ناصر نصرالله لـ«البناء»: السبب الرئيسي لأزمة المياه هو سوء إدارة الدولة للثروة المائية القطاع الخاص يستطيع أن يساعد في تنظيم المياه ولكن ليس بطريقة تؤدّي إلى الاحتكار
إنعام خروبي
لا تزال أزمة المياه في لبنان تتفاعل، في ظلّ غياب العمل الجدي لتدارك تداعيات الأزمة التي تنذر بما هو أسوأ إذا استمرّت على هذه الحال في الأعوام المقبلة.
وبدل أن يفكر المعنيون بهذه المشكلة في وضع خطة للمحافظة على المياه وحمايتها، تبرز إلى الواجهة طروحات بديلة، تبدو كأنها هروب إلى الأمام من المشكلة الرئيسية وأسبابها، في بلد طالما تغنّى بغناه المائي، نحو حلول مرحلية غير مدروسة العواقب والتكاليف. وفي غياب الخطة الحمائية للثروة المائية، كبناء السدود وإنشاء البحيرات لجمع المياه والاستفادة من المتساقطات وتغذية الحوض الجوفي وتجديده، تذهب مياه الأمطار هدراً في البحر، بينما يلهث المواطنون وراء الصهاريج التي تملأ الأحياء، ولا يجد المزارعون ما يكفي من المياه لريّ مزروعاتهم.
لاستيضاح أسباب الشحّ والأزمة المائية التي يمرّ بها لبنان، والبحث في ما هو متوافر لديه من إمكانات لمعالجة هذه المشكلة المتجدّدة، في غياب التعاطي الجدّي والحلول المنطقية، كان لـ«البناء» لقاء مع رئيس جمعية أصدقاء ابراهيم عبد العال النائب السابق ناصر نصرالله، الذي أشار إلى «أنّ مشكلة المياه هي مشكلة كبيرة يتمّ التعاطي معها في شكل خاطئ، وقال: «لقد أطلقت صرخة منذ خمسة أشهر، بأن يتمّ تشكيل خلية أزمة وأن يكون هناك تنسيق بين المؤسسات والوزارات المعنية بموضوع المياه، لأنّ هذه الأزمة هي مائية بيئية اجتماعية واقتصادية»، مضيفاً: «للأسف حتى اليوم، وعلى رغم أنّ المعنيين أحسّوا بخطورة الأزمة، إلا أنّ التعاطي لا يرقى حتى الآن إلى المستوى المطلوب وما زال التنسيق ضعيفاً جداً بين الوزارات والإدارات المعنية. وعلى رغم تشكيل لجنة وزارية لمواكبة هذه الحالة، إلا أننا لم نلمس حتى الآن قرارات فعلية، بل هناك فقط، توصيف للأزمة، وكلّ ما نسمعه هو أنّ هناك أزمة مياه، وأنّ المواطنين يحاولون تأمين حاجاتهم من هذه المياه عبر الصهاريج، وسط تقاذف للمسؤولية بين الأفرقاء السياسيين».
ولفت نصرالله إلى أنّ الينابيع السطحية والجوفية اللبنانية تشهد انخفاضاً في منسوب مياهها، وقال: «إذا بدأنا بأهمّ الينابيع وهو نبع جعيتا الذي يغذي مدينة بيروت وضواحيها، نلاحظ أنّ منسوب هذا النبع لم يكن ينخفض في السنوات السابقة عن 150 ألف متر مكعب، أما اليوم نجد أنه انخفض إلى 50 أو 60 ألفاً، وهذا يعني أنّ التراجع في قدراتنا المائية كبير جداً، أي أنّ الموجود هو ثلث الكمية المعتادة، وهذا الواقع ينسحب على معظم الينابيع. أما بالنسبة إلى الينابيع السطحية، أيّ تلك التي كان يقصدها أهل القرى لتعبئة المياه في فترات معيّنة من الصيف، فقد جفّ معظمها، لا سيما تلك الموجودة في منطقة البقاع الغربي، حيث يمتدّ خزان المياه من السلسلة الغربية، أي من جبال الباروك، حتى تومات نيحا، وفي المقابل تبقى الينابيع المرتبطة بالحوض الجوفي مثل ينابيع مشغرة، وإنْ قلّ منسوبها عن الفترة السّابقة، تعطي كمية وفيرة من المياه. أما نبع العاصي فوضعه مختلف لأنّ تكوينه مختلف ومصادره مختلفة، وخلافاً لكلّ ينابيع لبنان، فإنّ وقت الشحّ في هذا النبع هو في الربيع وليس في الخريف، لأنه مرتبط بالكتلة الثلجية التي تتساقط في المنطقة، لكنه تأثر إلى حدّ ما بالواقع المناخي في لبنان وفي المنطقة».
سوء الإدارة
وأكد نصرالله أنّ «السبب الرئيسي لأزمة المياه التي نعيشها الآن هو سوء إدارة الدولة للثروة المائية، التي لم تكن تُعطى الاهتمام اللازم، حتى في الفترات التي يكون فيها معدل المتساقطات مقبولاً»، شارحاً أنّ لبنان، «يمرّ بدورة مناخية، هي عشر سنوات، وخلالها، هناك سنتان أو ثلاث تتميّزان بنسبة متساقطات مرتفعة، أيّ أكثر من المعدلات الوسطية، وأربع أو خمس سنوات يكون معدل المتساقطات فيها مقبولاً، وسنتان تكون فيهما المتساقطات ضعيفة، ولعلّ أوضح دليل على إهمال الدولة لثروتها المائية، هو أننا لا نملك معلومات حقيقية أو أرقاماً دقيقة حول الواقع المائي، بل يتمّ حسبان معدل المتساقطات بطريقة كلاسيكية، وفق تقديرات وتصورات وليس إحصاءات رسمية دقيقة وموثوقة يمكن البناء عليها».
وعلى رغم ذلك، أكد نصرالله أنّ «الواقع هذا العام لم يشهده لبنان منذ أكثر من سبعين سنة الدورة المناخية المئوية »، محذراً من «خطورة أن يستمرّ هذا الواقع في الشتاء المقبل»، وقال: «إذا كانت السنة ضعيفة، فإنّ ذلك سيعني أننا في وضع تصعب معالجته، خصوصاً أننا مررنا بمرحلة تجاوزت الخمسين سنة كان في إمكاننا الاستفادة من ثروتنا المائية، لكننا ذهبنا خلال تلك المرحلة في الاتجاه الخاطئ، إذ استعملنا المياه الجوفية وتركنا المياه السطحية وسيَلان الأمطار الغزيرة في الشتاء تذهب هدراً إلى أماكن لا يمكننا التحكم بها، لأننا لا نملك سدوداً ولا بحيرات نجمع المياه بداخلها لنستعملها في ما بعد، بينما نحافظ على الحوض الجوفي للوقت الصعب كالذي نمرّ به الآن. ونتيجة للإهمال المتواصل، نجد اليوم أنّ الحوض الجوفي صار بعيداً منا، وأصبحت هناك صعوبة في الحصول على المياه من الحوض الجوفي، وإذا ذكرنا منطقة البقاع كمثال على هذا الوضع، نجد أنّ المزارعين كانوا يحصلون على المياه في السابق، من عمق 20 متراً من الحوض الجوفي، أما اليوم فإذا تمّ الحفر بعمق 350 متراً لا يحصلون على المياه المطلوبة».
ولفت نصرالله إلى أنّ «التعدّي الذي حصل على الحوض الجوفي، خصوصاً على الخط الساحلي أضعف ضغط المياه فيه، وصارت مياه البحر أقوى وبدأت تتداخل مع مياه هذا الحوض، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الملوحة في مياهنا التي هي كلسية أساساً، وأصبح طعمها مزعجاً، ناهيك عن أنها صارت ملوّثة لأنّ مياه الصرف الصحي تتسرّب أيضاً إلى الحوض الجوفي، وهناك أيضاً التلوّث الصناعي وأنواع النفايات الأخرى، وكلها تؤثر في شكل خطير في مياهنا الجوفية».
استيراد المياه من تركيا
وعن الطرح الذي تمّ تداوله في لجنة الطاقة والمياه حول استيراد المياه من تركيا، لفت نصرالله إلى أنّ «هذا الطرح ليس منطقياً، فإذا أردنا مثلاً أن نستورد 100 ألف متر مكعب، وسعة كلّ باخرة تنقل المياه 50 ألف متر فإننا نحتاج إلى إقامة منصات للبواخر في البحر واستخدام أنابيب وإنشاء مكان مخصّص للضخّ من سطح البحر إلى المناطق العالية». وأضاف: «أما بالنسبة إلى كلفة الاستيراد، فالذين يطرحون هذا المشروع يتحدثون عن الكلفة في تركيا فقط، من دون أن يأخذوا في الاعتبار كلفة النقل وغيرها، فإذا أردنا أن ننشئ موقعاً للضخّ من الباخرة إلى الضبية، فإننا نحتاج الى ما لا يقلّ عن 50 ألف متر مكعب، وكم باخرة نحتاج لكي نستطيع التحكم بالوقت؟ فالباخرة ليست طائرة وهي تحتاج إلى أيام عدة لكي تصل الى لبنان، وهذا يعني أننا نحتاج إلى بواخر عدة، وهذا النوع من البواخر ليس موجوداً بكثرة في دول العالم كبواخر البترول، لذلك فإنّ ما يطرح حول استيراد المياه من تركيا هو نظرية عشوائية من دون دراسة».
وقال: «هناك حلّ آخر بديل وأقل كلفة من الاستيراد، استناداً إلى تجربة مررنا بها عام 1989 حين انقطعت المياه كلياً عن مدينة بيروت، وكان الرئيس نبيه بري حينها وزيراً للطاقة والموارد الكهربائية، وقدّم لمجلس الوزراء برنامجاً للحلّ يقضي بتأليف لجنة مباشرة وتأمين أموال مباشرة عبر سلفة من مجلس الوزراء، لتأمين الصهاريج للأحياء، وقد صرفت هذه الأموال بواسطة الهيئة العليا للإغاثة وحلت المشكلة». وتابع: «نحن نستطيع أن نعتمد الصيغة ذاتها اليوم، فلدينا قرب صيدا، معمل الأولي التابع للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، وهناك نفق يمتدّ من البقاع حتى الساحل وهذا النفق يحتوي على حوالى 50 ألف متر مكعب من المياه، وهناك إمكانية لتوزيع مياه هذا النفق بواسطة أنابيب على عدد كبير من المناطق، وبدلاً من أن نستورد مياهاً بكلفة ثلاثين أو أربعين مليون دولار، يمكننا أن نشتري بعشرين مليون دولار صهاريج تقوم الدولة بتوزيعها على البلديات، وهذه الصيغة تحلّ المشكلة على مدى الأعوام الثلاثين المقبلة، وبهذه الطريقة يصبح هناك «تانكات» أو مستوعبات مائية في الأحياء أو صهاريج كما ذكرت ويستطيع المواطنون التزوّد بالمياه من خلالها، وبهذه الطريقة يتحرّر المواطن من استغلال أصحاب الصهاريج للأزمة بحيث أصبحوا يبيعون المياه بأسعار عالية جداً، وللأسف لا أحد يتدخل لإيقاف ما يحصل، وقد تحوّلت هذه الصهاريج إلى حالة فوضوية كما هي الحال بالنسبة إلى شركات المياه المعبّأة، حيث يوجد لدينا أكثر من 500 شركة مياه معبّأة في لبنان لا تخضع للفحص في المختبرات ولا للمراقبة، على رغم الضرر اللاحق بالمواطنين بسبب هذه المياه، وللأسف هناك غياب كلي للدولة في هذا المجال، واستغلال للمواطن ولحاجته إلى المياه في شكل كبير، والكثير من «التنظير»، لكن على أرض الواقع ليست هناك محاولات جدية للتعاطي مع هذا الموضوع».
وضع اليد على الآبار
ورداً على سؤال عن اقتراح رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة النائب محمد قباني، وضع الدولة يدها على الآبار، أجاب نصر الله: «إنّ هذا الكلام ليس دقيقاً، لأنّ الآبار مقوننة، أي أنّ هناك قانوناً خاصاً بالآبار، وكلّ مواطن يريد أن يحفر بئراً يجب أن يحصل على ترخيص وأن يدفع رسماً للدولة، وأن يتمّ تركيب عداد للبئر التي يتمّ حفرها، لتحديد كمية المياه التي يمكن أن يحصل عليها من جوف الأرض، فالمياه الجوفية أساساً هي ملك عام، ولا أحد يستطيع أن يأخذ المياه مجاناً، لكنّ للأسف هذا الغياب الكلي للدولة عن تنظيم عملية الاستفادة من المياه الجوفية بواسطة الآبار أدّى إلى مزيد من الهدر. أما بالنسبة إلى وضع اليد على الآبار فإنها نظرية خاطئة لأنّ الآبار هي أساساً ملك الدولة وملك للمواطنين، وفي إمكان الدولة أن تصادر المضخة أو تقوم باستملاك الأرض، لكنها لا تستطيع مصادرة الأرض لأنها مصادرة أساساً وهي ملك للدولة وللمواطنين وللأجيال المقبلة، ولا نستطيع اعتبارها سلعة للتجارة، فالمياه ليست ذهباً كما يتحدثون عنها في خطة «بلو غولد»، فالمياه مياه ومنذ طرح الموضوع وضعتُ علامة استفهام وأبلغتُ القيمين على هذا المشروع بأنّ القطاع الخاص يستطيع أن يساعد في تنظيم المياه، ولكن ليس بهذه الطريقة التي قد تؤدّي إلى الاحتكار، فهذا الموضوع لا يجوز وهو نوع من أنواع الخصخصة». وأضاف: «قبل أن نلجأ إلى الخصخصة في أيّ قطاع من القطاعات يجب أن نبني دولة تستطيع أن تحمي حقوق الناس من الاستغلال والاحتكار، وقد أعطيت مثلاً امتيازات الكهرباء التي أصبحت أقوى من الدولة وتعجز الدولة عن إلغائها، وهي تتحدّى الدولة وتقوم بحملات إعلامية ضدّها وضدّ مؤسسة الكهرباء، على رغم أنها تتقاضى أموالاً من الدولة، كما أنّ أصحاب الامتيازات يشترون الكهرباء بسعر زهيد من الدولة ويبيعونها للمواطن بسعر مرتفع، لذلك فإنّ هذا الامتياز يحقّق سنوياً أرباحاً تصل إلى 20 مليون دولار، وعلى رغم ذلك لا يدفع للدولة اللبنانية أي ضريبة، ولا أحد يعرف الرقم الدقيق للأرباح التي يحققها. وفي هذا السياق، أكرّر أنّ الخصخصة يلزمها إدارة واعية ومتمكنة من معرفتها ومن صلاحياتها تعمل وفق سياسة وضعتها الدولة ولديها برنامج يطبّق في شكل صحيح لكي تحمي المستفيد وتمنع المستثمر من استغلاله واستغلال حاجته إلى الخدمات، وللأسف حتى الآن لا توجد وزارة تخطيط في لبنان، وفيما نحن نغرق في المشاكل بسبب سوء التخطيط والإدارة، بينما كلّ الدول تخطط للعام 2020».
تدارك الأزمة
وعن إمكانية تدارك الأزمة والحؤول دون تفاقمها في الأعوام المقبلة، قال: «نحن نواجه خطراً كبيراً اليوم، وإذا لم نتنبه في المرحلة المقبلة، ونتدارك المرحلة فإننا مقبلون على خطر كبير، ولكي نتدارك هذه الأزمة، ونتفادى انعكاساتها السلبية، علينا أولاً أن نحمي المياه، قبل أن ندعو إلى ترشيد الاستهلاك وغير ذلك من الإجراءات، أي يجب وضع خطة لحفظ المياه من خلال بناء السدود وإنشاء البحيرات لجمعها، وثانياً علينا حفظها من التلوّث، إذ لا ينفع أن نجمع المياه من دون حمايتها من عوامل التلوّث». وتابع: «بما أنّ عملية حفظ المياه مكلفة جداً وتحتاج إلى وقت لكي نتمكن من إنجازها، خصوصاً أنّ بناء السدود يحتاج إلى دراسة ومعرفة وضعها الجيولوجي والهيدرولوجي، إضافة إلى الأثر البيئي، فإنّ أسهل الحلول التي يمكن أن نلجأ إليها هو اعتماد التغذية الاصطناعية أي إعادة تغذية الحوض الجوفي، لأنّ طبيعة التضاريس والجبال اللبنانية، تجعل انزلاق المياه التي تتساقط في موسم الشتاء سريعاً جداً، ما يجعلنا غير قادرين على التحكم بالحوض الجوفي، ما يؤدي إلى ذهاب المياه هدراً نحو البحر، وفي هذا الإطار، لدينا الإمكانية لكي نوجه الأمطار عبر الأحواض الموجودة على السفح الشرقي والغربي إلى الحوض الجوفي، وهذا أمر سهل وبسيط وله نتائج سريعة، وبذلك نكون قد أعدنا تحسين الحوض الجوفي لكي نستفيد منه في المراحل المقبلة، وهذا ما يُسمّى بـ«المياه المتجدّدة» التي تتكوّن من المتساقطات، ويكون المطر في هذه الحالة هو الذي يجدّد الحوض الجوفي، وبدل أن نسحب المياه من الحوض الجوفي، يجب أن نوجّه مياه السيَلان إليه حتى نحافظ إلى حدّ ما على قدراتنا المائية التي تعدّينا عليها بكلّ أسف».