قراءات في سفر العدوان… سلوك الوحش ينبئ بالنهاية

محمد ح. الحاج

صادف قبل عقدين ونيّف أن مررت بمنازل لرعاة أغنام في منطقة من البادية وكانوا في تجمّع وفوضى، وعلمت أنّ ذئباً أغار على قطعانهم فقتل الكثير وأخذ رأساً من الغنم ولم يتمكنوا من اللحاق به أو قتله لانعدام آلية قادرة على ذلك، وكانت لديّ سيارة حقلية فقررت نجدتهم والتخلص من الذئب المجرم. وبعد تجوال في المنطقة لأكثر من ساعتين تراءى لنا على مسافة فاتجه السائق نحوه وبدأت المطاردة، وعندما اقتربت منه السيارة أطلقت عليه النار مرتين فتحطمت ساقاه الخلفيتان وسقط. الغريب أنه استدار وبدأ ينهش الأرض والحجارة حوله. كذلك بدأ يعضّ ذيله وساقيه المحطمتين، وعند محاولتي النزول من السيارة لأرى هذا القاتل عن قرب منعني المرافق البدوي بقوله: احذر، سيهاجمك قبل أن تقضي عليه وقد يقتلك، فأجهزت عليه وحملناه إلى منطقة المخيم ليراه الجميع.

هذه الحادثة تدفعني إلى المقارنة بالسلوك المتحوّل للعصابات الإرهابية التي تستبيح وطني، إذ يلاحظ المواطن العادي أنّه كلما ضاق الخناق على مجموعاتهم وفي سائر الأماكن تلجأ هذه المجموعات إلى توجيه نيران أسلحتها إلى المناطق المدنية الآهلة بالسكان أو توجيه الإرهابيين بسيارات مفخخة إلى قلب الأحياء الآمنة التي أضحت مكتظة بالنازحين عن بيوتهم طلباً للسلامة. هؤلاء تلاحقهم قذائف الهاون، ومدافع جهنم. والسيارات المفخخة يقودها انتحاريون فقدوا الحس والوعي بفعل حبوب الهلوسة والمواد المخدرة، فما عادوا يميزون بين طفل وامرأة أو شيخ عاجز، أو حتى الموقع المستهدف، وربما يتم تفجيرهم عن بعد. وما هو مطلوب من بعضهم فحسب، قيادة الآلية المحشوة بأدوات القتل والتخريب، في دمشق، حمص، حماه، السلمية، حلب واللاذقية، بل وفي كل مكان من دون استثناء. إنها عملية إبادة تستهدف أكبر عدد من أبناء الأمة السورية لم ولن تؤدي إلى نتيجة على أرض الواقع، فلا معارضات الفنادق الدولية واصلة إلى الحكم وهذا حتمي يعلمونه، ولا الدولة السورية بوارد رفع الراية البيضاء والاستسلام وتسليم إدارة الدولة لعصابات داعش والنصرة وأجناد الشام وعشرات الأسماء الرنانة، ليقيموا إمارات الحارات والقرى وليس ممالك المدن فحسب، في عودة إلى ما قبل الزمن الجاهلي وليت يكفي توصيف ذلك بأنه عودة إلى شريعة الغاب و… حكم الذئاب.

جسد الإرهاب المثخن بالجروح لم يسقط بعد بفعل الدعم الخارجي وتزويده المنشطات من كل حدب وصوب، بل ورفده بأعداد جديدة يتمّ تجنيدها في العديد من مناطق العالم. أما الدول التي تدعي « صداقة « الشعب السوري والعطف عليه فها هي تمدّ أيديها شاهرة الخناجر المسمومة لتغرسها في ظهر هذا الشعب وما تجرأت على مواجهته. شيمتها الغدر والتآمر، ووسيلتها إعلام كاذب. تستعطف البسطاء بدموع التماسيح. مع ذلك كله ما عاد في أوساط هذا الشعب من تنطلي عليه الدعاوة، ويسألني عجوز بسيط: يقولون إن الدولة تقصف المدن بالبراميل فتهدم البيوت وتقتل المواطنين… هل ذلك صحيح فعلاً؟ قلت: بلى هذا صحيح، لكنها، لا تقتل المواطنين بل رجال العصابات الذين استولوا على القرى والأحياء ونهبوا بيوت المواطنين وجعلوها ملاذاً آمنا ومنطلقاً لاعتداءاتهم على القرى والبلدات والأحياء التي لم يتمكنوا من دخولها ورويت له القصة الواقعية التالية.

ذات يوم دخل رجل على قيادة موقع عسكري وطلب مقابلة القائد، وبعدما سمح له قال: يا سيدي، مزرعتي في مكان… أخرج المسلحون العمال والحراس ونهبوا المحتويات والأدوات، وهم يتخذون منها منطلقاً للاعتداء على ضاحية…، وأنا بصفتي مالكها، وهذا مستندي، أطلب منكم قصفها وتدميرها وأتعهد المطالبة بأي تعويض، رغم أنها ثمرة عمري وجهدي وشقائي طوال عقود… والتفت القائد إلى الضباط حوله ليرى في عيونهم نظرة استغراب ودهشة، وسأل المواطن: هل أنت متأكد من أن أحداً من عمالك أو من الجوار لم يعد داخل المزرعة أو أي من أبنيتها؟ فأكد ذلك جازماً وأصرّ على تدمير المزرعة بكل ما فيها، فيللا، ومعملاً ينتج، ومساكن عمال… وعندما وعده القائد بأنه سيحصل من القيادة على الإذن اللازم. تنهد بارتياح وطلب خريطة ليؤكد الموقع عليها.

نظر العجوز باستغراب وبعد صمت قلت له : هل لو كنت مكان الرجل تحذو حذوه؟ أجاب من دون تردد: بلى، إيه والله… هؤلاء يجب أن يموتوا، أن يقضى عليهم قبل أن يستفحل إجرامهم. قلت مستدركاً: يا سيدي الدولة لا تقصف ولا تضرب إلاّ بعد أن تتأكد خلو الموقع من المدنيين وأن لا وجود إلاّ لتجمعات العصابات ومعظمهم من جنسيات غريبة. الدولة حريصة على أبنائها، مواطنيها، وعلى أموالهم وبيوتهم. الدولة هي القادرة على إيواء مواطنيها، وتعويضهم عن ممتلكاتهم في الوقت الذي تدفع فيه دول العدوان أموالاً طائلة لتدمير هذا البلد وقتل مواطنيه… ألم تحصل ثورات في بلادنا يوم كنت شاباً؟ هل خرب الثوار بيوت المواطنين؟ هل نهبوا أملاكهم؟ هل قطعوا عنهم المياه، وهل حاصروهم ومنعوا عنهم الطعام؟ الدولة يا أخي لم تقطع الكهرباء ولا الماء ولا الوقود عن المناطق التي يسيطر عليها رجال العصابات، ولم تمنع مواد الإغاثة مع علمها أن هؤلاء كانوا يسطون عليها من أيدي المواطنين، نهبوا مستودعات الحبوب والوقود والأدوية والأغذية وكل ما طالته أيديهم الآثمة. باعوها للأعداء، تاجروا بالأعضاء، استولوا على مصادر الطاقة الكهربائية ومارسوا دور العفريت على مخازن المياه والطاقة. قطعوا الكهرباء عن حلب ويهددون بقطعها عن دمشق! هم يعاقبون شعباً بكامله، أما صراخهم وشكوى من يدعمهم من قصف الطيران لهم بالصواريخ أو بالبراميل فأمر غاية في الغرابة. هل كانوا يتوقعون أن تقف الدولة مكتوفة اليدين وهم يخربون بنيتها أو ينهبون ثروات شعبها، يقتلون علماءها ويخربون دور تعليمها ومشافيها؟! أم كانوا ينتظرون أن تلقي عليهم الطائرات براميل المن والسلوى وقطع الحلوى، أو تقذفهم بباقات الورود بدل الصواريخ؟! حي عكرمة يا سيدي يضم بين أرجائه من كل ألوان الطيف السوري ومثله أحياء حمص الأخرى، كذلك في أحياء دمشق وحلب وإدلب واللاذقية، كل الذين هُجّروا من بيوتهم في الأحياء التي وقعت تحت رحمة المسلحين، فتح لهم إخوتهم في الوطن بيوتهم وتقاسموا معم اللقمة والزاد. هذه الأحياء ليس فيها معسكرات ولا مطارات. يقصفونها يومياً ويفجرون فيها السيارات. أحرقوا الصيدليات وأصابوا المدارس ودور العبادة وأسواق الخضار ومحلات المؤونة وسقط الباعة، والنساء والأطفال والشيوخ، واحترقت سيارات المواطنين، فكيف للمواطن أن يصدق ادعاءهم بأنها الدولة وقد بات جلياً للجميع وبمنتهى الوضوح مصادر النيران، وجميعنا نستطيع المقارنة بين سلوكهم الوحشي وسلوك الدولة وأجهزتها الإدارية والأمنية.

وبعدما رويت له قصتي مع الذئب، تهلل وجهه وقال: بلى يا أستاذ، نحن في حضرة أعداد كبيرة من الذئاب، بعضها سقط، وأغلبها جريح مصاب بالتوحش، والأخطر من الجميع أولئك المحاصرون الذي أدركوا أن النهاية قريبة لا محالة، وهم ينهشون بعضهم، هدفهم القتل للقتل، يأساً من الحياة وانتقاماً من شعب لم يرضخ لرغباتهم. بعد الآن لن أهتم بما أملك. أريد الأمن والأمان لي، لعائلتي، لأبناء بلدي، لوطني، وليذهب هؤلاء جميعاً إلى الجحيم… بالبراميل المتفجرة، بالصواريخ، تمزيقاً أو حرقاً، لا فرق. المهم أن نتخلص منهم ونصل إلى برّ الأمان. نثق بالدولة. ستعيد بناء ما تهدم، وبناء الإنسان المجتمع، وهذا الأهم…

قبل أن يتركني ويمضي في حال سبيله قال : نوّرك الله يا أستاذ فقد كنت في شك من أمري وحيرة… اذكرني، فأنا سأظل على عهدي للوطن ولأبنائه ولهذا الجيش البطل… سننتصر، ستنتصر سورية حتماً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى