مختصر مفيد

مختصر مفيد

في مثل هذه الأيام قبل ثمان سنوات، كان لبنان يقف عشية الحرب التاريخية التي رسمت مستقبل المنطقة عام 2006. فمنها ولدت معادلة القوة الجديدة الحاكمة في الشرق الأوسط، القائمة على تآكل قدرة الردع «الإسرائيلية». ومنها ولدت مقاربة أميركية جديدة تمثلت بما ورد في تقرير بايكر هاملتون الشهير الذي وقّع عليه أركان الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ورموز الإدارات المتعاقبة الديمقراطية والجمهورية من رؤساء استخبارات ووزراء خارجية ومستشاري أمن قومي، والذي يدعو إلى الاعتراف بهزيمة المشروع الأميركي في العراق وأفغانستان، وبسقوط دور «إسرائيل» الإقليمي، وولادة قوى جديدة صاعدة لا بدّ من الانخراط معها بتفاهمات تحفظ الاستقرار، على قاعدة الانسحاب من أفغانستان والعراق والقبول بشراكة أميركية ـ روسية في إدارة الاستقرار، وتقبّل دور إيران المحوري كدولة نووية فاعلة في أفغانستان والعراق والخليج، وبالنفوذ السوري في بلاد المشرق. لكن الأهم ما تضمنه التقرير من الضغط على «إسرائيل» لتطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالصراع العربي ـ «الإسرائيلي» من دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحلّ عادل لقضية اللاجئين استناداً إلى القرار 194 الذي يضمن حق العودة والتعويض، وصولاً إلى الانسحاب الكامل من الجولان حتى خطّ الرابع من حزيران، ومن مزارع شبعا اللبنانية. ومعلوم بعد ذلك حجم التعاون «الإسرائيلي» ـ الخليجي، خصوصاً السعودي ـ القطري لإسقاط توصيات بايكر هاملتون وتقديم البدائل عنه أو الاجتزاء في تطبيق بعض ما فيه، و تجاهل الجوهري ممّا أشار إليه كخارطة طريق للاستقرار.

الانقلاب على بايكر هاملتون تبدّل من مرحلة إلى مرحلة، من مشروع الرهان على الانتخابات الإيرانية عام 2008 إلى إسقاط الرئيس أحمدي نجاد والمجيء مجدّداً بالرئيس محمد خاتمي تحت شعار القبول بالاميراطورية الإيرانية مع ملفها النووي، مقابل الخروج من فلسطين. وأسماها مارتن إنديك يومذاك بإسقاط فلسطين في إيران. وما إن فشلت وفاز نجاد في تموز 2008، حتى حُضِّر لحرب غزة الأولى، والعنوان وفقاً لإنديك نفسه «إسقاط إيران في فلسطين». ومع تكريس الفشل «الإسرائيلي»، كان الرهان على المسار السلمي منخفض السقف بجلب السلطة الفلسطينية إلى بيت الطاعة. فكان مشروع هيلاري كلينتون عام 2010 للسلام الفلسطيني ـ «الإسرائيلي» الجزئي بسقف تنازلات منخفّض «إسرائيلياً»، لكن التطرّف «الإسرائيلي» تكفل بإطاحته، والخطة كانت أنّ السلام سيفتح بعد حدوثه فرصة تحالف عربي ـ «إسرائيلي» في وجه إيران. ولكن لمجرّد كون كلفته إزالة 10 في المئة من الاستيطان في الضفة الغربية لتأمين التواصل الجغرافي بين أطراف الدويلة الفلسطينية، كان المجتمع الصهويني ـ السياسي والشعبي ـ كفيلاً برفضه.

جاء الربيع العربي كانفجار لحال الغضب الشعبي على الحكومات وأنظمة الحكم فرصة لترجمة تفاهم أميركي مع تركيا وقطر، على اختبار فرضية تسليم دفة الحكم في المنطقة للأخوان المسلمين على قاعدة معادلة الإمبراطورية العثمانية ترث حكومات تونس ومصر مقابل أن تسقط سورية. وكانت الحرب العالمية على سورية، وها هي تنتهي بالفشل، وتُسقط ما كان ومن كان وراءها، ومثلما كانت المعادلة التي توقّعها تقرير بايكر هاملتون أن الاصرار على الصراع مع تحالف القوى الصاعدة في المنطقة الذي تمثله إيران وسورية ومعهما حزب الله وقوى المقاومة في فلسطين، والأخذ فقط بالاسنحاب من العراق وأفغانستان، كل ذلك سيُضعف الحكومات المركزية ويؤدّي إلى فوضى استراتيجية تشكل البيئة المناسبة لنموّ الإرهاب وتجذّره. جاءت النتائج مطابقة وولدت كيانات إرهابية وتجذّرت وصارت دولاً. وها هو حكم «داعش» والخلافة يدقّ من العراق باب تقسيم كيانات المنطقة.

في قلب التحوّلات الكبرى للربيع العربي، ودور الأخوان المسلمين، تاهت حركة حماس عن بوصلتها المقاومة، وتوهّمت أولوية هويتها الأخوانية على هويتها المقاومة والفلسطينية. ومع سقوط الأخوان في مصر وبدء الانتصارات في سورية، بدأت الحسابات الجديدة. فالعثمانية هزمت والحلف المقاوم يقترب من تحقيق نصره، ولا مكان لحماس حتى في التنافس مع فتح عن يمينها والجهاد عن يسارها، إلا بالعودة إلى خندق المقاومة. وها هو العالم يشهد تبلور حلفين كبيرين واحد يصعد سلالم القوة والحضور من روسيا والصين والبرازيل وسائر دول البريكس، ومعكسر تقوده واشنطن يهزم من أوكرانيا إلى سورية وهو يستعد للهزيمة في اليمن والعراق، وكان لحماس أن تنفتح عبر الجهاد وغيرها مرة أخرى على حلفاء الأمس الذين غادرتهم، والاستعداد لجولة مجابهة مع «إسرائيل» تردّ لها بريق الحضور والدور وتحفظ لها المستقبل.

راهنت «إسرائيل» على سقوط سورية وراهنت على سقوط حزب الله في سورية، وراهنت بعدئذٍ على ضعفهما وانشغالهما. ووجّهت رسائل الدعم الناري والسياسي إلى مجوعات القاعدة، من غارات جمرايا لوقف حرب القصير إلى غارات جنتا لوقف حرب يبرود، وصولاً إلى قصف القميطرة والاغتنيالات لتثبيت حزام أمني حدودي من المعارضين المتعاملين معها. وأصيبت كل خططها بالفشل، وبدأت تتبلور معالم التفاهم الغربي مع إيران وعناوين التسليم بالنصر السوري، ومناهضة مشروع ولادة كردستان إنفصالية، على رغم الدعم «الإسرائيلي» لها. وما بقي لـ«إسرائيل» سوى القلق فوق القلق.

إسرائيل التي كانت تصفّق لما يجري في سورية أملاً بتفادي الفراغ الاستراتيجي ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان نهاية العام، بعدما تمّ الانسحاب من العراق وصار حليفاً لسورية وإيران، تعرف أن الحرب قادمة بما لم تكن عليه حرب العام 1973 كما قال تقرير الشاباك عام 2010، وأنها ستكون حرب الرئيس بشار الأسد بامتياز، وأنها ستهدّد وجود «إسرائيل»، وأنّ طريق التخلّص منها هو التخلص من الرئيس الأسد ونظام حكمه، وها هي اليوم تعرف أنّ الطريق مغلق، وأنها قلقة من السلام الذي يتكفل بإطاحة الحاكم «الإسرائيلي» الذي يوقّع عليه بشروط يرضاها الفلسطينيون، كما يتكفّل بإطاحة القائد الفلسطيني الذي يوقع عليه بشروط يرضاها «الإسرائيليون»، و«إسرائيل» قلقة من الحرب وعاجزة عن الذهاب إليها كما هي عاجزة عن انتظارها.

تحوّلت «إسرائيل» إلى معادلة جديدة قوامها استباق الزمن الذي يقترب إلى نصر سورية وإيران والاعتراف الغربي بنتائجه. معادلة قوامها زرع القلق في معسكر المقاومة من فتنة مذهبية وحرب إرهاب، عبر تقديم كل الدعم لمجموعات القاعدة للنيل من وحدة سورية والعراق واستقرار لبنان وإيران. وتوازن القلق بدلاً من توازن الرعب صار المعادلة الأولى، بينما المعادلة الثانية تتمثل في شراء الوقت في الحرب المقبلة، عبر تصدير الجيوب الأمنية للجبهة المقاومة، خصوصاً الحزام الأمني مع سورية، الذي تعرف أنه غير قابل للحياة، لكنها تراهن على استنزاف قدرة سورية لزمن ما، ومثله ذهبت إلى حربها في غزة لتدمير ما تيسّر من القدرات وإحكام الحصار على الممرات التي يمكن استخدامها لتعويض ما يستهلك من الطاقة العسكرية في هذه الحرب. والسعي إلى قتل ما أمكن من القادة المفصليين في عمل المقاومة لجعلها أضعف وأقل قدرة في كل جولة تالية من جولات المواجهة، وها هي الحرب التي تدور رحاها اليوم.

حرب لن تفوز فيها «إسرائيل» وقد أعدّ لها المقاومون ما يلزم، حرب لم تتبدل معادلات القوّة التي تحكم نهاياتها، عن معادلات المأزق «الإسرائيلي» البنيوي الذي تسبب بالهزيمة في الحروب التي سبقت.

عظيم جدّاً أن يكون المشهد الذي يسدل الستارة على أزمات المنطقة، مشهد الصراع في فلسطين، فهناك فقط تصل المواجهات إلى نهايات حاسمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى