المملكة والحزب في مرحلة الحظر التاريخي
هتاف دهام
تمنَّن المملكة على لبنان أنه لم يقابلها بالمثل رغم أنها قدّمت له الكثير من اتفاق الطائف حتى الآن، من دون أن تعترف لمرة واحدة أنها استمدّت دورها في لبنان من هذه الوثيقة التي قدّمتها لنفسها وليس للبنان، حيث إنّ الطائف كان جسراً لانتقال السلطة من المارونية السياسية إلى الحريرية السياسية المرتبطة بنيوياً وعضوياً بالرياض، وأرست نظاماً مكّنها من حكم لبنان ووضع يدها على قلب العاصمة، ولهذا السبب لن تسمح لأحد من المكوّنات السياسية ان يصوّب سهام انتصاراته في الحرب على الإرهاب، للإطاحة بهذا الاتفاق، لأنه يبقى الورقة شبه الأخيرة لها لنفوذها في لبنان.
لا يخفى على أحد أنّ المملكة فتحت الأبواب على مصراعيها أمام اللبنانيين للعمل في اراضيها ومدنها، ووفرت العمل لنحو 100 ألف لبناني يعيلون عائلاتهم في لبنان، لكنها في المقابل استفادت من هؤلاء أضعاف ما استفادوا، وهي كانت في هذا الشأن أمام خيارين إما استقدام الخبرات الاوروبية أو اللبنانية، لأن أحداً من العرب أو من الشرق الأقصى لا يمكنه الحلول مكان اللبناني أو الأوروبي، وهي لجأت إلى اللبناني لأن بدل أتعابه يوازي ثلث بدل أتعاب الاوروبي أو الاميركي، أما على صعيد العمالة العادية فكانت الطريق سالكة وبسهولة امام ابناء الطائفة السنية بشكل خاص لا سيما أبناء صيدا.
منحت المملكة لبنان عام 2006 مساعدة المليار من خارج الأطر الرسمية، ولم يصل منها شيء إلى ارض الواقع، لأنّ رئيس كتلة المستقبل رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة استخدمها لتحشيد الدعم الشعبي لتيار المستقبل، لكنها قبل ان تعلن عن مكرمتها شاركت في قتل اللبنانيين، وهذا ما أكده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عندما قال: «أول من سيُسأل يوم القيامة عن دمنا في تموز هم آل سعود».
أما التقديمات الأسوأ فكانت في عام 2009 عندما أنفقت أكثر ملياري دولار على حملة فريق 14 آذار وصنعت أكثريته في المجلس النيابي، وصولاً إلى هبتي 3 مليارات + مليار دولار بقرار من الملك عبدالله بن عبد العزيز، واللتين انتهتا مع تغيّر الحكم ووصول الملك سلمان بن عبد العزيز بإصدار قرار وقف دعم الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، بحجة الموقف الذي صدر عن وزير الخارجية جبران باسيل في القاهرة وفي مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، لكن الحقيقة أنّ الرياض بأمسّ الحاجة إلى هذه الأموال في حرب اليمن، لكونها تعاني من أزمة اقتصادية بسبب هبوط سعر النفط الذي حاولت من خلال تخفيضه ضرب محور المقاومة من إيران إلى روسيا وصولاً إلى فنزويلا.
استفادت السعودية وامراؤها من لبنان في اكثر من مجال وميدان، في الوقت الذي لا يستطيع اللبناني ان يصل أراضيها الا بتأشيرة دخول لا يحصل عليها بسهولة ويمنع عليه شراء ايّ منزل، أو الاستثمار الا بوجود كفيل سعودي، فإنّ رعاياها الراغبين بزيارة لبنان يحصلون على تأشيرة دخول مجانية ساعة يصلون ارض المطار، ويتملّكون حيث يريدون، ويستثمرون كما يشاؤون.
لطالما كانت العلاقة بين البلدين لمصلحة الرياض، لكن يبدو أنّ هذا الأمر لن يستمرّ، وربما انتهى. ولهذا قرّرت السعودية كما يؤكد قطب سياسي بارز لـ«البناء» صبّ جامّ غضبها على حزب الله الذي وضع حداً لوصايتها ومنع لبنان أن يكون إمارة سعودية أو غير سعودية، بعدما ثبت لها دوره الحيوي في التصدّي لسياستها سواء في لبنان أو اليمن أو البحرين أو سورية حيث المواجهة الكبرى التي كان للمقاومة ومشاركتها فيها الدور المؤثر والحاسم في إفشال المؤامرة على دمشق وقلب موازين القوى فيها منذ أيار 2013 في معركة القصيْر.
إنّ المستهدف الحقيقي من التصعيد السعودي كما يقول «القطب السياسي» هو التأثير الحيوي جداً للحزب وموقعه الرائد، ولذلك تخوض ضدّه حرباً ضروساً متعدّدة الأشكال والأدوات والوسائل، ولجأت إلى الحرب الإعلامية والسياسية عبر وسائل إعلامية مسلطة، وأرفقت ذلك بفيديوات قالت السعودية إنها حصلت عليها من اليمن، وتدّعي «أنّ عناصر من حزب الله يدرّبون أفراداً من الحوثيين. ويتحدّث أحد عناصر حزب الله في الفيديو عن تنفيذ عمليات في العمق السعودي، وهجمات انتحارية في الرياض، خلال تدريبات لعناصر يمنية»، وكذلك إلى الحرب الإجرائية باستهداف منظومة المصالح المرتبطة بحزب الله، وإلى إجراءات تتخذ العقاب الجماعي على لبنان عبر طرد لبنانيين من مختلف الطوائف أو ابتزازهم أو تهديدهم، وكلّ ذلك يهدف إلى طلب اللبنانيين لبيت الطاعة والزحف إلى بعثتها الدبلوماسية للاعتذار، وان كانت من خلال هذه التدابير، تحاول أن تظهر بمظلة الدولة المهنية التي لديها أجهزة ومعلومات توازي فيها بالشكل الولايات المتحدة.
تريد الرياض بحسب القطب السياسي وضع لبنان في عزلة عربية، من خلال تصويره على أنه بات «دولة ساقطة بيد إيران»، وبالتالي استصدار قرارات وإجراءات ضدّه من دول عربية خليجية وغير خليجية على السواء، ومنع الخليجيين من السفر إليه وتخفيض عدد أفراد البعثات الدبلوماسية الخليجية فيه والحديث عن إمكانية سحب السفراء وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي وصولاً إلى قطع العلاقات مستقبلاً، وكل ذلك يأتي في سياق خطة إسرائيلية سعودية لتحضير الأجواء لبنانياً وإقليمياً للحرب على حزب الله. وما تقوم به يصبّ في خانة الضغط على إيران ولعب كلَّ أوراق الاشتباك الإقليمية التي تسمح لها بإنجاز اتفاق متوازن معها في ملفات المنطقة، لا سيما أنها لا تجرؤ على فرض أيّ قرارات على الجمهورية الإسلامية وتتجنّب الضغط على حلفائها الخليجيين لطرد الإيرانيين لا سيما من الإمارات وقطر والكويت، لما لذلك من انعكاسات سلبية على اقتصاد هذه الدول بشكل خاص، وان لم يستبعد القطب نفسه في مراحل متقدّمة إذا استمرّ التصعيد أن تصل الامور إلى إجراءات كهذه في الإمارات التي تستحوذ على 80 من التبادلات التجارية بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي.
لجأت المملكة كما يقول «القطب البارز» ولا تزال إلى مختلف الأساليب للضغط على الحكومة اللبنانية ومصادرة قرارها على صعيد السياسة الخارجية واستتباع مواقفها في المحافل والقمم الإقليمية والدولية، وتوتير الأجواء داخل مجلس الوزراء وابتزازه لتقديم اعتذار لها، رغم رفض حزب الله ذلك، وربما تدفعها للاستقالة بعدما أثبتت عجزها عن الوقوف بوجه الحزب، أو دفع بعض الوزراء للاستقالة بعد استقالة الوزير اشرف ريفي بهدف زعزعة الأوضاع فيها.
يتحدّث القطب عن محاولات المملكة تأليب الأطراف اللبنانية المسيحية، كما السنية، على حزب الله من خلال تحميله مسؤولية تأزيم علاقات الدول العربية مع لبنان والإجراءات التي تتخذ بحق اللبنانيين في الخارج، والضغط على حلفائها لتجميع صفوفهم وتوحيدهم في جبهة واحدة مناهضة للمقاومة بعد الخلافات الأخيرة بينهم وأدائهم غير المرضيّ في مواجهة الحزب، لكنها لم تنجح في ذلك نسبياً فحلفاؤها المسيحيون في 14 آذار لم يلاقوها نسبياً رغم الوفود القواتية والكتائبية التي حطت في السفارة متضامنة، فالموقف الكتائبي كان واضحاً في الحكومة «لم نخطئ لنعتذر فلتأخذنا السعودية بحلمها قليلاً»!
ويعتبر القطب السياسي انّ استهداف الرياض لوزير الخارجية جبران باسيل بعد مواقفه المنسجمة مع البيان الوزاري الذي صدر بإجماع كل مكونات الحكومة بمن فيها تيار المستقبل، مؤشر جديد على استمرار الرفض السعودي تبؤُّء رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون الذي يحظى بدعم من حزب الله سدّة الرئاسة، فهي لا تزال تتوجّس من وصوله إلى قصر بعبدا، وتعمل حالياً على حرق ترشيحه بعد شبه الإجماع المسيحي الذي حصل عليه بتبنّي رئيس حزب القوات سمير جعجع ترشيحه، قبل جلاء الصورة في الميدان السوري وفوات الأوان».
تهدف المملكة من وراء التهديد الذي أطلقته وتوتير الاوضاع الأمنية في لبنان الضغط على حزب الله وتشتيت جهوده وتركيزه على العمليات القتالية التي يشارك فيها بفعالية في ريف حلب الشمالي، وتحجيم دوره الإقليمي وإعادته إلى الداخل اللبناني، والحصول على تعهّد واضح منه بوقف حملة التهجّم التي يقودها عليها والتي تهزّ صورتها وتفضح ممارساتها في المنطقة والاعتذار. والسؤال هل يمكن أن يحصل ذلك؟
إنّ سياسة الاعتذار كما يقول القطب السياسي البارز لا قيمياً ولا شرعاً مقبولة، ولا وفاء لشعوب تطحنها السعودية مقبولة، فالخلاف في الأصل وليس في الشكل، ودخلت العلاقة بين حزب الله والمملكة على ضوء حرب اليمن في 2015 منذ نحو سنة مرحلة الحظر التاريخي، فموقف السعودية من أزمات سورية والبحرين واليمن وتنسيقها المتعاظم الخفي مع «إسرائيل» أوصل الامور بين الطرفين إلى نقطة اللاعودة. وكانت الذروة مع عهد الملك سلمان، الذي أعلن وفاة مملكة وولادة مملكة جديدة، علماً انه عشية وفاة الملك عبد الله كان وفد من الحوثيين في الرياض يفاوض على حلّ سياسي. كلّ ذلك يأتي بعد مرحلة من التوادّ بإرادة مشتركة لدى الطرفين اقتضتها ظروف تلك المرحلة حافظت خلالها على الوصل والحوار ووصلت إلى حدّ انّ السفير السعودي السابق عبد العزيز الخوجة التقى السيد حسن نصرالله اكثر من مرة، وزار نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم والوزير محمد فنيش الرياض بعد حرب تموز في عام 2006. ورغم وصف المملكة مقاومي حزب الله في حرب تموز 2006 بالمغامرين بقيت العلاقة على قدر من الانتظام في الخلاف.