الكاتب ذو الألف حيلة… وجه ماركيز الخفيّ

يعشق الفرنسيون مؤلف رواية «مائة عام من العزلة»، لكن قلّة تعرف مناطق الظل التي كشفت عنها سيرة رائعة عنوانها «حياة غابرييل غارسيا ماركيز» للكاتب جيرالد مارتن وتطلبت منه سبع عشرة سنة من العمل لإنجازها.

«هناك حياة عامة، وحياة خاصة وحياة سرية» بحسب قول الشاعر ألفارو موتيس ذات يوم عن غابرييل غارسيا ماركيز. تلهّى الكاتب الكولومبي لمدة طويلة بخداع عالمه وهدايته في الآن نفسه، كما تلهّى بالمبالغة في وصف واقع يصعب تصديقه فعلاً عن طريق أساليب ساخرة شبيهة بالحقيقة الجارحة. مثلاً: هل استمر الروائي الكولومبي المشهور حقاً في الكتابة قبل غيابه أم توقف عنها بشكل نهائي في السنوات الأخيرة واضعاً قلمه؟ نجد أنفسنا أكثر ميلاً إلى تصديق الافتراض الثاني. يبرهن جيرالد مارتن الجامعي البريطاني في السيرة التي وضعها الماركيز عن صرامة غريبة في الإحساس بـ«غابو» لقب غابرييل غارسيا ماركيز وفي إدراك شخصيته وحياته المدهشة: «ذلك الشخص، يسرد دوماً الحكايات والقصص!» كما كان يردد غالبا والده.

هل غابرييل غارسيا ماركيز مختلق داهية في كتاباته كما في حياته؟ يقبل الكاتب الكولومبي عن طيب خاطر وصفه بـ«الساحر» ذي الألف حيلة ولفّة في الحياة الفنية، كما هي حاله في الحياة السياسية.

حصول غارسيا ماركيز على نوبل الآداب سنة 1982 أثر سلباً في حياته في بادئ الأمر كصحافي لامع، بعد ذلك خاض ماركيز تجربة كتابة السيناريو وأضحى اختصاصياً في نشر الإعلانات، و«وسيطاً» سياسياً وكاتباً مسرحياً عديم الموهبة في هذا المجال، وراعياً للأدب والفنون، ومؤسساً لمدرسة سينما في كوبا ولمعهد للصحافة في قرطاجنة. سافر في أنحاء العالم زمن لم يكن السفر أمراً سهلاً، وكانت أسفاره غنيمة حقيقية لصحافي مفلس لا يتكلم الانكليزية. هنغاريا الشيوعية وباريس اللاتينية كانتا من المحطات المؤثرة في حياته، إذ عرفت هنغاريا بالفقر المدقع الذي علم غارسيا بوجوده في هذا البلد، وأثارت باريس التي إعجاب سذاجة صحافي معجب بنمط الحياة القائم في هذه المدينة.

لم يخترع ماركيز شيئاً في رواياته، بل استلهم كل شيء من محيطه. قرية ماكوندو موجودة فعلاً! وقرية الحكايات الرائعة في رواية «مئة عام من العزلة» التي انتهت بشكل مثير للرثاء، هذه القرية هي أرض قريبة من أراكاتكا، المدينة التي ولد فيها غارسيا ماركيز عام 1927. وتقع في شمال منطقة الكاريبي لبلد غارسيا ماركيز، ويُعرف هذا المكان كمنطقة لزراعة الفواكه كانت تديرها شركة أميركية، حيث قتل ألوف العمال بعد إضراب عام. نشأ غارسيا ماركيز في هذه المنطقة على يد جده «الكولونيل الساحر». ثم بعد ذلك استعاده والده كما في رواية «الحب في زمن الكوليرا» للانتقال مع أشقائه وشقيقاته العشر، إلى محافظة قرطاجنة إرضاء للمشاريع الصيدلية الكارثية للأب. هذا الأب الوقح الذي عجز عن معالجة ابنه حين كان مراهقاً يعاني نوبات القلق والفصام… العالم الأدبي لغابرييل غارسيا ماركيز حاضر بكامله في محيطه منذ طفولته: بيئة اجتماعية قاسية، سحر السلطة، عائلة مهووسة بالشعوذة والضحك، النساء والخوف من الموت.

حين تكون الأسطورة أكثر جمالا من الواقع، انشر الأسطورة هذا ما يقوله جيمس ستيوارت في فيلم الرجل الذي قتل ستارة الحرية .

يتبع غارسيا ماركيز هذه النصيحة في سيرته الذاتية عشت لأروي إذا أوقف نشاطه الصحافي في بدايته وكرس حياته لموهبته الأدبية في الكتابة. لا يملك جيرالد مارتن ويا للأسف أسلوب ماركيز الملتهب، لكن سيرته لا يمكن اعتبارها مجرد تحية وإشادة بماركيز. إذا كانت السيرة التي تحمل حياة غابرييل غارسيا ماركيز بقلم جيرالد مارتن أزالت الكثير من الغموض، فإنها قدمت أيضاً الكثير من المعلومات حول السياق السياسي الكولومبي والدولي بين عامي 1940 و2000. ارتبطت حياة الكاتب غارسيا ماركيز بشكل وثيق بهذا السياق. فبفضل برنامج اجتماعي للسياسة التقدمية في كولومبيا في الأربعينات، استطاع التلميذ ماركيز التوجه إلى المدرسة ونيل البكالوريا. من دون هذه المنحة ما كان غارسيا ماركيز ليتمّ دراسته ولا لتتفتح موهبته الأدبية. ثم جاء بعد ذلك زمن الثورات والاشتراكية في أميركا اللاتينية تمويل الفصائل المسلحة في فنزويلا وعلاقة غارسيا ماركيز مع الشخصيات النافذة فرنسوا ميتران وملك اسبانيا وعائلة كلينتون وعلاقته أيضاً بفيديل كاسترو إلى صداقته مع الكوبي ليدر ماكسيمو، ولدت عام 1960 بفضل محادثة حول كمية الدجاج التي يتناولها السكان في كوبا، ولم تفشل أبداً رغم الانتقادات والمشاكل. تجسست الاستخبارات المكسيكية على غارسيا ماركيز بين عامي 1967 و1985 إذ اعتبرته وكيل دعاية لمصلحة إدارة الاستخبارات الكوبية، ومنعته الولايات المتحدة من دخول أراضيها لمدة طويلة. بعيداً عن نزعة الحقد والضغينة، يُعتبر هذا الكاتب البارز ورمز الواقعية السحرية، من الكتاب الأوائل، مع كارلوس فوينتس وخوليو كورتازار، الذين منحوا أميركا اللاتينية هوية أدبية كاملة العضوية.

لا أحد كان يعلم شكل العلاقة التي يقيمها غارسيا ماركيز مع ابنيه، ولا نظرته إلى المرأة، ولا سبب عدم اقتباس المخرج كوراساوا روايته خريف البطريرك لفيلم… لكن الأمر الوحيد المؤكد كما يقول توماس بينشون عن غابرييل غارسيا ماركيز: آه ! اللعنة، إنه يكتب بطريقة رائعة! .

مواقف وآراء

نشرت كتب ومقالات كثيرة وعن مواقف ماركيز السياسية، إلا أن أبرز ما قاله عن جائزة نوبل وفلسطين كان تحت عنوان: مناحيم بيغن وأريئيل شارون: لهما جائزة نوبل للموت! ومما جاء فيه: «منح نوبل السلام لمناحيم بيغن أمر لا يصدّق. المهمّ أن بيغن يحمل فعلاً هذه الجائزة ولا سبيل الآن إلى تبديل ما حدث فهو يحملها منذ منحه إياها عام 1978 مع الرئيس المصري آنذاك أنور السادات عند توقيعهما، على انفراد، اتفاقية السلام في كامب ديفيد. لم يحظ الاثنان بالمصير نفسه: فمصير السادات كان التبرّؤ الفوري منه في العالم العربي، ولاحقا قتله أمّا بالنسبة إلى بيغن، فالاتفاقيّة خوّلته المباشرة بمشروع استراتيجي لم يختتم بعد، وأشبع قبل أيام قليلة بمجزرة وحشيّة لأكثر من ألف لاجئ فلسطيني في أحد مخيّمات بيروت. ليست هناك جائزة نوبل للموت، لكن لو وُجدت فقد تُمنح هذا العام، ومن دون منافسة، لمناحيم بيغن وسفّاحه المحترف أريئيل شارون.

اليوم، وبعد تكشّف الحوادث، نستطيع فهم غاية بيغن الوحيدة والمتستّرة خلف ستار كامب ديفيد: القضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة و بناء مستعمرات «إسرائيلية» جديدة في الضفة الغربية. بالنسبة إلينا- نحن الذين بوسعنا تذكّر ممارسات النازيّة- يعتمد مشروع بيغن على ركيزتين تثيران لدينا ذكريات فظيعة: نظريّة «المجال الحيوي»، التي أراد بها النظام النازي أن يبسط إمبراطوريته على امتداد نصف العالم أما الركيزة الثانية فهي ما سمّاه هتلر بـ»الحل النهائي» لمشكلة اليهود، والتي حملت أكثر من ستة ملايين من البشر إلى معسكرات الإبادة».

كيف تُكتب الرواية؟

يقول ماركيز حول كتابة الرواية والفن الروائيّ: إنه بلا ريب أحد الأسئلة الكثيرة التي غالباً ما توجّه إلى الروائي. ولدى المرء دوماً إجابة مرضية، تناسبُ من يوجه السؤال. لكن الأمر أبعد من ذلك: فمن المجدي محاولة الإجابة عنها لا لمتعة التنويع فحسب، كما يقال، بل لأنه يمكن الوصول من خلاله الى الحقيقة. ولأن هناك أمراً مؤكداً على ما أظن، هو أن معظم الذين يسألون أنفسهم كيف تكتب الرواية، هم الروائيون تحديداً. ونحن نقدم إلى أنفسنا أيضًا إجابة مختلفة كل مرة. وأعني بالطبع الكتّاب الذين يظنون أن الأدب فن موجّه لتحسين العالم. أما الآخرون من الذين يرون أنه فنٌ مكرّسٌ لتحسين حساباتهم المصرفية، فلديهم معادلات للكتابة ليست صائبة فحسب، بل يمكن حلها بدقة متناهية كأنها معادلات رياضية. والناشرون يعرفون ذلك. كان أحدهم يتسلى منذ وقت قريب موضحًا لي سهولة الطريقة التي تكسب بها داره للنشر الجائزة الوطنية للآداب: قبل كل شيء لا بد من دراسة أعضاء لجنة التحكيم من خلال تاريخهم الشخصي وأعمالهم وذوقهم الأدبي. ويرى الناشر أن محصلة هذه العناصر توصله إلى حد وسطي لذوق لجنة التحكيم الأدبي. ويقول: «لهذا وجد الكمبيوتر». وبعد الوصول إلى نوع الكتاب الذي يتمتع بأكبر الاحتمالات للفوز بالجائزة، ينبغي التصرف بطريقة معاكسة لما يجري في الحياة، فبدلاً من البحث أين هو هذا الكتاب، تمّ البحث عمن هو هذا الكتاب سواء كان جيداً أو رديئاً المؤهل أكثر من سواه لفبركته. وما سوى ذلك ليس إلا التوقيع على عقدٍ معه ليجلس ويكتب المواصفات المحددة، الكتاب الذي سيفوز في السنة التالية بالجائزة الوطنية للآداب. والمخيف في الأمر أن الناشر قد أخضع هذه اللعبة لمطحنة الكمبيوتر الذي أعطاه أن احتمال النجاح سبعة وثمانون في المئة.

المسألة ليست إذن في كتابة رواية أو قصة قصيرة – إنما في كتابتها بجدية، حتى ولو لم تبع في ما بعد ولم تنل أي جائزة. هذه هي الإجابة التي لا وجود لها، واذا كان هناك من يملك الأسباب لمعرفة ذلك في هذه الايام، فهو من يكتب الآن هذه السطور محاولاً من أعماقه إيجاد حلّه الخاص لهذه الأحجية.

عدتُ حديثاً إلى مكتبي الخاص في مكسيكو حيث تركت منذ سنة كاملة عددًا من القصص القصيرة غير المكتملة ورواية كنتُ بدأت في كتابتها وأحسست بأني لم أجد طرف الخيط كي تكر اللفافة.

بالنسبة إلى القصص القصيرة، لم أواجه أي مشكلة: ذهبت إلى سلة المهملات. فبعد قراءتها إثر سنة من الغياب الصحي، أجرؤ على القسم وربما كنت محقاً بأنني لست كاتبها. إنها تشكل جزءًا من مشروع قديم يتألف من ستين قصة قصيرة أو أكثر تتناول حياة الأميركيين اللاتينيين في أوروبا، وكان عيب هذه القصص الأساسي وسبب تمزيقها أني أنا نفسي لم أقتنع بها.

ليس لديّ من التبجّح ما يجعلني أقول إن يدي لم ترتعش حين مزقتها، ثم حين بعثرت القصصات لأحول دون جمعها مجدداً. ارتعشت، ولم تكن يداي وحدهما هما اللتان ارتعشتا، لأني أحتفظ لعملية تمزيق الأوراق هذه بذكرى قد تكون مشجعة، لكنها تبدو لي مربكة.

إنها ذكرى تعود إلى ليلة حزيرانية من عام 1955، عشية سفري إلى أوروبا كموفد خاص من صحيفة «الإسبيكتادور»، حين جاء الشاعر خورخي غيتان دوران إلى غرفتي في بوغوتا ليطلب مني أن أترك له شيئاً ينشره في مجلة «ميتو». وكنت انتهيت من مراجعة أوراقي، فوضعت في مكان أمين ما رأيت أنه جدير بالحفظ، ومزقت ما هو ميؤوس منه.

بدأ غيتان دوران البحث في سلة المهملات عن الأوراق الممزقة، بنهمه الذي لا يرتوي أدباً، وخاصة نحو اكتشاف قيم مغمورة. وفجأة وجد شيئاً لفت انتباهه، فقال لي: «لكن هذا صالح جداً للنشر»، فأوضحت له لماذا مزقته: إنه فصل كامل انتزعته من روايتي الأولى «عاصفة الأوراق» وكانت الرواية نشرت في ذلك الحين ولا يمكن له أن يلقى مصيراً مشرفاً إلا في سلة المهملات.

لم يتفق غيتان دوران مع وجهة نظري، ورأى أن النص قد يكون فائضاً عن الحاجة في مسار الرواية ولكن له قيمة مختلفة بذاته. فخوّلته ليس لقناعتي بوجهة نظره بقدر ما كان ذلك لإرضائه صلاحية ترقيع الأوراق الممزقة بشريط لاصق، ونشر الفصل على أنه قصة قصيرة. «وأي عنوان نضع له؟» سألني، مستخدماً صيغة جمع قلما كانت دقيقة كما هي في تلك الحالة. فقلت له: «لست أدري، فهاذا لم يكن سوى مونولوغ لإيزابيل وهي ترى هطول المطر في ماكوندو»، وكتب غيتان دوران في الهامش العلوي للورقة الأولى، وفي الوقت نفسه الذي كنت أقول فيه: «مونولوغ ايزابيل وهي ترى هطول المطر في ماكوندو». وهكذا استعيدت من القمامة إحدى قصصي القصيرة التي قوبلت بأفضل إطراء من جانب النقد، ومن جانب القرّاء خاصة.

ومع ذلك، لم تفدني هذه التجربة في عدم مواصلة تمزيق أصول المخطوطات التي تبدو لي غير صالحة للنشر، بل علمتني ضرورة تمزيقها بطريقة لا يمكن معها إعادة ترقيعها ثانية.

إن تمزيق القصص القصيرة أمرٌ لا مناص منه، لأن كتابتها أمر أشبه بصبّ الإسمنت المسلح. أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر. وهذا يعني: إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها. بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك، إذ من الممكن العودة للبدء فيها مجدداً. وهذا ما حدث معي الان. فلا الإيقاع، ولا الأسلوب، ولا تصوير الشخوص كانت مناسبة للرواية التي تركتها نصف مكتملة. وتفسير هذه الحالة واحد أيضاً: فحتى أنا نفسي لم أقتنع بها.

في محاولة للبحث عن حل، عدت إلى قراءة كتابين اعتقدت أنهما مفيدان، أولهما «التربية العاطفية» لفلوبير، ولم أكن قرأته منذ أرق الجامعة البعيد، فلم يفدني إلاّ في تفادي التشابهات التي كانت ستبدو مريبة، لكنه لم يحلّ لي المشكلة. أما الكتاب الآخر الذي عدت إلى قراءته فهو «بيت الجميلات النائمات» لياسوناري كواباتا، الذي صفع روحي قبل ثلاث سنوات، وما زال كتاباً جميلاً. لكنه لم ينفعني هذه المرة في شيء، لأنني كنت أبحث عن أساليب التصرف الجنسي لدى المسنين، وما وجدته في الكتاب هو سلوك المسنين اليابانيين الذي يبدو شاذاً، مثل كل ما هو ياباني، ولا أدنى علاقة له بالسلوك الجنسي لمسنّي منطقة الكاريبي.

عندما تحدثت عما يقلقني على المائدة، قال لي أحد ابنيّ وهو صاحب التوجه العملي -: «انتظر بضع سنوات أخرى وستدرك الأمر من خلال تجربتك الشخصية». أما الآخر وهو فنان وكان أكثر دقة وتحديداً: «عد إلى آلام فارتر»، قال لي ذلك من دون أي أثر للسخرية في صوته. فحاولتُ قراءته فعلاً، ليس لأني أبٌ مطيع جداً فحسب، إنما لأني فكرت كذلك بأن رواية غوته المشهورة قد تفيدني. لكنني لم أنته هذه المرة إلى البكاء في جنازة الشاب فارتر، كما حصل لي في المرة السابقة، ولم أستطع تجاوز الرسالة الثامنة، تلك التي يروي فيها الشاب المنكوب لصديقه غيليرم كيف بدأ يشعر بالسعادة في كوخه المتوحد. ووجدتُ نفسي باقياً في مكاني، حتى أنني لم أجد غرابة في اضطراري إلى عضّ لساني كي لا أسأل كل من التقي به: «قل لي يا أخي، اللعنة، كيف يمكن كتابة رواية؟».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى