لِمَ يهاجم الإعلام المملوك خليجيّاً في مصر نارام سرجون؟

د. رفعت سيد أحمد

حال بعض الإعلام المصري والإعلاميين المصريين يشبه مواعظ جحا التي لا يُفهم منها شيء.. فهم لا يزالون لا يقولون للجماهير في مصر أي شيء عن الحقيقة في سورية، وكأنّ الاعتراف بالحقيقة سرّ من أسرار القيامة. بل لا يزال هؤلاء يقعون في التهافت، ويصحّ اليوم القول إنّ نصف إعلام جحا بأنه يستحق عنوان «تهافت التهافت»، وفي إعلام «تهافت التهافت» لا تستطيع أن تفهم كيف أنّ المصريين من الإعلاميين الكبار يقولون للشعب المصري بأنهم يتعرّضون لمؤامرة من قطر وتركيا كراعيتين للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وأنّ قيادة حركة حماس متورّطة في المؤامرة على شعب مصر، ولكن عندما يأتون على ذكر الوضع في سورية تغيب قطر وتركيا وقادة حماس وسفالتهم ويصبح الأمر عن ثورة وشعب و»ديكتاتور» يقتل شعبه، رغم أنّ عدو عدوي هو صديقي، أيّ أنّ سورية عدوة لتركيا ولقطر ولقادة حماس، وبالمنطق يجب أن تكون مصر صديقتها، ولأنّه بالمنطق لا يمكن أن تكون قطر تقوم مع تركيا بأعمال خيرية في سورية ولكنّها في مصر تقوم بأعمال دنيئة… أو بالعكس.

إعلام أسير

الغريب أنّ الإعلام المصري في قسم كبير منه لم يرتق إلى مستوى الحدث المصري، ولا يزال يمارس كلّ شيء إلاّ ما يمكن تسميته إعلام الثورة… فهو إعلام أسير لكلّ شيء وليس فيه ثورة، ولا أدلّ على ذلك من اللقاء الذي أجراه عماد أديب مع الصبي اللبناني سعدو الحريري قبل فترة، وكان من الواضح أنّ اللقاء معدّ بعناية فائقة لتقديم أتفه زعيم سياسي في الشرق الأوسط على أنه من الركائز الأساسية للسياسة العربية في الشرق الأوسط، وبأن الثورة المصرية تريد أن تستمع إلى ثائر من ثوار القرن الكبار لتتعلّم منه… ولكن اللقاء بصراحة لم يكن عن لبنان ولا عن مصر بل أريدَ له أن يكون عن الثورة السورية والترويج لها بالأفك، وترك عماد أديب الميكروفون مستسلماً لقدره أمام سعدو الحريري ليقول الأخير بلا توقف الكذب الكثيف كلّه الذي يريده من دون أي اعتراض أو مقاطعة أو جدل أو عتاب خفيف أو اعتراض، مثل المونولوغ، وكان ما قدمه إلى الجمهور عبارة عن وصلة من وصلات «الجزيرة» التي أهدر المصريون دمها بسبب ما افترته عليهم، دخلت «الجزيرة» على المصريين من على منصة مصرية، جزيرة مكثفة بكلّ نكهة الافتراء والكذب، ومن يعرف ما تقوله «الجزيرة» عن سورية وما قاله سعدو الحريري للمصريين من على منصة عماد أديب يستغرب كيف يتبنّى الإعلام المصري خطاب «الجزيرة» كاملاً عبر مقابلة مع سعدو الحريري، ولكنه يهاجم ما تقوله من افتراء في الشأن المصري.،عملية انتقائية معيبة مثل أن ترفض أن يقتطع شايلوك رطلاً من لحمك لكنك تعطيه رطلاً من لحم إنسان آخر بكلّ الرضا وأنت تثني عليه.

وقد أطنب عماد أديب في الثناء على الصبي اللبناني الذي تباركت بزيارته ثورة 30 يونيو، وركّز أديب بشدة على الاستقبال الحار الذي خصّ به الجنرال السيسي الزعيم اللبناني والمعاملة الخاصة التي لقيها سعدو بين يدي السيسي. بالطبع من يتابع اللقاء يعرف أنه لقاء متفق عليه، وأنّ عماد كان يمثل النفاق السياسي الخالص، وأنه كان يمثل أنه يسأل أسئلة لأن الحقيقة هي أنه كان يؤدي دوره مثل كومبارس للبطل سعدو الحريري، نحن نسأل وسعدو يجيب. ولكن الأهمّ من ذلك كله أنّ المشهد يدلّ ويا للأسف على أنّ استقبال الصبي على أنه زعيم كان لإرضاء السعودية ليس إلاّ، وأنّ المبالغة في تدليله والمسح على غرّته ورأسه كان كمَن يستقبل ابن الجيران المدلّل ويلاطفه طالما أنه ابن جار ثري والولد معاق عقلياً، ولكنه يعامله بلطف وظرف ملاطفة لأبيه الثري، أليس من العار أن تقدم ثورة مصر بملايينها لتستعمل كحقنة مقوية لسعدو الحريري وليستحمّ من أوساخه المذهبية في نهر النيل وفي ترع الفلاحين المصريين الفقراء الذين تركوا قراهم وترعة الماء ليصنعوا ثورة 30 يونيو ليأتي هذا الصبي المدلل التافه ليعلّمهم الثورة؟ وهو الثري المدلل الذي يسكن القصور، ويتسلى في بارات باريس! ويرسل شحنات الطوائف إلى الشرق! أليس من العار أن يستدعى إلى مصر ليعلّم المصريين الديانة الثورية الجديدة، وليعلمهم أن الشمس تتعامد على وجه القديس رفيق الحريري كما تتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني في معبد ابي سنبل؟

وبالأمس كانت لميس الحديدي على محطة أخرى تلتقي الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي كان يقول لها ويكرّر في كلّ الحلقة أنّ الدولة السورية ليست مسؤولة عن الهجوم الكيماوي في الغوطة، وأنّ كلّ القرائن المثبتة تشير إلى أنّ من ارتكب الهجوم هم الثوار أنفسهم بالتواطؤ مع تركيا لاستدعاء أميركا، ومع ذلك تتجاهل لميس الحديدي هذه المعلومة الخطيرة جداً التي تشير إلى تورّط الثوار والدعم الخارجي في قتل الشعب السوري، وتسأل مستهجنة إنْ كان يمكن للرئيس السوري أن يرشح نفسه بعد أن قتل نصف الشعب السوري! بل وتكرّر كيف يمكن له أن يفوز وقد قتل نصف شعبه!؟

منارات قصيرة وقزمة

يعني ماذا يمكن أن يُقال لهذه المنارات القصيرة والقزمة التي يريد الشعب المصري تعليق مصابيح ثورته عليها؟ يعني لقد رأى العالم كلّه «الثوار» في سورية ينهشون الجثث ويلتهمون القلوب، ورأى العالم كلّه كيف يرتكب الثوار المجازر علناً بالأسرى ويذبح علناً ويحرق علناً، وصار أصغر طفل في أدغال أفريقيا يعرف عن القلب الذي التهمه وحش من صدر جندي سوري في حمص السورية، وصار حتى أبناء الزولو يباهون برقيّهم الأخلاقي أمام انحطاط الثوار في سورية ووحشيتهم، وفوق كلّ هذا يجلس أمامها الأستاذ هيكل ويقول لها إنّ مجزرة الغوطة الكيماوية ارتكبها الثوار بدعم تركيا. وبعد ذلك تسأله ببلاهة: كيف يمكن لبشار الأسد أن يرشح نفسه؟ وكيف يمكن أن يفوز وقد قتل نصف شعبه؟ نصف شعبه أي 12 مليوناً، تخيّلوا أنه حتى من قتلهم الثوار بعشرات الآلاف رمتهم لميس الحديدي في النسيان كأنّها مصابة بثقب في الذاكرة! أو أنها من عائلة الحريري وليس الحديدي، لأنّ زوجها عمرو أديب شقيق عماد أديب قد أصابته لوثة الحريري، ومال الحريري كم المال قوي أحياناً فيلوي الحديد ويحيله إلى حرير! كيف يمكن أن تصمد دال الحديد أمام حرارة الزيت الأسود؟ الزيت الذي يذيب الدال ويجعلها تتلوّى ويحيل ملمسها إلى الحرير، ليصبح الحديد من حرملك الحرير!

سؤال أبله… مقصود

السؤال الأبله للميس الحريري مقصود… وهو إلغاء ما قاله الأستاذ هيكل وإعادة الوعي المصري الذي يستمع إلى المقابلة إلى ما قبل الإشارة إلى مسؤولية الثوار عن المجزرة الكيماوية، فينسى الوعي الحقيقة لأنها غطيت بمسلّمة أخرى قدمتها لميس الحريري، وهي أنه بغضّ النظر عما يقوله هيكل – رغم خطورته – ورغم أنه يطرح سؤالاً مشروعاً عن هوية المسؤول الحقيقي عن كلّ القتل في سورية على مدى ثلاث سنوات، فإنّ «القاتل» سيبقى هو الرئيس بشار الأسد! حتى وإنْ كان هناك دليل قاطع عكس ذلك.

وهذا يعني لمن يريد الدخول في عراك المحاججة والمهاترات أنّ ما يقوله «الإخوان المسلمون» عن جرائم السيسي يمكن قبوله، رغم أنّ الجميع يعلم أنّ «الإخوان المسلمين» هم الذين اختاروا المواجهة في مصر واختاروا التصعيد مع الجيش ورفضوا عروض الفريق السيسي كلّها، ولا يزالون يتربّصون بالجيش المصري الذي يقف الجيش السوري كخط دفاع أول له في المعركة، ولو هُزم الجيش السوري فسيكون الجيش المصري في مواجهة مباشرة مع قطعان الإسلاميين والمهاجرين الذين سيُرسلهم أردوغان ثأراً لرابعة وابنة البلتاجي التي بكاها بحرقة، وستدفع قطر تمويل الموت في مصر…

أنصاف الثوار وأنصاف المثقفين

ويا للأسف هناك أمور لا تدلّ على أنّ مشروع الشعب المصري في التحرّك نحو إنجاز ثوري كامل يلقى التفهّم من أنصاف الثوار وأنصاف المثقفين، فالإعلام المصري، رغم كلّ ما يُقال عن استقلاليته، يتصرّف إلى الآن على أنه يُدار من عواصم النفط والغاز، ومربوط بخيوط خفية إلى عواصم الزيت الأسود، فباسم يوسف هاجم قطر والإخوان المسلمين ولكن لا يعرف إلاّ الله إنْ كان يُدرك أنّ هناك بلداً قروسطياً اسمه المملكة العربية السعودية، وهي منجم هائل للنكتة لأنه يتقاضى مالاً من محطة تملكها شخصيات سعودية، ولميس الحريري نفسها التقت منذ فترة بأحمد الجارالله ووصفته بعميد الصحافيين الكويتيين، وخفّضت له جناح الذلّ، وقدّمته للشعب المصري على أنه أحد أحباب الشعب المصري وعشاقه، وبعد أسابيع قليلة خرجت صحيفة «السياسة» الكويتية التي يكتب فيها الجارالله لتنبش في آثار مصر وتنبش قبر عبد الناصر وتنهش في لحم مصر وفي كرامة عبد الناصر وشرفه وتنشر مذكرات شمس بدران الذي عزله عبد الناصر في توقيت غريب جداً ليقول فيها إنّ عبد الناصر كان يرفع من همّته وطاقته بمتابعة أفلام جنسية فاضحة سجلتها أجهزة استخباراته خلسة لسعاد حسني… الزعيم الأهمّ في تاريخ مصر حوّله الإعلام الخليجي بعد نصف قرن تقريباً على رحيله إلى مختلّ نفسياً ومختلّ أخلاقياً ومريض ومهووس بالجنس… ولم يتذكر شمس بدران عنه الموبقات إلاّ في صحيفة «السياسة» الكويتية! لسبب بسيط هو أنّ صور عبد الناصر عادت لترفع في شوارع مصر، ولأنّ السيسي ذكّر المصريين ببعض من روح عبد الناصر وضباطه الأحرار. وإذا عاد عبد الناصر إلى شوارع مصر فإنّ الخليج العربي سيعود إلى حجمه الطبيعي ويتدثر برماله، فلا بدّ من نبش القبر… وهش العظم.

هذا الإعلام الخليجي يتسلّى بقصّ الهامات والرموز العربية لأنّ الخليج المحتلّ والبائس ثقافياً وحضارياً غير قادر على إنتاج زعامات وقامات عالية، فيعمد إلى تدمير الرموز الوطنية في البلاد العربية الأثرى سياسياً وفكرياً، ويعمد إلى قطع النخيل وتقصير الأهرامات لتناسب كثبان الرمل. هذا الإعلام الوقح هو نفسه الذي يروّج الآن أنّ ابن السيد حسن نصر الله الذي استشهد في جنوب لبنان عام 1997 لم يمت في المعارك مع «إسرائيل» بل في ملهى ليلي في بيروت! ويزيّف وثائق وينشرها لتشويه صورة استشهاد الأبطال الميامين ضدّ «إسرائيل»… رغم أنني أذكر شخصياً أنني سمعت للمرة الأولى عن هادي نصر الله وعن استشهاد هادي نصر الله من «إذاعة لندن» التي أوقفت إرسالها ونقلت بياناً صادراً عن قيادة الجيش «الإسرائيلي» التي أعلنت بابتهاج أنها تمكنت من قتل ابن الأمين العام لحزب الله، وتمكنت من سحب جثته بعد معارك عنيفة في جنوب لبنان، وأنها لن تسلمها إلاّ بمقابل باهظ ربما هو الطيار «الإسرائيلي» رون أراد. وفاجأني يومذاك ما تلا ذلك من تعليق نقلته هيئة الإذاعة البريطانية التي قالت إنّ «إسرائيل» صُعقت وأصيب جنرالاتها بالخيبة عندما رفض الأمين العام لحزب الله أن يعامل جثمان ولده بشكل مميّز عن باقي رفاقه الشهداء… وأنه يرفض أن يمنحه أي تفضيل… ومع ذلك يتواقح إعلام العرب ويحكي حكواتيوه حكايا عن الملهى الليلي، الذي قد نكتشف عبر أحمد الجار الله أنّ الزعيم جمال عبد الناصر ربما كان يرتاده أيضاً من دون علمنا، وأنّ هزيمة 67 وقعت عندما كان ثملاً في ذلك الملهى ليلة الرابع من حزيران… مع سعاد حسني… وربما يستقبل عماد أديب سعدو الحريري كمالك لذلك الملهى الذي حوّله الشيخ سعدو إلى مسجد للتوبة… على نمط مساجد السوليدير.

كيف يتعلّمون الصدق؟

كيف يتعلم المصريون الصدق ولا يزال معظم الكتاب المصريين في الصحف يكتبون عن الثورة السورية التي يقتلها نظام بشار الأسد الذي يقتل شعبه ويقصفه؟ ومع هذا وعلى مدى ثلاث سنوات لم يتحرك أحد من جحافل الصحافة المصرية ليأتي إلى سورية من قبيل الأمانة الصحافية والمقارنة التي يجريها صحافيون من كلّ العالم؟ بل إنّ هيكل تعرّض لهجوم عنيف وحملة تشنيع لمجرّد أنه اقترب من الحدود السورية والتقى السفير السوري في لبنان والسيد حسن نصر الله… ولم يستضف إعلامي مصري ممثلاً واحداً عن الدولة السورية لشرح وجهة نظرها للشعب المصري الذي صنع ثورة 30 يونيو ضدّ العدو نفسه، والذي أفاد بلا ريب من صمود الدولة السورية التي تسبّبت بصمودها في استعجال المشروع الإخواني للهيمنة على مصر قبل موت الثورة السورية… فكان هذا الاستعجال سبباً في انكشاف مشروعهم واندحاره.

إنني مثل كثيرين استطيع تفهّم حيرة مصر الحالية، ومصدرها أنّ الفريق السيسي لا يزال غامضاً في جميع تحركاته، ولا يزال يحيّر الكثيرين، ولم يستطع معظم متابعيه رسم معالم لسياسته ونواياه، أهو استمرار لمرحلة ناصر بعد انقطاع؟ أم هو عودة إلى لساداتية التي كانت تحاول ممارسة البراغماتية من دون إلمام ومعرفة كاملة بعلم البراغماتية السياسية؟ البعض يعتقد أنه نهج جديد لرجل جديد يسير في منتصف الطريق ولن يكون ضدّ ناصر ولا ضدّ السادات، أي سيطبّق مصطلح «الناداتية» أو «الساصرية»، من دمج اسمي ناصر والسادات، وسيقف بين روسيا والولايات المتحدة، ولن يغامر خارج حدود كامب ديفيد، ولكن إن كان الفريق السيسي رجلاً قادماً من المستقبل لإنقاذ مصر فإنّ تحالفه مع قوى الماضي سيعيده إلى الفراغ، وإنْ تحالف مع قوى المستقبل فقد وضع مصر في مكانها الصحيح، ودخل التاريخ من بوابة بناة مصر.

ثورة ناقصة وحائرة

مصر لا تزال في حالة ثورة ناقصة وحائرة طالما أنّ بعض نخبها لا يزالون يغازلون القوى الظلامية وقوى المال العربي، وهذا العذر لا يناسب ثورة ويبقيها نافصة وغير مكتملة… فالثورة التي تخشى الأزمات ستبيع أوراق قوتها، ومصر لا تحتاج فقط جنرالاً قوياً ووطنياً، بل تحتاج إلى أن يتنحّى إعلام جحا عن التحدث باسم الجنرال والشعب، والكذب على الجنرال والشعب، فما يؤذي الجنرال وثورة 30 يونيو التي أوقفت جنون «الإخوان المسلمين» هو أن يتولى بعض الإعلاميين المصريين مخاطبة الناس على نحو عشوائي ووفق مصالح ضيقة، وأخطر ما يهدّد الثورات هو الخطاب الإعلامي للثورات عندما يكون متلوّناً ومُصرّاً على حالة الإنكار والعبث بالكلام وليّ الحقائق.

ولا شك في أنّ النخب الإعلامية المصرية تحتاج أن تأتي إلى سورية وترى بأمّ العين لتكمل انتصار الثورة المصرية، أتيت… رأيت… انتصرت… لأن لا غنى عن لقاء المنارة بالسراج أما غير ذلك فيعني: غبت… فجهلت… فهُزمت.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى