سورية وإعادة الروح إلى ساحل بلاد الشام
أحمد بدّور
كان ساحل بلاد الشام على مرّ التاريخ في صلب معظم الصراعات على النفوذ في المنطقة والعالم، وقد شكل هذا الساحل، بموقعه الجغرافي، حالة فريدة قلّما تحققت لمنطقة أخرى من هذا العالم . إلا أنّ هذا الموقع الفريد كان دائماً سبباً لصراعات لا تنتهي في رحلة النفوذ والسيطرة على المنطقة وانطلاقاً منها لرسم النفوذ في العالم.
فإذا كان هذا الساحل الممتدّ من لواء الاسكندرون في تركيا نزولاً نحو الجنوب وصولاً إلى سيناء في مصر وشرقاً باتجاه عمق الجزيرة العربية قد شهد حضارات وشعوب كثيرة تركت بصمتها على التاريخ أمثال الكنعانيين والفينيقيين وغيرهم، إلا أنّ هذه الحضارات كانت في حالة صراع دائمة مع كلّ حالم في استعمار المنطقة ووضع اليد على ثروتها الطبيعية وممراتها الجغرافية الاستراتيجية التي تتشكل منها جغرافية هذه المنطقة والتي لها تأثير على رسم النفوذ السياسي وعلى التجارة الدولية، كلّ ذلك جعل من ساحل بلاد الشام محلّ طمع مستمرّ لكلّ الإمبراطوريات أدت إلى عدم استقراره على الدوام وآخر هذه الإمبراطوريات الولايات المتحدة الأميركية والتي أصبح ثابتاً، بالدلائل الدامغة، الدور الذي لعبته هذه الإمبراطورية في الأزمات والحروب التي تشهدها المنطقة وساحل بلاد الشام تحديداً .
فأميركا في رحلتها لمدّ نفوذها في المنطقة والعالم تمهيداً لمحاصرة آسيا ودولها الصاعدة وعلى رأسها الصين، اعتمدت في ذلك على هذا الساحل وجعلت منه نقطة ارتكاز وبداية لمشروعها الإمبراطوري، وإن كانت اعتمدت في تحقيق ذلك على دور بعض الدول الإقليمية التي تدور في فلك سياستها ونفوذها من أجل وضع اليد على دول المنطقة حيث نراها نجحت في تخريب بعض الدول وأخضعتها لمخططاتها المرسومة للمنطقة إلا أنّ هناك دولة واحدة بقيت عثرة أمام نجاح هذه الخطط وتلك الدولة هي سورية. فبالرغم من الضريبة الضخمة التي دفعتها هذه الدولة من دم شعبها ومن مقدراتها إلا أنها لا تزال إلى الآن تقاوم هذه الخطط .
هذه المقاومة للنفوذ الأميركي والتي هي في الحقيقة دفاع عن استقلالية ساحل بلاد الشام بمجمله والذي أفرغ من مضمونه على مرّ السنين حيث تمّ إدخاله في صراعات دموية منذ نكبة فلسطين ونشأة دولة «إسرائيل» والتي شكلت الأسفين الأول الذي دُقّ في جسد هذا الساحل وكان البداية لإدخال بلاد الشام جميعها في حالة من الاستنزاف والحروب المستمرة والتي تغير معها كلّ شيء في المنطقة. فحالة البحبوحة انتهت وأدوار مدن كثيرة فُقدت لصالح دول ومدن أخرى استُحدثت لأهداف تخدم مشروع الإمبراطورية الجديدة، فخفت دور بيروت كعاصمة اقتصادية للمنطقة وصعدت دبي كعاصمة للاقتصاد بدلاً عنها وخفت دور مصر وسورية والعراق وغيرها لمصلحة دول هامشية أُنشئت بهدف تغيير لعبة النفوذ في المنطقة. وبالرغم من النجاحات الكثيرة التي حققتها أميركا في تمدّد نفوذها إلا أنّ كلّ ذلك لم ينتج سيطرة كاملة وتامة على المنطقة فالحالة السورية لم تسقط في المشروع ولم يسقط معها ساحل بلاد الشام والذي تشكل سورية قلبه، وعليه فإنّ استمرارية القتال من قبل سورية وشعبها بدعم من حلفاؤها المُتضرِّرين أصلاً من تمدُّد النفوذ الأميركي في المنطقة كلّ ذلك أدى إلى إعادة الروح لدور هذا الساحل.
وإذا كان هذا القتال أو المقاومة السورية إنما يأتي في البداية دفاعاً عن سورية واستقلال قرارها وبالرغم من أنّ الحديث عن استقلال القرار السوري في هذه الأيام يُعتبر ضرباً من ضروب الخيال نتيجة الصراع الدموي الحاصل على أرض سورية والذي قسَّمها إلى مناطق نفوذ تتشارك فيه معظم دول الصراع على المنطقة. إلا أنّ أهميته تأتي في أنه يؤسس لبداية عودة الدور لهذا الساحل الذي سوف يشكل حالة توازن فرضتها الضرورة بين المتقاتلين في سورية على المنطقة والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى أنّ السوريين قد أثبتوا أنهم ليسوا لقمة سائغة يسهُل تقاسمها على موائد المتقاتلين فقد أداروا المعركة بحرفية عالية جلبت الكبار إلى حلبة الصراع ولم يعد السوري يقاتل وحيداً بل دخلت إلى الحلبة دول كثيرة كانت تقاتل بواسطة وكلاء محليين لها وحتى الولايات المتحدة أجبرت على تغيير خططها وأهدافها نتيجة صمود الشعب السوري وكذلك أولوياتها تغيرت، فقبلت ببقاء الدولة السورية وجغرافيتها موحّدة مع المحافظة على علمانية الدولة وإذا كان ذلك يعتبر تحولاً هاماً في الموقف الأميركي إلا أنه سوف يعطي دفعاً قوياً لدول هذا الساحل وعلى رأسها سورية في لعب دوراً مهماً في السياسة الدولية، بعد أن ينجلي غبار المعركة والذي سوف يشكل نقطة توازن أو تسوية بين المتصارعين على الأرض السورية.
وإذا كان السوريون قد نجحوا في جلب كلّ الآخرين إلى حلبة صراعاتهم واستطاعت الدولة بأدائها أن تظهر المتقاتلين الحقيقيين والأصليين على حقيقتهم وليس الوكلاء المحليين إلا أنّ ذلك قد أعطى دفعاً لكلّ دول الإقليم لإعادة تصدر المشهد والتي ستتكرس بالتسوية الأنفاق المنتظر وأن طال الزمن أو قصر والذي سوف يعيد بدوره التألق لهذا الساحل على حساب دول الأطراف التي شكلت رأس الحربة في الصراع الحالي. ولن يطول الزمن حتى تظهر الأزمات في كلّ من تركيا والسعودية ودول كثيرة شاركت في لعبة الدم الدائرة في سورية إلا أنه وفي نفس الوقت تكون بداية الحلول للأزمة السورية بدأت بالظهور ويظهر معها الدور المستقبلي لساحل بلاد الشام . لعبة هزلية تشبه مسألة الأواني المستطرقة بحيث يخفت دور دول يصعد دور دول أخرى.
كذلك سوف يعيد الوهج والازدهار إلى دور ساحل بلاد الشام والفضل في هذا يعود للشعب السوري ولصموده ولقيادته التي أحسنت حتى الآن إدارة الصراع الحاصل على أرضها وأيضاً يعود إلى دور حلفاؤها بتوفير الدعم وخاصة دور حزب الله الذي بدأ يأخذ بعداً تخطى جغرافية لبنان سواء قبل البعض بذلك أم لم يقبل، والذي سوف يشكل في المستقبل بالإضافة للدور السوري حالة شراكة لإدارة ساحل بلاد الشام وصعوده وكلّ ذلك بموافقة المتحاربين على النفوذ في المنطقة أنفسهم حيث ستفرض عليهم المصلحة المشتركة إعادة بناء هذا الساحل وإعطاءه دوراً كبيراً في رسم سياسات الإقليم نتيجة الضرورة واحتياجات المتصارعين لنقطة توازن تؤدي إلى استقرار الإقليم والذي سوف يلي الاتفاق المنتظر .
والتاريخ سيشهد…
محامٍ