثين والعلماء الغربيين حتى القرن التاسع عشر. وقد علل الباحث إدوارد روبنسون هذا الجهل بقوله: «كانت المنطقة الممتدة أمامنا إلى الغرب وحتى زمن حديث «أرضاً مجهولة»، فلا طرقات فيها لأيّ اتجاه سوى على الساحل، ولهذا كان القليل من السياح هم الذين اخترقوها». كذلك كان تعليق كارل ريتر الذي قال: «كان روبنسون الوحيد الذي عرف الجانب الشرقي من الجليل حتى ضفاف الأردن الغربية وإلى الطريق المعتاد الذي يمتد من صفد إلى الشمال الغربي مروراً بالجشّ وبنت جبيل وتبنين وقانا وصولاً إلى صور. وفي الجانب الغربي كان الرحالة كلّهم ومنذ زمن ريتشارد بوكوك 1737 يسلكون طريق الشاطئ عبر السهل الممتد من عكا إلى صور ولم يخاطر أحد بالتوغّل داخل المنطقة الجبلية للجليل». وهكذا بقيت البلدة مجهولة بالنسبة إلى الباحثين في جغرافية الأمكنة التي زارها السيد المسيح.
ذاكرة شعبية
يحفظ أهالي قانا معتقدات قديمة تؤكد الشخصية التاريخية لبلدتهم، ودورها في نشأة المسيحية، باعتبارها المكان الذي جرت فيه أولى معجزات السيد المسيح في حفلة العرس. أما الحجة الأولى فتقول إن البلدة هي الوحيدة التي تحمل الاسم الكامل قانا الجليل كما ورد في إنجيل يوحنا. وهذا الاسم ليس من انتمائها إلى منطقة الجليل كأرض جغرافية كما هو مألوف، إنما لوجود وليّ له مقام مقدّس فوق مرتفع في البلدة بِاسم «النبي الجليل»، وهو مقام قديم جداً سبق وجوده انتشار المسيحية في المنطقة. وفي المنطقة عموماً والبلدة خصوصاً، تتجلى الاستمرارية التاريخية للتقاليد والمعتقدات بعدّة أشكال، ومنها، وجود عشرات المزارات التي لا تزال محافظة على قدسيتها وتسمياتها. منذ عهود الكنعانيين، كما إن القرى والمواقع الأثرية وعيون المياه هي بمعظمها كنعانية التسمية.
ومن تقاليد البلدة التي يتناقلها الأهالي وجود أشجار متميزة في قريتهم يؤمنون بأنها نبتت حيث مرّ يسوع مع تلامذته، وهم يتبرّكون بأوراق هذه الأشجار ويتخذون منها دواء شافياً لأمراضهم، ويتحدثون عن معجزات حصلت بعد المعالجة بوساطتها.
التماثيل الصخرية
قرب المغارة منحوتات وتماثيل كبيرة منقوشة على الجدران الصخرية وهي المحاولات الأولى للأيقونات المسيحية. تمثّل المنحوتات أشخاصاً في وضع تعبّد وتواضع إما بوضع اليدين على الصدر، أو برفعهما بحركة توسّل خشوعي. وعلى طرف إحدى الصخور تمثال محفور لامرأة تتكئ على عصا، ونحتت بتقنية لافتة، إذ تبدو ثيابها واضحة بطيّاتها وطرازها وما فيها من حشمة، ويطلق الاهلون على هذا التمثال تسمية «العروس». ويبدو من نمط ثوبها وطرازه انها من العهد الروماني الذي عاصر انطلاقة المسيحية الأولى.
وعلى صخرة أمامية منفردة نحتت تماثيل متلاصقة تمثل السيد المسيح يتوسط تلاميذه الاثني عشر وله هالة على رأسه، ويبدو اكبر من التماثيل التي عن يمينه وعن يساره للدلالة على مكانته المميزة. مع مرور الزمن أثرت العوامل الطبيعية في التماثيل ولم يعد بادياً من معالم الرؤوس إلاّ الأشكال وحسب.
نقوش اخرى منحوتة تمثّل ميلاد الطفل يسوع في المهد، وصفحة من الكتاب المقدس، وعرس قانا الجليل، إضافة إلى منحوتات تمثل العشاء السري، وصلاة للتلامذة الاثني عشر، والعذراء تحمل طفلها.
قانا اليوم
تقع قانا في محافظة الجنوب ـ قضاء صور على ارتفاع حوالى 300 متر عن سطح البحر، تحدّها من الشرق دير عامص ومن الشمال عيتنيت، ومن الغرب حناويه، أما جنوباً فتحدها صدّيقين. وتضمّ قانا أحياء كثيرة منها: الحارة الفوقا، الحارة التحتا، حي السيدة صالحة يوجد مقام لسيدة جليلة ، حي البركة، حي المحافر، حي الجامع الشرقي، حارة مار يوسف، حي الحافور، حي الوارداني، حي الخشنة، حي الماصية، حي الحمارة، الخريبة. وفي البلدة معرض للفنان والرسام العالمي ابن قانا موسى طيبا، وهو عبارة عن رسوم ولوحات له أقامه إسهاماً في تعزيز موقع قانا الثقافي.
وتضمّ البلدة عدة مؤسسات تعليمية منها تكميلية قانا الرسمية، وثانوية قانا الرسمية، ومدرسة قانا الجليل، والمدرسة النموذجية جبل عامل، ومدرسة الرضا، ومعهد قانا الفني.
أما بالنسبة إلى المؤسسات الصحية، فإضافة إلى مستشفى شهداء مجزرة قانا، هناك مستوصف قانا الحكومي، ومستوصف بلدية قانا ومستوصف وزارة الشؤون الاجتماعية. خلال السنوات الأخيرة نفذت البلدية عدة مشاريع بهدف النهوض بالبلدة. وفي هذا الإطار كان مشروع «حي الخشنة» حيث شقّت الطرقات، وأنشئت البنى التحتية، وزرعت الأشجار، وفتحت الساحات ليكون الحي موقعاً سياحياً متميزاً ونموذجياً.
كذلك جُمّلت مداخل قانا بالأشجار والأرصفة والإنارة التي أعطت طابعاً جمالياً رائعاً. مع مستديرات مشجرة على المفارق الرئيسية، إضافة إلى توسيع الطرقات الداخلية وتعبيدها.
أما على الصعيد الثقافي، فتقام دورياً لقاءات حول البيئة وأهميتها في إنماء البلدة، وندوات حول الصحة العامة بالاشتراك مع الصليب الاحمر وأخرى مع أطباء اختصاصيين. وفي مجال البيئة أيضاً، زُرعت كمية كبيرة من الأشجار، وأقيم برنامج يومي للنظافة العامة للحفاظ على بيئة سليمة للبلدة، يشمل توظيف أكبر عدد من عمال النظافة، ووضع مستوعبات حديثة مع أغطية كاملة لمنع انتشار الروائح والأوبئة. وساعدت البلدية في بناء معصرة زيتون حديثة ومتطورة لمساعدة مزارعي الزيتون على تأمين مواسم الزيت بأسهل الطرق وأقل تكلفة ممكنة والجدير ذكره أن هذه المعصرة أنشئت بالتعاون مع جمعية إيطالية، ووُضِعت تحت إشراف الجمعية الزراعية في قانا.
عائلاتها
تبلغ مساحة قانا الجليل حوالى ألفي متر مربع، وعدد سكانها حوالى 20 ألف نسمة بين مهاجر ومقيم، يتوزعون على العائلات التالية: أبو خليل، أيوب، الأقرع، ابراهيم ـ داهود، أبو خير، اسماعيل، الاشقر، أديب، برجي، بيطار، بغدادي، بدر الدين، بشير، بطرس، توما، جابر، جعفر، جمعة، حمصي الحاج، الحداد، الحجة، حدرج، حمقة، حلال، حيدر، حسن، حكيم، حجازي، حمادي، حمود، حجاجي، حسني، حمية، حايك، الخوري، خليل، دهيني، دخل الله، درويش، الديماسي، رزق، رضى، رملاوي، رحيل، زعرور، الزين، زبد، سالم، سردي، سلوم، سعادي، السلاك، سلامي، السيد، سليمان، سعد، الشامي، الشماس، شلهوب، شيلي، شوشي، صليبا، صبرا، صيداني، صالح، صائغ، طه، طيبا، طعمة، عيسى، عبد الرضا، عبد الله، عيديبي، عامر، عطية، عاشور، علاء الدين، عبد الحسين، عطوي، غندور، غضبون، غزال، الغضبان، فتوني، فياض، فرحات، فرج، قدوح، قليط، قسيس، كسّاب، كريم، كرشت، موسى، ماضي، مهنا، مراد، معنّا، ناصر، نصر الله، نزّال، نقولا، هاشم، الهنداوي، واكيم، يونس، ياسين.
هذه هي قانا، وتلك قصتها. ومهما قيل فيها، يبقى الأبلغ الذي لم يقل، وهو أن أعجوبة السيد المسيح في فجر التاريخ لا تزال مفاعيلها قائمة، إذ مهما دمرت «إسرائيل»، لن تنال من التجربة الانسانية السماوية في هذه البقعة، حيث يتعانق الهلال مع الصليب، ولا شيء يباعد بينهما، حتى الموت.
برّي تزور أضرحة الشهداء وتفتتح معرض رسومات
محمد أبو سالم
في أجواء الذكرى السنوية لمجزرة قانا، و بدعوة من مكتب شؤون المرأة في حركة أمل، افتتحت عقيلة رئيس مجلس النواب رندى عاصي برّي، معرض صور لشهداء قانا، وذلك بحضور رئيس الحركة الثقافية في لبنان بلال شرارة، ورئيس المنطقة التربوية في الجنوب باسم عباس، ورئيس بلدية قانا الدكتور صلاح سلامة، ونائب القائد العام لكشافة الرسالة الإسلامية حسين عجمي، والمفوض العام حسين قرياني، ومسؤولة شؤون المرأة في حركة أمل ـ إقليم جبل عامل الدكتورة رباب عون، ووفد من النحاتين والفنّانين والرسّامين، وفاعليات بلدية وثقافية واجتماعية، إضافةً إلى ذوي الشهداء وحشد من الأهالي.
تخلل الافتتاح كلمة لكل من سلامة وعون، وممثلة التنظيم الشعبي الناصري، ثمّ ألقت برّي كلمة تحدثت فيها عن الفطرة التي نشأ عليها أطفال الجنوب، وحفظوا عن ظهر قلب أنّ السماء هي مكان لضوء القمر، وأنّ غيوم السماء حتى لو كانت سوداء لا تحمل في طيّاتها إلا الخير، إذ في مثل هذا اليوم من عام 1996، كسرت «المشيئة الشيطانية» الفطرة البشرية والإنسانية لكنها لم تنتصر، على رغم أن وحشاً حديدياً كان قد أطاح بكل الآمال وقتل العشرات من الأطفال والنساء والشيوخ في كنف الأمم المتحدة الذي هو كنف السلام المزعوم.
وتابعت: «بين غمضة العين ودقة القلب، تلاشت الأحلام واختلطت الأشلاء بالدماء، فكانت قانا شهادة طفولة وقيامة وطن»، موجّهة تحية إلى كل الشهداء الذين ذهبت دماؤهم هدراً.
وقالت: «نلتقي في قانا كما في السنوات السابقة التي طالبنا فيها بمحاكمة القتلة الذين ارتكبوا المجازر بحق أبناء الجنوب وأبناء فلسطين، لكننا أصبحنا على يقين بأن حق الشهداء لا يمكن أن يسقط بمرور الزمن، لأنّ عدالة السماء أقوى من أيّ عدالة دولية أو أرضية، لذلك لقاؤنا اليوم هو تأكيد على حفظ قضية الشهداء».
وأضافت: «إنّ مسؤوليتنا بوجود الفنانين الذين لم تتلوّث ريشتهم بالحقد والكراهية تكون من خلال عكس الصورة الحقيقية لجوهر الإنسان عن طريق اللون والصوت والكلمة، وأن نؤرّخ بالفن لحقبة أكثر إشراقاً، فهذه حقبة المقاومة والانتصار على العدو»، كما دعت إلى نأي الفن والثقافة والتراث عن أيّ اصطفافات طائفية ومذهبية وسياسية، وإعادة تشكيل الوعي وتصويب البوصلة نحو العدو الحقيقي لهذه الأمة وإنسانها وتراثها.
