«جنائن الهستيريا» قصص فلسطينيّة قطفت من عالم الجنون

صدرت لدى «مؤسسة شمس للنشر والإعلام»، في القاهرة، مجموعة قصصية عنوانها «جنائن الهستيريا»، للأديب والإعلامي الفلسطيني المقيم في السويد سعيد الشيخ، في 92 صفحة قطعاً وسطاً، وتتضمن 12 قصة قصيرة. وسبق للشيخ أن أصدر «دماء على الظلال» 1985 و»كما تفكر صحراء» 1998 و»أقصى الحب..أقصى الموت» 2000 .

ترصد «جنائن الهستيريا» مشاهد مشحونة بالألم والمعاناة في ظروف مختلفة خارجة على المألوف الاجتماعي، مرة واقعية وتخييلية مرة أخرى، بحيث لا يُستبان خيط في هذه النمطية السردية وهي تستشرف عالماً من الغرائبية مثيراً للاهتمام. والمؤلف الشيخ كاتب وشاعر فلسطيني وصحافي مستقل يكتب في عدة صحف عربية ومواقع إلكترونية، وعمل في عدة مؤسسات إعلامية فلسطينية بين بيروت ودمشق وقبرص.

يمضي الكاتب في مجموعته الجديدة إلى حيث المصائر المتشابهة عند نقطة الهستيريا، ويتوغل في أعماق اللحظة المرتبكة والحالات النفسية المضطربة اجتماعياً وإنسانياً وحتى سياسياً، كاشفاً عمق أزمة الكائن الإنساني مع قضايا عصره.

لا قصة عنوانها «جنائن الهستيريا» بين قصص الكتاب، غير أن مجموع القصص عبارة عن باقة قطفت من عالم الجنون الذي يتكوّن إثر الصدمات المختلفة تبعهاً لاختلاف الأمكنة واختلاف الوظائف الاجتماعية، من صدمات الحروب إلى صدمات الحرمان فالفقدان والاعتقال والمنفى، صدمات تحيل الإنسان على حالات من التمزق والتشوّش الذهني فتتنازعه المشاعر والأفكار التي تفقده توازنه وتجعله يشعر بنفسه غريباً وضعيفاً في لجّة بحر عميق تلاطمه الأمواج، وأحيانا يتحوّل هذا الكائن إلى ريشة تتطاير في مهب الريح مثلما انتهت حوادث قصة «زهرة الجنون».

قصة «عريٌ في ظلال الدبابات» هي الأكثر تعبيراً عن الحضيض الإنساني الذي تجلبه الحروب، فعندما تنهار المقاومة أمام همجية الغزاة، ويجد بطل القصة نفسه بلا وعي أمام موت جماعي يصيب أفراد عائلته من قذيفة سقطت على البيت، لا يسعه أمام هذا التمزق إلا أن يعلن جنونه أمام تقدم الدبابات إلى داخل مخيم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إبان اجتياح عام 1982، فيخرج عارياً من بين الدمار كأنه يعلن بالجنون تحدّياً التحدي أمام أدوات العدم.

قصة «غادرنا خضر ونحن نيام»، يمكن اعتبارها من أدب السجون مع تسليط الكاتب الضوء على معاناة المعتقلين أمام شدة شروط الاعتقال التي يفرضها السجّان «الإسرائيلي». والهستيريا في هذه القصة لا تظل من نصيب المعتقل الذي اختفى على نحو غرائبي وفي ظروف غامضة من خيمته المنصوبة تحت الشمس، فالهستيريا تنتقل إلى الجنود الذين راحوا يبحثون بلا جدوى عن آثار المعتقل المفقود، كما في حمّى التعذيب الذي أذاقوه لبقية المعتقلين كي يعترفوا بظروف اختفاء زميلهم التي يجهلونها هم أيضاً، لكن حديث الاختفاء يظل يشغلهم ويأتي إليهم بالدهشة والتحريض بالاختفاء.

في القصة الاجتماعية «المرأة التي أشعلت الجحيم» انهيار عصبي يصيب امرأة لم تحمل خلال سنين زواجها، ويكويها الحرمان فتترك بيت زوجها لتنتهي في قسم الأمراض العصبية. وتطلب من إدارة المستشفى منع زوجها من زيارتها عقاباً له. الزوج يعاني أيضاً عنها وعن نفسه فظروف الحرمان من البنين واحدة، وبقدر ما يظل ممتلكاً الإحساس بمعاناتها تقع هي تحت تأثير غياب هذا الإحساس حتى تنفصل عن الواقع، وحين يزورها عنوة في المستشفى لا تتعرف إليه، ويجدها تتخيل نفسها عزباء وأنها على علاقة عاطفية مع سائق الإسعاف الذي نقلها من بيت أهلها إلى المستشفى.

«الدرجة صفر للجنون»، شكّلها الكاتب في تلك الفانتازيا التي لا تقوم على مسوغات منطقية، وهو الجنون الذي لا يعترف به الطب النفسي، المعجون بخلطة سحرية تآمرية معظم الأحيان، يجعل الكائن الإنساني على اتصال بقوى غيبية تسد عليه منافذ الاتصال بالواقع، كما عبّرت عنه قصة «أنا الشيخ عبد الواحد». وما ذلك إلا واحد من الجن تسلل إلى جسد إنسية وسيطر على وعيها، ما جعلها في حالات من الغيبوبة والهذيان، ورؤية كائنات لا أحد يستطيع رؤيتها سواها.

لا أبطال يقومون بأعمال شجاعة أو يتركون بصماتهم بالحكمة بين شخوص هذه القصص. الجنون هو البطل الوحيد في الواقع الاجتماعي الذي يبدو غرائبياً وخارجاً على المألوف.

تتعدد أساليب السرد من قصة إلى أخرى، وإن غلب على معظمها الأسلوب التقليدي، إلاّ أن للكاتب بعض المحاولات التجديدية تتصل أيضاً بالفكرة، مثلما فعل في قصة «طيف رامبو» التي أراد منها أن تكون نصاً نقدياً يحمل في دلالاته الرمزية الإدانة للسياسة الأميركية تجاه العالم العربي.

نبضُ ذاتٍ يفسّخها الأنين والتأوّه، يوميات محطمة تحت مظلة اليأس، وسِيَر أفراد مدمّرين بالألم والقلق والخيبة، فيبلغون الحضيض. أرواح منشطرة أمام مرآة تنقلب على الواقع والمنطق وتلعب بالعقل، وحوادث تزلزل الإحساس الإنساني فتهتزّ الحياة تحت أقدامهم.

في «جنائن الهستيريا» اشتغال حريص من الكاتب سعيد الشيخ لتقديم عالم قصصي متكامل، لا يسمح به للعفوية بالاقتراب من مناخ القصص، أو لعوالم أخرى من غير عالم الجنون أن تحتل حيّزاً في الكتاب، كي يتفرد بهذه التحفة الأدبية المشغولة بتقنية وحرفيةعاليتين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى