في غياب نزيه خاطر

فاروق يوسف

برحيل نزيه خاطر تنطوي واحدة من أرقّ صفحات الثقافة العربية وأرقاها. صفحة كانت الكلمات فيها ترعى الصور. أثبت الناقد الفني طوال خمسين سنة من الكتابة أن ما يفكر فيه اللسان إنما يقيم في العين. فنزيه خاطر الذي ولد عام 1930 هو واحد من أكثر نقاد الفن العرب تمرساً في مجال اللغة التي تسعى إلى الذهاب الى المعاني من غير أن تفقد اهتمامها بأناقاتها الباذخة.

كانت قراءة مقالاته الدورية في صحيفة «النهار» اللبنانية لم تكن تشكل دليلاً على ذائقة بصرية فحسب، بل أيضاً فضاء تحلق فيه لغة تجريبية، تمتزج فيه الصرامة المنهجية بغموض الشعر وتدفقه ونضارته.

خاطر الذي لم ينشر كتاباً في حياته، بل أصرّ على صفته ناقداً في صحيفة كان انعطف بقرائه المبهورين باكتشافاته في اتجاه الاهتمام بالفنون البصرية، كونها ركناً اساسياً في تشييد البنية الثقافية.

كان مشاهداً انطباعياً، غير أنه الانطباع الذي لا يتوقف عند السطح، بل ينبش عميقاً في اسرار الصنعة الفنية، فكان العمل الفني يشهد حياة جديدة بين يديه الماهرتين في جلب اللغة الملهمة للقراءة، قراءة العمل ثانية وقراءة النص الساحر.

يا له من مزاج مهذب وعنيد ذلك الذي كان يقود خاطر في اتجاه تمييز الفن عن سواه. كان مزاجه في حد ذاته تعبيراً عن خبرة الرجل العارف الذي لا يقول إلاّ ما يراه مناسباً للحقيقة. كان واحدا من أهم حراس الحقيقة الفنية، في زمن تقدم الفن اللبناني خاصة والعربي عامة في اتجاه مواقع طليعية، ما كانت لتحتل أماكنها على الخريطة الثقافية لولا الجهد الذي بذله خاطر بنفسه. لذا كان الفنانون ينصتون إلى ما يقوله كما لو أنه صوت الضمير الذي يرعى خطواتهم بنقاء سريرته وعمق نظرته وحماسته المغامرة.

الرجل الذي درس المسرح سوربون باريس ودرسه في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة لربع قرن، لم يكن أكاديمياً في ما يكتب، رغم دقته وحرصه على وضع الكلمة في مكانها، من غير أن تكون قابلة للحذف أو الاستبدال.

كان الشغف بالفن بوصلته المتأنية، ما جعل تمرسه في الكتابة في مجال الفنون البصرية، وهذا ما كنت أتابعه شخصياً، بل وتعلمت منه الكثير نوعاً من المجازفة. فلم يكن يميل دائماً إلى ما هو مكرس، بل كان في أحيان كثيرة مكتشف فنانين، قُدر لهم بسبب تبني خاطر لتجاربهم أن يكونوا من فناني الصف الأول. وهي المهمة التي لم يتصدّ للقيام بها ناقد بقوة وسعة ما فعل. كان يمد يده ليعلو بمن يكتب عنه، ما جعله محط احترام بالنسبة إلى فنانين ينتمون إلى أجيال متعاقبة.

إذا ما كان نزيه خاطر توقف في السنوات العشر الأخيرة عن الكتابة، إلاّ في ما ندر، فلأنه كما أرى كان يشعر في قرارة نفسه بأن الأزمة التي تعيشها الفنون المعاصرة لن تفضي إلى نتائج إيجابية، لذلك آثر الصمت. وكان صمته موقفاً خلاقاً. فالمثقف النخبوي الذي كان واحداً من ابرز صانعي أزمنة الفن التشكيلي العربي الذهبية لم يشأ أن يعكر مزاج قلمه بالكتابة عن أحوال الفن في زمن، لم يبق الفنانون سادته، بل صاروا فيه ملحقين بالسوق والمزادات والقاعات الفنية.

كان نزيه خاطر حراً ومستقلاً في كل ما كتب، وكانت حريته مرآة يرى الفنانون فيها حريتهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى