قوى روحيّة كامنة تواجه وحشيّة السجّان الأميركيّ

«ما الأسر إلا استيلاء على جسم سجين ولكن لا سبيل لحبس الأرواح» . بهذه الكلمات استشرف الشاب النوبي، بطل رواية «غونتنامو» للكاتب المصري يوسف زيدان، سنواته المقبلة وهو على متن طائرة عسكرية نقلته من سجن قندهار في أفغانستان إلى المعتقل الأميركي المشهور في كوبا. وعلى مدى سبع سنوات يخوض هذا الشاب – الذي لا نعرف اسمه الحقيقي حتى النهاية – رحلة ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة، يلتقي خلالها نماذج بشرية الرابط الوحيد بينها أنها جاءت إلى ذلك المكان الموحش رغماً عنها.

يستمرّ المأزق حتى يلوح الفرج مع خروج السجين من معتقله، حاملاً في صدره خبيئته التي تكشفت أمام عينيه في ظلمات السجن وكان الطريق إليها بابه الخيال وأرضه الذكريات وسماؤه التصوف، ويستأنف حياته مجدداً بعدما تفجرت داخله آليات البقاء على قيد الحياة.

رواية «غونتنامو» الصادرة لدى «دار الشروق» في القاهرة، في 288 صفحة قطعاً وسطاً، هي الجزء الثاني من ثلاثية الكاتب والمؤلف المصري يوسف زيدان «محال»، «غونتنامو»، نور» وهي المرة الأولى يصدر فيها عمل للمؤلف في أجزاء، لكنه يصفها بأنها أجزاء منفصلة متصلة. ويضيف زيدان: «هناك ميكانيزمات آليات بقاء قوية جداً في الإنسان لا تعمل إلا إذا احتدمت الأحوال واقتضت الظروف هذا. ما هي هذه الميكانيزمات في غونتنامو؟ إعادة النظر في الذكريات، الحلم، الخيال، التصوف الموجود في كل إنسان. هذه القوى الكامنة تتفجر عند اللزوم ويستطيع الانسان أن يمر من أحلك الاحوال وأشدّها بتنشيط هذه القوى الكامنة فيه أو تفعيلها».

لا يمكن وصف إنتاج زيدان الروائي بالغزير، إلاّ أن أعماله القليلة «ظل الأفعى» و»النبطي» و»عزازيل»، إضافة إلى «محال» لاقت رواجاً بالمنطقة العربية وحققت مبيعات مرتفعة وترجم بعضها إلى الإنكليزية والإيطالية. وأصدرت «دار الشروق» أكثر من 30 طبعة من رواية «عزازيل» التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» عام 2009 وجائزة «أنوبي» البريطانية لأفضل رواية مترجمة إلى الانكليزية عام 2012.

حول دقة وصفه لمعتقل «غونتنامو» وما يدور داخله يقول زيدان: «أحرص عادة في أعمالي الروائية على نوع من المماثلة للشخوص، أو محايثة بالعربية الفصحى، بمعنى أن تكون حيث كانت الشخوص. في غونتنامو كانت المشكلة استحالة أن أكون في المكان نفسه، لكن هذا تم تعويضه والتغلب عليه بجهد بحثي ضخم. وأنجزت ما يشبه المجسم للمكان وكنت كأني أعيش فيه فعلاً، ووقت الكتابة كان ممكناً أجلس نحو عشرة أيام ولا أرى أي شخص ولا أجيب على الهاتف وأعيش على كسر الخبز والقليل من الطعام حتى أصل إلى الاحساس».

يقدم زيدان في «غونتنامو» أربعة نماذج للمرأة، تداعب اثنتان منهن خيال البطل بينما تشاركه اثنتان معاناته داخل المعتقل. والنموذج الحاضر الأول هو للمجندة الأميركية «سالي» التي تحاول الايقاع بالبطل في بئر الفحش، والنموذج الثاني هي الطبيبة النفسية «سارة» التي تمد إليه يد المساعدة وتمهد أمامه طريق العودة إلى الحياة الطبيعية. يوضح الروائي: «نورا ومهيرة لا تظهرا في الحوادث. اللتان ظهرتا هما سالي وسارة وهما نقيضان، فما بين هذين النقيضين نرى الإنسان في جانبه الأنثوي. التضاد بينهما يعطي الوعي مساحة كبيرة كي يصوغ صورة اكثر إنصافاً، فهذا موجود وذاك موجود».

رغم عزلة البطل في زنزانة لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار، إلاّ أن القارىء لا يستطيع ان ينفصل بوعيه عما يدور من حوادث سياسية ومتغيرات دولية خارج أسوار غونتنامو، ويساعده المؤلف ببعض الوقائع الحقيقية المشهورة ذات التواريخ المحددة ليظل هناك خيط رفيع ممتد بين الداخل والخارج. يقول زيدان: «صحيح أن الرواية ليست رواية سياسية وتتحدث عن الإنسان، إلاّ أنه لا يمكن التحدث عن الإنسان بعيداً عن هذا الخيط السياسي الرفيع الذي يفسر أموراً كثيرة ويؤثر مباشرة على جميع الناس بما فيهم البطل. والربط بين البطل ومعاناته داخل الزنزانة وما يحدث خارجها أمر طبيعي، فما أدخله في هذا المأزق منذ البداية، الأوضاع السياسية، وبالتالي لا أستطيع أن أستبعد وأنا أكتب كتابة عميقة عن الشخصية هذا الجانب السياسي، لكنه يظهر بالمقدار الأقل، الهامس الحاضر في الحوادث».

يوضح زيدان 56 عاماً إن الطبعة الأولى للرواية صدرت بـ 20 ألف نسخة مخصصة للبيع داخل مصر وستتوالى طبعات أخرى للدول العربية والخارج. واستغل زيدان في الجزء الأول «محال» التعددية المكانية ليستعرض حكاية الشاب النوبي الذي أمضى سنوات شبابه الأولى يعمل مرشداً سياحياً في أسوان حيث بحيرة السد العالي والآثار الفرعونية الضاربة في جذور التاريخ، ثم في الاسكندرية حيث التقى حبه الأول وعاش أيام فتوته، ومنها إلى السودان ثم منطقة الخليج وبعدها وسط آسيا، وصولاً إلى الحدود الباكستانية الأفغانية التي ذهب إليها مصوراً تلفزيونياً لقناة «الجزيرة» حيث وقع في يد القوات الأميركية الزاحفة إلى إسقاط نظام طالبان.

في «غونتنامو» ينتقل بطل الرواية إلى حيز مكاني ضيق نسبياً داخل أسوار ذاك المعتقل الأميركي المقام على أرض كوبية. ومع الصفحات الأخيرة يعود بنا زيدان مرة أخرى إلى مصر حيث تدور حوادث الجزء الثالث والأخير من القصة.

عن الجزء الثالث «نور» يقول زيدان: «نور هي حبيبة البطل الأولى التي ظهرت في الجزء الأول من الثلاثية وستتناول الرواية أوضاعها في السنوات السبع التي أمضاها البطل في غونتنامو». ويضيف أن البطل عاش داخل سجن لكنه تلمس آليات البقاء على قيد الحياة وفي الجزء الثالث سنرى «كيف يمكن أن يتسع المدى … ونسجن».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى