قصة معركة خاسرة

كلود عبد المسيح

ضمّت يديها إلى صدرها وشدّتهما بقوّة، وبقيت تشدُّ وتشدُّ لتخنقه أو تخفيه، لكنه تسرّب من بين أصابعها تاركاً آثاره الفاضحة عليها ولم تدرِ لمنعه سبيلاً.

اختبأت، تدارت، قبعت في الظلمة. بقي متربصاً لها مع كل نفَسٍ ومع كل رفّة جفن.

أغمضت عينيها تغضُّ الطرف عن رقص عقارب الساعة، هذا الرقص الذي يحفر في جلدها كالمسمار. وأبقتْ أوراق الروزنامة بكراً في الغلاف، لكي لا ترى مكره يتجدد كل يوم.

لكنها رأته يتوالى مع كل شروق وغروب، فهو سيد الأزمان ومسيّر الشروق والغروب. ورأته يربض كالكلب المسعور، يرقبها في الأماكن والدروب.

أقفلتْ نوافذها وأسدلت ستائرها، لعلّه يأتيها مع شعاع النور ونسيمات الهواء، ويتسرّب إليها متسللاً مع خيوطٍ من الأضواء. عبثاً … إنه يحيا في داخلها، وينمو في جسدها، مهما تكبّدت من عناء، ومهما ابتكرت من أشياءٍ وأشياء.

لجأت إلى الأصباغ، خضّبت شعرها بالأشقر الفتان، فغدا يزهو بأبهج الألوان. لكنّه نبت من تحت جلدها بمئة سكين، وألف ناب، لامعاً مثل الحراب.

بخُبثٍ صامت، رسم حداً فاصلاً بين الصادق والكذّاب.

أتت بالطيوب والمراهم والعطور، وأحرقتْ طُنّاً من البخّور، ولم تترك صلوات أو نذوراً.

عبثاً… بقي يرفرف حولها بعشقٍ، مثل الفراشة والنور.

طمست آثاره بمساحيق فاقعة، وأخفتْ دعساته مثلما تخفي الثلوج دروباً ضائعة، وارتاحتْ من رؤية الأخاديد. لكنه سرعان ما طار الغبار الملوّن وأطلّ من جديد.

وعادت إلى الابتكار بالحِيَل والأفكار. أرهقت نفسها بالرياضيات والتمارين، عازمة على قهر الزمن وغلب السنين.

تقلّص الجسد قليلاً وانتشى، ومع إرادة الآلات مشى.

ثم باءت جهودها بالفشل، وتبدّدت الآمال كلّها والحِيَلْ.

تزينتْ بالجواهر والثياب، وغيّرتْ المعارف والأصحاب. هجرتْ مناطق الذكريات لكي تنسى كل ما فات. عبثاً… إنه ينتظرها في كل مكان، ولا ينفع التجاهل أو النسيان. يرقد معها في الخلوات، في السرير، في المقاهي وعلى الطرقات. أمستْ مثل الأسير.

يتسلل خفية إلى العينين، إلى الشفتين والعنق والصدغين، وإلى كل مكان استتر أو بان.

توسّلت خبراء التجميل وغامرت بالقصّ والنفخ والشدّ والتشحيل.

طردته من مسافات الجسد، وعاد القدّ مياساً يميل، واعتقدت أنها انتصرت على الضّيف الثقيل.

عشعش في الروح وقبع في العظام، واحتل الرغبة والقدرة والإقدام، وعكّر الأحلام. عشِقَ نبضَ القلب وسكن في الرئتين، وأصبح بين الروح والجسم عداءٌ وانفصام.

غلبها… انتصر على مقصات الأطباء وخبرة الخبراء.

إنه ظالم، جبّار، مؤلم، فتّاك، أوليس له أبناء؟

كم هو ساخر، كم هو قاسٍ وبارد الأعصاب، أوليس له أحِبّاء؟

عادت إلى المرآة تسألها. إنها مضيئة، مشعّة، صادقة.

تلفظ حكمها بلا مشاعر، بلا مراعاة للخواطر، بلا حياء!

تسلِطُ الضوء على الخطوط والزوايا، وما خُفي في الخفايا، لكنّها لا تُظهر ما تخفيه النوايا.

ها هي عدوّتها. إنها تكرهها، تحسدها. ها هي صديقته الوحيدة وحبيبته الفريدة…

إنها تشبهه، هي صوته وصداه، وكلما نظرَتْ فيها تراه.

سخطتْ، ضجِرتْ، صحَتْ، حطّمتْ المرايا كلّها، وعادت تأنسُ للأصباح والعشايا.

وسقط القناع… بعدما كل جهد لها ضاع…

أيقنتْ أنها قطعتْ للزمن إصبعاً، لكنه بألف ذراع.

وأدركتْ أنه مثل النهر يمشي، بلا إذن، بلا أسفٍ، بلا لحظة وداع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى