تحوّلات مجتمع وخصائصه… من مسرح الدم إلى مسرح السياسة

نظام مارديني

كثيرة هي الكتب التي عالجت المسألة الكردية في العراق ورسمت أحلام الدولة الموعودة لهم، إلاّ أن كتاب «كرد العراق» الذي صدر حديثاً لدى «دار الساقي»، للباحثة أوفرا بينغيو، يعتبر سرداً جديداً في 432 صفحة للتحوّلات المعقّدة التي تواجه الكرد وتأثيرهم الكبير في الخريطة الجيوستراتيجية للمنطقة برمّتها.

تعتمد الكاتبة في عملها على ثروةٍ من الموادِّ والمصادر التي ساعدتها في تتبّع ظهور «الهوية» الكردية في العراق من خلال تناولها بالتفصيل التحولات الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية التي مرّ بها المجتمع الكردي العراقي خلال نحو خمسة عقود. وتركّز على العمليتين التوأمين: تشكيل الأمة وبناء الدولة، وتعرض كذلك لخصائص الحركة الكردية في العراق التي تميزها عن «المجتمعات» الكردية في البقاع الأخرى.

تخلص الكاتبة إلى أنه رغم تمسك الأكراد بوحدة أراضي العراق وسلامتها بصيغتها الفيدرالية، إلاّ أنهم اتخذوا خطوات مستقلة وواضحة في مجال العلاقات الخارجية، رافعين الرهانات بذلك لجميع اللاعبين الإقليميين والدوليين، إلاّ أن إحدى الأدوات المهمة في بناء الدولة بالنسبة إلى الانفصاليين الطامحين هي القدرة على إقامة علاقات خارجية بصورة مستقلة عن الدولة، أي في القدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى.

حصل الأكراد قبل الاحتلال الأميركي على دفعة هائلة من القوى الخارجية، من حروب بغداد الغبية المستمرّة ضد الكرد، ومن توفير تركيا شريان الحياة في فترة حرجة من فترات بناء الدولة الدولة الكردية انظروا إلى تركيا، التي مارست في الداخل أقبح دور ضد أكرادها ذهب ضحيته أكثر من أربعة آلاف قرية وعشرات ألوف من الضحايا، ولا تزال إلى اليوم تمارس هذا الدور القذر، وما اعتقال رئيس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلاّ نموذج لذلك… «انتهى تعليقنا» ، ومن لاعبين آخرين مثل الولايات المتحدة ودورهم كوسطاء، انتهاءً بتعبئة الكرد للحرب ضد البعث.

ترى الكاتبة بينغيو أن النشاطات المشابهة للحرب ظلت جزءاً من صناعة السياسة الخارجية الكردية، لكن مع مرور الوقت ظل التوازن أكثر من مستقر في العلاقات الخارجية عن طريق النشاطات السياسية ـ الدبلوماسية. تضاف إلى ذلك مواقف اللاعبين الدوليين المختلفين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا، الذين سعوا إلى احتواء بغداد عن طريق حكومة إقليم كردستان. لكن بسبب الاقتتال الكردي ـ الكردي تعذر على حكومة إقليم كردستان القيام بهذا الدور، ما أدى إلى بدء نشاطات الوساطة المحمومة من قبل اللاعبين الخارجيين، وهي نشاطات ساعدت في تطوير علاقات الكرد بتلك القوى الخارجية التي كانت تعتبر محادثيها الكرد ممثلين عن كيان كردي وليس عن الدولة العراقية التي لم تكن لبعض تلك الدول علاقات دبلوماسية معها.

الغريب هنا ان التعامل مع الكرد على أنهم كيان منفصل كان جليّاً حتى في موقف الحكومة المركزية في بغداد حيال المشكلة الكردية أكثر من أي أمر آخر. وهذا الموقف يتجلى في أوضح صوره من خلال تصوير بغداد مشاركتها في معركة أربيل عام 1996 بكونه رداً مباشراً على طلب مسعود البارزاني، وهذا غريب حقاً، لأن الدولة ذات السيادة عادة ليست في حاجة إلى طلب إذن من مواطنيها لكي تتصرف على أراضيها، والأغرب جهود الوساطة التي انخرطت فيها بغداد بين الفصائل الكردية التي قاتلتها ماضياً حتى الموت.

كانت التدخلات الإيرانية والتركية في شمال العراق حقيقة صارخة ومؤشراً إلى التغييرات العميقة التي مرت بها المنطقة منذ حرب الخليج، كذلك نتائجها البعيدة المدى. فكردستان أصبحت بعيدة عن متناول النظام وعرضة للاستغلال ضد بغداد من مختلف القوى الأجنبية، وحاولت بغداد ثني الدول الإقليمية عن التدخل في كردستان، وسعت إلى تكليف مصر بمهمة تشجيع الحوار بين النظام والحزبين الكرديين لكنها فشلت، رغم خطبة صدام التصالحية التي قال فيها «إن «شعبنا الكردي» عانى الكثير ولكنه الآن في مرحلة نقاهة، ولذلك يجب أن نعامل شعبنا الكردي كأنه من الذهب والألماس».

الملاحظ هنا كيف فشلت الوساطات الإيرانية أيضاً وكيف تقدم الدور التركي القوي في شمال العراق، وهو تقدم كرّس الانقسام الكردي ـ الكردي، بين الحزبين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردستاني «حدك» والاتحاد الوطني الكردستاني «أوك» من جهة. والدعم الذي تلقته أنقرة من البارزاني للقيام بعمل عسكري ضد حزب العمال الكردستاني bkk ، رغم إنكار «حدك» لذلك، لكن رد فعله بعد يوم من بدء عملية «المطرقة» العسكرية فضح نيته، فبدلاً من إدانته العملية العسكرية التركية، مثلما كان يفعل في العمليات السابقة، اتهم «bkk»بأنه المتسبب بها. وهذه الواقعة تشير إلى الاعتماد المتبادل الذي ظهر بين تركيا و»حدك». فالحاجة إلى كبح جماح «bkk» أصبحت القاسم المشترك بين الطرفين لفترة من الزمن.

الحدث الذي منح صناعة السياسة الخارجية الكردية دفعة قوية إلى الأمام، كان حرب 2003 على العراق التي انتهت باحتلاله من قبل الولايات المتحدة، ولكن ما غير موازين القوى وفتح الباب واسعاً أمام هذا التغيير هو الاجتماع السري بين البارزاني والطالباني وجورج بوش الإبن في نيسان 2002، وكانت تداعياته مهمة على العلاقات الكردية ـ الأميركية، ومن نتائج هذا اللقاء توقف الخلافات الكردية ـ الكردية وبدء الاستعداد للحرب على بغداد التي لعب فيها الكرد دوراً كبيراً.

وفي إيجاز، كانت الحرب فرصة ذهبية للكرد لكي يخلّفوا أثراً على الساحة المحلية والإقليمية والدولية. ومن موقع قوتهم هذا أضحى سهلاً للكرد أن يكثفوا مبادراتهم لبناء الدولة وتطوير مشروعهم الذاتي.

تمكن الكرد خلال السنوات التي أعقبت سقوط صدام ونظامه في ربيع 2003 من قذف أنفسهم إلى وسط مسرح السياسة العراقية، وكانوا يعملون في الوقت نفسه بحيوية على بناء كيانهم الخاص بهم. كما وفّر لهم الفرصة ليلعبوا دوراً مهماً في بناء الدولة العراقية، رغم ما بدا من تناقض بين دورهم في المركز وفي الإقليم الكردي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى