قواعد البناء في دولة الاستقلال الوطني

حاتم الشلغمي

من البديهي أن يربط الاستقلال بإقرار المحتلّ بهزيمته أمام الوعي الوطني المقاوم واستعداده لإجلاء قوّاته عن الأرض. ومن البديهي أيضاً أن يمثّل الاستقلال ثمرة نضال وطني واسع ضد أشكال الاحتلال ومشاريعه كافة. ولكن علينا التساؤل أيضاً: ما قيمة الاستقلال إذا أخذ المستعمر معه السيادة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى؟ وأي دور لمؤسّسات دولة الاستقلال إذا ارتبطت بمصالح أيّ قوى استعمارية أخرى؟ وهل الاستقلال مرتبط بالأرض أم بالشعب أو بالأحرى العقل أو بكليهما معاً؟

في مثل هذه الظروف التي يعيشها العالم العربي عامة، نحتاج أكثر من أي وقت مضى الى توضيح مفهوم الاستقلال والسيادة والدولة لكي يصحَّ ترسيخها في الوعي الجمعي العربي العميق ثم تكريسها في المنظومة المؤسّسية الوطنية عامة. لا يخفى علينا أنّنا نتعرّض لمحاولة استعمار جديد، قد لا يكون بشكله الكلاسيكي المتمثّل في وضع اليد عسكرياً على بلد ما التي كان آخرها الاحتلال الأميركي للعراق، إنما يتم تخييرنا بين ضربين من الاستعمار أو بالأحرى الخضوع لنسقين من الاحتلال. إمّا الخضوع للدول الاستعمارية تاريخياً ومن أبرزها الولايات المتحدة الأميركية تشاركها في ذلك سلطة الاتحاد الأوروبي، أو النسق الرجعي التكفيري بشقّيه «الإخواني» الذي تدعمه قطر، أو الوهابي الذي تدعمه السعودية، وكلاهما يتقاطع موضوعياً مع الخلفيات والمصالح الصهيو-أميركية. فهنالك بلدان تواجه غزواً فكرياً وتمانع دون السقوط في غياهبه مثل تونس ومصر، وهنالك دول تواجه غزواً فعلياً بكامل ثقله الفكري والعسكري، رغم تغيّر التكتيك المتّبع، مثل سورية المعروفة بسيادة قرارها الوطني واستقلاله، ويراد لها بخاصة، وللعالم العربي بعامة، بلوغ مرحلة «الانحطاط» الذي يعرّفه روجيه غارودي بـ»قطع أواصر النسيج الاجتماعي، لتحويل المجتمع الى ذرّات، لتخريب العلاقات بين الجماعات القومية، الاجتماعية والدينية، عندما لا تعتبر الوحدة هدفاً نهائياً وغاية كبرى» 1 .

إذن نحن في حاجة الى تحيين مفهوم الاستقلال الى مفهوم أعمق وأشمل من أن يكون مجرّد توقيع معاهدة استقلال من طرف جماعات نخبوية سياسية معينة مع الطرف المقابل المتمثّل في المستعمر بغية إنهاء أشكال «الحماية أو الوصاية أو الانتداب» وإجلاء الجنود عن الأرض وإعلان التحرير. بل نحتاج الى توسيع هذا المفهوم، على أهميّته، ليشمل استقلال العقل والشخصية العربيتين عن كل ما هو رجعي سواءً للاستعمار أو لمسبّباته وأهمها الجهل واحتكار السلطة الدينية والملكية أو الحكمية ومستوى تدخّلهما في إدارة الشأن العام. فلا جدوى من مفهوم ضيّق للاستقلال أو بالأحرى تحرير للأرض بلا تحرير للعقل من كل ما يترتّب عنه الاستعمار من تشويه وتحريف وضرب لهذا الوعي. فالاستقلال الحقيقي هو ثمرة الوعي المقاوم والوعي الحر.ّ ثمة فرق شاسع بين تحرير الأرض وتحرير العقل، فالشعب الحرّ هو دوماً شعب سيّد حتى، وإن تكن أرضه تحت الاحتلال، فالقوة العسكرية تستطيع ممارسة الإكراه على الجسد، لكنّ تأثيرها في العقول والقلوب يظلّ موضع شكّ 2 ، أما الشعب المضلّل دائماً هو شعب فاقد للسيادة وللقرار حتى وإن تكن أرضه محرّرة وحتى وإن يكن يعيش نشوة الاستقلال الظاهري. صحيح أن الأرض هي عنصر مقوّم من مقوّمات الهوية الوطنية، لكن لا معنى للأرض ولا للهوية من دون عقل حرّ يفقه معنى الاستقلال والسيادة ويمسك بأسباب التطور والبناء، بناء الدولة في ظلّ السيادة. ربّما في هذا السياق يمكننا أن نتساءل: أين تكمن المشكلة؟ هل في مفهوم الدولة أم في ضوابط الاستقلال ومقوّماته؟

الدولة الحق هي ذلك الجهاز المكوّن لمنظومة الأجهزة التنفيذية القائمة أساساً على مفهوم الحكم الذي يستمدّ ضمنيته ومشروعيته من خلال عملية تطبيق تعاقد بين فئتين من المحكومين أي المواطنين ، تهتم الفئة الأولى الذي وقع انتخابها بمهمات إدارة شؤون الفئة الأخرى من المواطنين وتعمل على ضمان استمرارية هذه الدولة، وأن كلّ خرق ترتكبه الفئة الأولى الحاكمة في حقّ الدولة أو في حق الفئة الثانية المحكومة يعدّ انحيازاً سلطوياً قد يزعزع ثقة فئة المحكومين في الدولة، ما قد يؤثّر سلبا في مفهوم الاستقلال الوطني الذي باتت تحتكره فئة الحاكمين، أي السلطة. إن الهدف الأسمى من تأسيس الدولة أو بالأحرى مفهوم الدولة، ليس التسلّط والسيطرة وإنما التحرير بكلّ ما يحمله المصطلح من معاني. فالدولة ليست تكريساً لتحرير الأرض فقط وإنما لتحرير العقل، وبخاصة تحريره من أشكال الخوف كافة ليستطيع الفرد بذلك القيام بوظيفته الطبيعية تجاه نفسه وتجاه غيره وتجاه دولته وأن يحتفظ بقدر الإمكان بحقّه الطبيعي في الحياة من دون إلحاق أي ضرر بالآخر 3 . ومن أهداف الدولة ليس إنتاج فرد خاص وإنما إنتاج مواطن عالمي في خصوصيته الوطنية. كما أن من أسس الدولة تحقيق نظام العدل لتكوين بنية أساسية مجتمعية عادلة يكون فيها الفرد خاضعاً للمبادئ الإيتيقية بعقلانية التي ستحقق السيادة العقلية للفرد وبدورها تحقّق السيادة في عقل الدولة ذاتها، فأيّ تعريف للسيادة نقصد؟

في ظلّ الواقع العربيّ، بات مفهوم السيادة مهدّداً. وحين نقول «سيادة» نعني بذلك قراراً، بمعنى أن السيادة الوطنية هي حرية اتخاذ القرار الوطني بما يلائم مصلحة الدولة المستقلّة، بعيداً عن تأثير أو تهديد أي جهة خارجية خاصة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. والدولة الوطنية السيّدة هي التي تضمن مقوّمات استقلالها من تمويل المعرفة وتموينها وتجهيزها وتصنيعها وإنتاجها. وفي هذا الإطار يكون لها الحق في المشاركة الحرّة في كلّ ما هو عالمي. في هذا الإطار نرى أن مشروع «الربيع العربي» هو تطبيق جديد لـ»سايكس ـ بيكو» الذي لم يكن يهدف الى تقسيم «المستعمرات» فحسب، وإنما إلى استغلال حاجتها الى الاستقلال لتثبيت أجهزة في شكل أنظمة مرتبطة باقتصاد السوق العالمية وقد يتغيّر شكلها بتغيّر حاجة السوق. تحديداً مشروع «الربيع العربي»، وهو «سايكس ـ بيكو» جديد لا يهدف الى تقسيم المقسّم فحسب لأجل إضعافه بل استغلال حاجة البلدان الى مفهوم الحرّية والديمقراطية التي لم تحقّقه أنظمة الاستقلال والتحديث وتشكيل أنظمة جديدة خاضعة تماماً لنظام سياسي ومالي معيّن تديره الولايات المتحدة الأميركية عبر جهاز صندوق النقد الدولي وجهاز الشركات الاحتكارية اللذين سيحتكران استغلال الثروات الوطنية للدول وتمويل أطرها. ويكون بذلك شكل جديد و»ناعم» للاحتلال الذي يحوّل الدول الى مجرّد كيانات استغلال، وقد يحتاج ذلك في بعض الأحيان الى توجيه ضربات عسكرية تذليلية وهذا ما وقع في ليبيا وكاد يقع في سورية لولا المبادرة السورية الروسية في شأن السلاح الكيميائي وما يراد أن يقع لإيران التي تواجه ضغطاً أميركياً كبيراً على خلفية قرارها المستقلّ عامة، وعلى خلفية تطويرها لبرنامجها النووي بخاصة، أو تغذية الاضطرابات كما وقع في فينزويلا على خلفية استقلالها الكامل عن الفلك الأميركي، رغم أن مشروعها الوطني الاجتماعي يحتاج أيضاً الى مزيد من التعميق، إلخ. ومن هذا المنظار، فمثلما لم تحقّق أنظمة الاستقلال نظماً مستقلّة في الدول العربية، حتماً ليس للمواطن العربي أن ينتظر أن تحقّق أنظمة «الربيع العربي» الحرّية والديمقراطية المنشودة. فالاستقلال والحرية والديمقراطية والتعدّدية والعلمانية، على أهميّتها وأحقيتها، فهي لا تكون أبداً سليلة تغييرات شكلية في أنظمة مرتبطة بدوائر أو جهات، بقدر ما تكون نتاجاً لوعي وطني داخلي عميق وخالص. لأن جملة المفاهيم ليست مفاتيح سحرية لمشاكل معينة، إنما هي ثمار تخلقها التربة والبيئة اللتان تشكّّلان حاملاً هذه المفاهيم الثمار، وأنّ التغيير الحقيقي هو ذاك المتجه من مصدره التحتي الى هدفه الفوقي، لا العكس.

إن مفهوم دولة الاستقلال الوطني مطلب عقلي ملحّ لضمان الوجود والبقاء من ناحية وهو سبيل للتوازن بين الخاص والكوني من ناحية أخرى. ويظلّ هذا المفهوم يواجه تحدّيات كبرى في زمن غطّى العولمي على جميع أشكال الخاص والمحلّي ليدفنها في ثقافة السائد الذي كرّسه نظام العولمة أو بالأحرى الأمركة وربطه بنظام اقتصاد السوق واحتكار السلع والمعلومة. من ناحية أخرى لا يمكن لمفهوم دولة الاستقلال أن يكون مادة احتكارية لجهة سياسية معينة أيضاً بقدر ما يجب أن يكون مفهوماً موجوداً في عمق الوعي الفردي الخاص ليكون رهاناً وطنياً جماعياً خالصاً لا تحتكره سلطة ولا جماعة سياسية. فكما أنّ الديمقراطية والتعدّدية وغيرها من المفاهيم السياسية التي يجب أن تكون ثماراً لوعي داخلي حقيقي وجدّي، لا بد من أن يكون مفهوم الاستقلال نتاج وعي مستمرّ تكون الديمقراطية والتعدّدية والحرّية والعلمانية من صلبه وفي خدمته أساساً، فلا ديمقراطية وحرّية تتحقّق من دون استقلال القرار الوطني. كما أن مفهوم دولة الاستقلال الوطني ليس نقيضاً للاقتصاد المنفتح، فلا يمكن البتة تحقيق دولة استقلال وطني باقتصاد منغلق تحتكره الدولة أو الجماعات التابعة لها. فمن صلب مفهوم دولة الاستقلال أن يكون اقتصادها تنافسياً يلغي مبدأ التبعية في السوق العالمية التي يراد احتكارها، دقيق المعايير محايث للتطور، يقوم على شرط اللامديونية والاكتفاء الذاتي في المواد الأساسية الاقتصادية والصناعية والعسكرية الأمر الذي نجحت فيه الدولة العربية السورية نسبياً على سبيل المثال لضمان البقاء الاقتصادي العضد الأول لدوام سمة الاستقلال من ناحية وتحقيق صفة التفاعل من ناحية أخرى.

إن دولة السيادة والاستقلال الوطني رهان لا يتحقّق في عالمنا العربي إلاّ عند تغذية الوعي الوطني العميق به، بذلك يستطيع الفرد أن يميّز بحرّية تامة بين الدولة كعنصر ثابت والسلطة كعنصر متحوّل ، وبين المشروع الوطني ووجوبية تطوّره والبرنامج السياسي التنفيذي الذي يخدم هذا المشروع ووجوبية الإبداع فيه. وأن الوعي المقاوم وحده هو السبيل الوحيد لتحقيق مفهوم الحرية والاستقلال من دون الوقوع في فخّ الاستغلال.

كاتب من تونس

المصادر الرئيسية:

روجيه غارودي، «حفّارو القبور الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها»، ترجمة عزّة صبحي، دار الشروق، ص68-69.

تزفيتان تودوروف، «اللانظام عالمي جديد»، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمّان. ص52-53

J. Rawls Theory of Justice. Ed.Seuil، 1985 pp 391-392

المصادر الثانوية:

ابن خلدون عبد الرحمان، «المقدّمة»، دار العودة 1981، ص 121-122

الكواكبي، «طبائع الاستبداد»، دار النفائيس بيرون.1984، ص52-53

تودوروف تزفيتان، اللانظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السوركي، أزمنة، عمّان. ص52-53.

جعيّط هشام، «الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي» دار الطليعة، بيروت 2008، ص 210-211.

طرابيشي جورج، «هرطقات 1»، دار الساقي، بيروت 2011. ص 10-11.

سبينوزا، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الفصل 16. ترجمة حسن حنفي، دار الهيئة المصرية العامّة للتأليف والنشر، 1977، ص384-358.

BAKOUNINE In BAKOUNINE، presentation، Henri Avron Michel، Seghers. 1996. Pp.98-99

Benjamin CONSTANT De la libert chez les modernes

Paul RICEUR Histoire et verit ، ed. Ceres، 1995، pp. 133-134

J.J. ROUSSEAU The social contract، Penguin Classics، 1968.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى