بين الخطأ السياسي… والخطيئة القومية

معن بشور

قرار مجلس التعاون الخليجي، وبعده قرار مجلس وزراء الداخلية العرب، باعتبار حزب الله منظمة إرهابية، يعتبره العقلاء في الأمة قراراً يتراوح بين الخطأ السياسي والخطيئة القومية… خفّف من آثاره السلبية وتداعياته المدمّرة، من دون شك، الموقف المسؤول لوزير الداخلية الأستاذ نهاد المشنوق، بعد موقف زميله وزير الخارجية الأستاذ جبران باسيل، اللذين بتحفظهما على هذه القرارات الخطيرة لم ينسجما مع نفسيهما كوزيرين في حكومة تضمّ ممثلين عن حزب الله وكمسؤولين في دولة يعتبر حزب الله شريكاً ممثلاً لشريحة واسعة من مجتمعها فحسب، ولم يستوعبا فقط كلّ من موقعه، وبما يمثل، توترات داخلية معروفة، وربما قَصَدَ إثارتها مَن كان وراء هذه القرارات، بل إنهما لفتا نظر كلّ العابثين باستقرار لبنان وأمنه ووحدته أنّ اللبنانيين مهما اختلفوا مع بعضهم بعضاً في ملفات وقضايا عديدة، فهم قد تعلّموا من دروس الحرب اللعينة التي شهدوها على مدى عقد ونصف العقد في القرن الماضي، وعبر الحروب المتفجّرة الدائرة حولهم والمدمّرة أعز الأقطار العربية على قلوبهم، أن لا يقبلوا باستخدامهم في متاريس الصراعات في المنطقة والإقليم فيدفعون ثمن ذلك من دماء أبنائهم ومستقبل وطنهم…

لكن ما يحتاج إلى نقاش مع أصحاب هذه القرارات «الفتنوية» بامتياز هو أنّ مَن يقف وراءها يرتكب خطأ سياسياً جسيماً يؤدّي إلى خطيئة مدمّرة، حين يعتقد أنه استطاع بفعل حروب أشعلها في المنطقة، وتحريض طائفي ومذهبي أطلقه دون رادع أو وازع، وتضليل إعلامي لم يسبق له مثيل في حجمه واتساعه وفنونه وأساليبه، قد أوصل الرأي العام اللبناني والعربي إلى حالٍ يمكن أن يقبل فيها هذا الحجم من التجنّي على حزب قاد مقاومة هزمت عدو الأمة أكثر من مرة، وشكّلت سداً رادعاً لمطامعه وعدوانه بعد أن كان زعماؤه يتباهون بأنّ «احتلال لبنان لا يحتاج إلا إلى نزهة تقوم بها مجنّدات على دراجات هوائية».

ومن دون شك، هناك لبنانيون وعرب ومسلمون معترضون على سياسات ومواقف اتخذها حزب الله في هذه القضية أو ذاك الملفّ، لكن أغلب هؤلاء المعترضين أو المعارضين لن يقبلوا أبداً أن يجدوا أنفسهم في خندق واحد مع العدو الصهيوني الذي لا شاغل رئيسياً له ولا اهتمام سوى مواجهة الخطر الحقيقي الذي بات حزب الله يمثله على أمنه ومستقبله بل ووجوده…

بل إنّ هؤلاء لا يفصلون أبداً بين ما بات يردّده مسؤولون صهاينة، كلّ صباح، عن قوة المقاومة وعن ترسانتها الصاروخية، وبين هذه الحملة الظالمة ضدّ حزب الله، مدركين أنّ حرب العدو المباشرة مع المقاومة في لبنان لن تحقق أهدافها، لذلك لا بدّ من الحرب غير المباشرة يقودها حلفاء معلنون أو سرّيون أو بعض قصيري النظر ممّن يعتقدون أنّ الرقم الصعب الذي يمثله حزب الله في هذا الصراع يمكن كسره.

ومرتكبو الخطأ السياسي، حسب البعض، والخطيئة القومية حسب البعض الآخر، لا يدركون حجم ثقافة المقاومة وإرثها وعمقها في أبناء هذه الأمة العظيمة التي ما ألقى أبناؤها السلاح منذ أن وطأ مستعمر أرضهم الطاهرة قبل أكثر من قرنين… لذلك وجدوا أنّ أبرز المعترضين على هذه القرارات، كانوا دائماً في طليعة المدافعين عن المقاومة الفلسطينية في كلّ المراحل، وحتى الساعة، كما كانوا في طليعة المتصدّين للحصار على العراق، وللحروب التي شنّها «أصدقاء الكيان الصهيوني» عليه طيلة التسعينيات من القرن الفائت، وللاحتلال الذي نجح العراقيون بفضل مقاومتهم الباسلة في تحويله إلى مأزق تاريخي يستنزف قدرات الولايات المتحدة وقوتها العسكرية بل ودورها في قيادة العالم بأسره…

إنّ مرتكبي هذا القرار لا يدركون أنّ ثقافة المقاومة في الأمة هي التي تجعل طفلاً تونسياً محمد حميدة يخرج من بطولة العالم في الشطرنج، لأنه رفض أن يلعب مع طفل «إسرائيلي» «فالمصافحة بنظره مصالحة».

كما لا يدرك هؤلاء أنّ ثقافة المقاومة هي التي تجعل مئات الآلاف من الجزائريين يهتفون لمنتخب فلسطين في مواجهة منتخب بلادهم ويقولون «فلسطين لا تخسر في الجزائر»…

ومرتكبو هذا القرار لا يفهمون أنّ ثقافة المقاومة هي التي دفعت بالنائب الناصري «العتيق» كمال أحمد 82 عاماً إلى رمي حذائه في وجه توفيق عكاشة الذي فاخر باجتماعه بالسفير الصهيوني في مصر… بل أن يصوّت أكثر من ثلثي أعضاء مجلس الشعب المصري لإسقاط عضوية النائب «المطبّع» عكاشة من المجلس…

مرتكبو هذا القرار لا يستوعبون أنّ ثقافة المقاومة هي التي دفعت أكثر من 180 شاباً وشابة عربية ليتوافدوا وعلى نفقتهم، من كلّ أقطار الأمة إلى بيروت ليتدارسوا سبل دعم الانتفاضة والمقاومة… في ندوة التواصل الفكري الشبابي العربي السادسة.

مرتكبو هذا القرار لا يرون ما يقوم به شباب فلسطين وشاباتها في وجه جنود الاحتلال ومستوطنيه، فبدلاً من قرارات تدعم صمود المقدسيّين وأهل فلسطين، يصدرون قرارات ضدّ من تبقى من أبناء أمتنا حاملاً السلاح في وجه العدو الغاصب وقوات الاحتلال.

بل إنّ هذه القرارات الخطيرة، بكلّ ما تثيره من تناقضات وتطمح إلى إشعاله من فتن وصراعات، تكرّر توجّهات مماثلة في مواجهة كلّ قيادة وحركة عربية حققت انتصاراً على أعداء الأمة والطامعين في مواردها وخيراتها واستقلالها وسيادتها…

في هذا المجال تحضرنا تلك الحملة الظالمة التي شنّها سابقاً أهل «قرارات الأمس» الخطيرة على جمال عبد الناصر والحركة القومية العربية بعد الانتصار على العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عام 1956، وبعد تحقيق الوحدة بين مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وسورية بقيادة الوحدويين فيها وعلى رأسهم حزب البعث، تلك الحملة التي وصلت إلى حدّ إعداد مؤامرة لاغتيال عبد الناصر نفسه وتخصيص مبلغ عشرة ملايين جنيه استرليني لتحقيق ذلك… حتى لا نذكر ما حصل في اليمن بعد انتصار ثورتها في 28 أيلول 1962، من حرب أرادت إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

وتحضرنا أيضاً في هذا الإطار، كيف تحرّكت جيوش حلف بغداد عام 1958، من العراق إلى الأردن، تحت مظلة «الاتحاد الهاشمي» يومها، للتوجّه إلى لبنان للإجهاز على انتفاضة لبنانية ضدّ ارتباط لبنان بذلك الحلف المشؤوم وبمشروع أيزنهاور الشهير، فكانت النتيجة يومها أيضاً أنّ القوات التي كانت متوجهة إلى الأردن هي ذاتها التي أطاحت بالحكم الملكي العراقي في 14 تموز 1958…

لست من أنصار مقولة «التاريخ يعيد نفسه»، ولكنني من الذين يعتقدون أنّ مَن يتجاهل دروس التاريخ يخطئ بحق ذاته قبل أن يخطئ بحق من يخاصمه… وتاريخ أمتنا هو بالدرجة الأولى تاريخ مقاومة، ما تبناها قائد أو حركة أو تيار إلا واعتزّ، وما ابتعد عنها أو خاصمها حاكم أو نظام أو جماعة إلا واهتزّ…

وانّ غداً لناظره قريب…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى