الأقليات في تركيا… مشروع إبادة بتوقيع «سيفر» و»لوزان»

نظام مارديني

في البداية تبدو أي قراءة لا تأخذ في الاعتبار التركيب الاتنولوجي ـ السكاني للمنطقة سورية الطبيعية ـ أرمينيا ـ تركيا ـ إيران قراءة لا تصل إلى نتيجة، لأنها تتعامى عن الواقع ولا تستعمل المنهج العلمي في تحليلها للأمور، وبالتالي تبقى النتيجة النهائية لها مجردة من الواقع وبعيدة عن التفكير العلمي بالمستقبل.

وإذا كان من الأهمية الاعتراف بأخطاء الماضي، وبأن السياسات الشوفينية والعنصرية، التي قادت مراحل المنطقة نحو نقطة التأزم القصوى، إلا أنه ليس مهماً اليوم الخوض بأمور المسألتين الأرمنية والكردية كحدث حاصل، وفق قواعد معالجة السياسة الدولية الفرنسية ـ الإنكليزية ـ الأميركية ـ الروسية لها، لأن هذه القواعد ومن منظور الحدث السياسي، جعلت الأقليات شأناً مطلقاً غريباً عن المنطقة. ومن ناحية ثانية وضعتها في الموقع المعاكس لمحور الحياة العام الذي استقطبنا.

الأرمن والأكراد إذاً كانوا ضحايا التشابكات السياسية والأحداث المتأزمة، وهناك من عمد إلى استغلالهم كورقة ضغط باتجاه تغيير الوضع القائم، في السلطنة العثمانية… ليتحولوا بعد ذلك إلى وقود للمصالح التركية ـ الإيرانية ـ السوفياتية ـ الأميركية ـ الأوروبية.

أما عند الغوص في المسألتين الأرمنية والكردية كظاهرة في المنطقة، شأنها كباقي الإثنيات أو المذاهب، فإننا لا بد أن نصل لتوصيف عام، أو صورة جلية للحالتين الأرمنية والكردية، بحيث أننا نملك معلومات عن المسألتين وظرفهما التاريخي، وحتى بعضاً من ثقافة شعبيهما، وهذه المعالجة التي كانت من مهمة الإعلام العربي، استهلكت المسألتين بشكل كامل، ووقعت في المطب نفسه الذي تناولتهما به السياسة الدولية، لذا فإن ذلك الكم من التوصيف للمسألتين الأرمنية والكردية أبقاهما مطلقتين، وجرّدهما عن الانتماء للبيئة، وأغفل حقيقة أن تشابكاتهما المعقدة هي من صلب قضايا المنطقة الأساسية.

لن ننطلق ـ في نهاية مقدمتنا هذه ـ مما يسمى في السياسة بـ«نمط الاستبداد الشرقي» لأن اعتماد هذه النظرة سيجعل من أي معالجة للمسألتين الأرمنية والكردية، شأناً يخضعهما للعموميات، ولكننا سنعترف بأنهما تأثرتا بهذا النمط الذي طبق بعمومية المنطقة برمتها من دون أن تتعامل مع الواقع كأنماط حضارية فيها «المنطقة»، فكان نمط الاستبداد الشرقي شكلاً حكم المنطقة ككل، وإذا كانت نتائجه لا تزال حيّة فهي تبقى أقل حيوية وتأثيراً من أحداث معاصرة عنيفة وسريعة.

سياسة «فرق تسد»

منذ أوائل القرن العشرين تولّت جمعية تركيا الفتاة مقاليد الأمور، بعد انقلاب على السلطان عبد الحميد عام 1908 ومنذ سيطرة الضباط الأحرار على تركيا الفتاة، اتخذوا مواقف عنصرية متشددة من جميع الأقوام، ولضمان سلطتهم وهيمنتهم اتّبعوا سياسة «فرّق تسد» في ضرب الشعوب والجماعات بعضها ببعض، وبهذا أغرقوا البلاد في بحر من الدماء.

وفي هذا الصدد تنبغي الإشارة إلى قوات «الفرسان الحميدية» التي شكّلها السلطان عبد الحميد في نهاية القرن التاسع عشر، والتي كانت عبارة عن تجمّع لقوات المتطوعين من الإقطاعيين الأكراد، وقد حقّقت الحكومة التركية فتنتها هدفها الأول عندما شاركت هذه القوات أنصار تركيا الفتاة بمذابح الأرمن عام 1915. وفي الحرب ضد روسيا، إلا أن هذه القوات لم تبق على عهدها مع السلطان، إذ إن عدداً كبيراً من قطعات «الحميدية» انتقلت أثناء الحرب العالمية الأولى إلى جانب القوات الروسية وحملت السلاح ضد الحكومة العثمانية.

لم يلغ كمال أتاتورك مؤسسة «فرسان الحميدية»، بل خطط إلى استخدام هذه القوات في حرب عدوانية ضد أرمينيا وشعوب ما وراء القفقاس وكذلك في «تهدئة» الانتفاضات الكردية على أتاتورك ومؤسسته.

وحين نشبت الحرب العالمية الأولى عملت الإمبراطورية العثمانية على تصوير النزاع بأنه صراع بين النزعة الوحدوية الإسلامية المحمدية والقوى المسيحية في التفاهم الثلاثي الحلفاء . ومالت غالبية الرعايا العثمانيين بصرف النظر عن الخلفية العرقية، إلى قبول هذا التصنيف على علاّته إلا أن موقف شريف مكة المتحالف مع البريطانيين كان استثناءً في ذلك الوقت قضى على الزعم العثماني بأن الحرب هي صراع بين الإسلام ودار الحرب.

وبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، اشتدت نزعة التعصّب التركي الداعية إلى تتريك وصهر «الأقليات» الإثنية بالقوة. وكل ذلك ساهم في تكوين الوعي القومي عند الأقليات السورية والأرمنية التي تطوّرت وتعزّزت حركتها التحررية. ولا حاجة للبرهان هنا على أن هذه الوقائع قد طرحت على بساط البحث استقلال الجزء المحتل من أرمينيا والمناطق السورية اسكندرونة وديار بكر ومرعش وأضنة وعنتاب وماردين ونصيبين وهكاري ولهذا السبب ما إن وصل كمال أتاتورك إلى شرق الأناضول، حتى قام بتجميع القوى لتعزيز مواقع الأتراك في هذه المنطقة التي يسكنها السريان والأكراد والأرمن. وليس عبثاً أن أول سفير سوفياتي في تركيا «س.ي. أرلوف» أشار إلى فهم أتاتورك الخاطئ لحق الأمم في تقرير المصير، كتب السفير يقول: «إن كمال أتاتورك كان يدافع عن حق الأتراك في الاستقلال، في حين أنه كان يرفض مثل هذا الحق للأرمن والأكراد».

إن فشل أول ثورة كردية بداية 1919 لنيل استقلالها لم يعن أن الأتراك الكماليين استطاعوا القضاء عليها، بل اعتبرت الثورة في هذه المرحلة كعامل من العوامل المهمة التي استقطبت اعترافاً دولياً بها، وقد تكرّست بعد ذلك عبر معاهدة «سيفر» الموقّعة في 10/8/1920، وعلى رغم أن هذه المعاهدة بقيت حبراً على ورق، فإن بنودها احتوت على مؤشرات مهمة في تحديد سياسة الدول الغربية الكبرى في الشرق الأوسط، كما حدّدت موقع ومستوى الحركة التحررية الكردية التي ما كان من الممكن تجاهلها… إنها شكّلت انعطافاً مهماً جداً في تطور المسألة الكردية.

غير أن اتفاقية سيفر كانت ميتة منذ ولادتها، مع توطد مواقع كمال أتاتورك في السلطة، إذ ما لبثت أن استبدلت بمعاهدة «لوزان» عام 1923 التي احتفظت بموجبها تركيا بكل الأراضي التي تسيطر عليها تقريباً، ولم يرد ذكر المسألة الكردية في هذه المعاهدة.

أما على صعيد المسألة الأرمنية، فبعد انهيار تركيا في 30/10/1918 انطلقت مرحلة جديدة من الكفاح القومي الأرمني دفعت الجسم الدولي وقتها إلى الشعور بمعاناته جراء العنصرية الطورانية، التي تجاوزت النازية بممارساتها وبأشواط بعيدة جداً.

ولما جرى التوقيع على اتفاقية «سيفر» 10/8/1920 اعترف العالم بأرمينيا كدولة مستقلة ذات سيادة، والتي اشترك في التوقيع عليها ممثل الأرمن أواديس أهورانيان، اعترف العالم بأرمينيا كدولة مستقلة ذات سيادة، إلا أن بنودها بقيت أيضاً كمثيلتها الكردية حبراً على ورق، بعد مجيء أتاتورك إلى السلطة، وارتكابه مجزرة إزمير ضد الأرمن، التي ذهب ضحيتها ما يقارب الألفي أرمني 2000 على أرصفة المرفأ وأمام سفن الحلفاء.

واستبدلت «سيفر» بمعاهدة «لوزان» التي أصابت الحركة القومية الأرمنية في الصميم، وبصدمة كبيرة، إذ لم تأت على ذكر الشعب الأرمني وحقوقه القومية، بل كرست سيطرة تركيا على الجزء الغربي من أرمينيا أهم مدنها: قارص ـ أردهان ـ طرابزون .

أما بالنسبة إلى العلويين، فلا وجود لإحصاء رسمي معترف به لعدد السكان، إذ لا يوجد اعتراف رسمي بهم، بعد أن حظرت ممارساتهم منذ أن أصدر أتاتورك سنة 1925 قانوناً حظر فيه المجموعات الدينية.

إن نفي حق الشعبين الأرمني والسوري السريان، الأكراد في الاستقلال، وعلى رغم اعتراف سيفر القانوني، هذا النفي جاء نتيجة لتآمر الاستعمار وتركيا كما تبيّن لنا الذي اكتسب في «لوزان» اعترافه وصيغته القانونية. وهذا ما أكّد عليه الروسي «باسيل نيكتين» لدى تقييمه لمعاهدتي سيفر ولوزان، إذ اعتبر «معاهدة لوزان لم تفعل شيئاً بل تعتبر من وجهة نظر القانون الدولي خطوة إلى الوراء».

هكذا استبيحت حياة الأقليات العرقية في تركيا وأشيعت عمليات القتل الجماعي والإعدامات، وبأشكال متنوعة ودونما توقّف أو تباطؤ.

الأيديولوجية العنصرية

من ركام هذه التفاصيل النارية، واللهب الذي تصاعد من جراح الذاكرة، ثمة رأي عام يؤكّد أن مشاريع إبادة الأرمن والسريان والأكراد. استمدّت جذورها من الأيديولوجية العنصرية لتركيا الطورانية. التي على رغم رفضها تحمل مسؤولية عمل قامت به جمعية الاتحاد والترقّي، منذ قرن، إلا أنها تدرك جيداً أن اعترافاً من هذا النوع يعني استعادة الأراضي السليبة التي هُجّر منها الأرمن والسريان والأكراد.

لا شك في أن جريمة إبادة الجنس، التي مارستها الدولة التركية، شكّلت أهم الاعتداءات على حق الشعوب. ليس ثمة ما هو أشدّ خطورة على الصعيد الجنائي، من السياسة الحكومية المتعمدة الرامية إلى الإفناء المنظم لشعب، نتيجة هويته التاريخية الخاصة.

ولعلّ رسالة طلعت بك وزير الداخلية التركي 15 ـ 9 ـ 1916 عبرت عن النهج الفطري المتأصل في الأتراك تجاه الشعوب التي ليست من عرقها ولا من دينها في رأيهم «هذه الشعوب ليست من بني البشر في حقوقها بل هي دواب فقط… يجب أن يدمّروا من دون شفقة»، لعلنا لا نستطيع التمييز بين هذا النص والنصوص التلمودية التي تدعو إلى إبادة الجنس البشري.

ففي ربيع عام 1924 قدمت الأوساط الطورانية مشروعاً لإقامة مناطق أو خط استقرار للأقليات القومية. وبمقتضى هذا المشروع على الأرمن السكن شرق خط صامصون ـ سيليفكا، وعلى الجورجيين ولاية ريزا، اردخان وقارص ـ ولم يستطع السوريون السكن في المناطق المجاورة للهلال الخصيب. وقد حظر على غير الأتراك بناء مراكز سكنية مستقلة. أما في المدن فقد تقرر أن لا تزيد نسبة الأقليات على 10 في المئة من مجموع السكان، كما تقرر تهجير ما لا يقل عن 200 ألف شخص.

وعلى رغم أن هذا المشروع أثار جدلاً، فإن كثيراً من بنوده طبقت في الواقع، وكان وضع الأرمن صعباً على وجه الخصوص، خصوصاً بعدما شن المجلس التركي حملة مسعورة ضدهم. وأعلن خالد بك ـ نائب أردهان ـ وسط تصفيق أعضاء مجلس الأمة أن «مستقبل وسعادة الأمة الأرمنية هو في أيدي الأتراك. ولو أخذنا في الاعتبار قتل مجموعة من الشهداء الأتراك… وقتل جمال باشا وغيره من الأبرياء… لكان علينا أن نقضي على الشعب الأرمني ونبقى حاقدين على الأرمن.

ونتيجة لهذه السياسة فإن البقية الباقية من السكان الأرمن، أرغموا في النصف الثاني من عشرينات القرن الحالي إما إلى الهجرة خارج تركيا، أو الانتقال إلى مدينة اسطنبول. وأما الأكراد فقد ظلوا يتعرّضون للاضطهاد العرقي وما زالوا…

في حزيران عام 1934 أصدر المجلس قانون الاستيطان رقم 2510 الذي تضم الحكومة بموجبه برنامجاً للهجرة وتوزيع الأقليات. لقد جرى تقسيم أراضي تركيا، وفقاً للخريطة التي وضعتها وزارة الداخلية والمصدّقة من الحكومة إلى مناطق.

الأولى: تضم المناطق التي يجب أن يتمركز فيها الأتراك.

الثانية: تتكون من المناطق المخصصة لتوزيع المهاجرين الذين يجب أن يتشرّبوا الثقافة التركية.

الثالثة: تضم المناطق التي يجب إخلاؤها لأسباب اقتصادية وصحية وثقافية وسياسية وعسكرية، ويمنع التنقل أو السكن فيها… ونظراً لأن الأكراد والأرمن كانوا يعيشون بصورة رئيسية في هذه المناطق، فإن مسألة تهجيرهم قد أصبحت أمراً مفروغاً منه.

أخيراً… هذا مختصر للسلوك التركي «الديمقراطي» تجاه «الأقليات» الإثنية والمذهبية، الذي يحول دون أي طموح في الحرية والاستقلال.

أما مواقف الدول المنتصرة في الحرب وبخاصة إنكلترا وفرنسا، فلم تكن بأفضل من مواقف الطورانيين تجاه الشعوب القاطنة في ظل الإمبراطورية العثمانية. لأن هذه الدول ـ على رغم تغنّيها بالمبادئ والقيم الإنسانية ـ استغلّت هي الأخرى طموح وتطلعات هذه الشعوب في التحرر من النير العثماني أبشع استغلال. ويكفي التذكير هنا كيف أن معاهدة «سيفر» التي أقرت بحق الكردي والأرمني في الاستقلال، استبدلت بمعاهدة «لوزان» بعد أن رضخ الأتراك لشروط الحلفاء، وكفوا عن معارضة فرنسا وإنكلترا في تقسيم المنطقة، أو ما سمي بتركة الرجل المريض، في ما بينهما بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو. هذه الاتفاقية ذاتها التي مهدت لقيام دولة الاغتصاب «الإسرائيلي» على الجزء الجنوبي من بلادنا السورية، التي شاءها القدر أن تكون هي الأخرى ضحية المؤامرات والتقسيمات من الشمال والجنوب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى