المرأة في مناسبة يومها العالمي… من مبدعة ومقدَّسة… إلى خاضعة ومدنَّسة!
نصّار إبراهيم
«إلى ربّة الأشياء كلّها
سيّدة السماء والأرض، عشتار
المالكة،
التي سارت في العماء المخيف
فأوجدت الأشياء بالمحبّة»
ترنيمة بابلية، القرن 17 ق. م
في يوم المرأة العالمي، كنت أتمنّى بدلاً من الاحتفال بالمرأة على شكل كلام وغزل ومديح، أو على الأقل إلى جانب ذلك، أن تحتفل المرأة أولاً بذاتها، بأن تكتشف قوّتها وأن تعي معنى حرّيتها ودورها الطبيعي العميق، وأن يعي المجتمع بدوره معنى حرية المرأة الحقيقي لا الشكلي الساذج، بما يتجاوز كثيراً جداً قصائد الغزل وكلمات المديح و«التقديس» المجرّدة والورود الحمراء والألماس والأدوات المنزلية، ذلك لأن دلالة هذه الأشياء والسلوك الذي يرافقها إنما يعكسان الوعي الدفين حول دوائر الحصار التي تقيّد المرأة.
كنت أتمنّى أن تساعدني المرأة بثورتها وتمرّدها على العلاقات والثقافة السائدة كي أتحرّر، أنا أيضاً كرجل، من ثقافة الاستغلال والاستعلاء والهيمنة والسيطرة التي أمارسها ضدّها بوعي أو من دونه، كي أتحرّر من ثقافة السيّد التي تستعبدني، ولكن للأسف تبقى هذه مجرّد أمنيات، والأمنيات لا تتحقق من دون وعي وفعل.
فاحترام المرأة الجدّي والعميق يكون باحترام حرّيتها الكاملة وفي وعي دورها وممارسته كفاعل اجتماعي حاسم، واحترام حقوقها الطبيعة في المجتمع والحياة على المستويات كافة. وهذا لن يتحقق إلا إذا تخطّى المجتمع منظومات الثقافة والسيطرة الذكورية التي جعلت من المرأة كائناً ضعيفاً، هشّاً ومستلباً وموضوعاً للغرائز.
كانت المرأة في أساطير بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام وفي مصر القديمة قوة تكوين وقرار وقيادة، طاقة فعل وخلق وإبداع، محوراً مركزياً في حياة المجتمعات وتجدّدها ونشاطها الخلاق. لم تكن مجرد كائن خامل متبلّد ينتظر في غرف نوم الآلهة الذكور.
كانت المرأة إلهة للمطر والخصب والزراعة والحبّ والتجدّد والحرب والصيد، إلهة منتجة، لم تكن هشّة أو هامشية مطلقاً. كما لم تكن ناقصة عقل أو إرادة. وقد بقيت تلعب هذا الدور وباقتدار مذهل إلى أن جاءت الهيمنة الثقافية الذكورية في سياق تقسيم العمل وفق قوانين السلطة السياسية الطبقية. فاغتُصب دور المرأة وأرغمت على الخضوع، لم يحدث ذلك بسهولة وعفوية بل عبر صراعات سياسية وثقافية طبقية طاحنة، كانت نتيجتها هزيمة تاريخية للمرأة ودورها.
عشتار
في أساطير التكوين البابلية والسومرية والكنعانية كانت «عشتار» أو «إنانا» أو «عناة» و«عستارت» أو «عشتروت» في بيبلوس وصيدون وغيرهما من مدن الشاطئ الجنوبي، والتي تعادلها عند المصريين «إيزيس» وعند الإغريق «أفروديت» وعند الرومان «فينوس»، ثم أصبحت لها في مراحل متأخرة أشكال كثيرة فنراها تحت اسم «أتارغاتيس» أو «بارات» عند شعوب أخرى، كانت إلهة فاعلة بطاقتها القصوى، كونها كانت ترمز إلى دور المرأة الاجتماعي والاقتصادي المقرّر والمنتج في حركة الطبيعة والمجتمع وتوازنهما. و«عشتار» أو «عناة»، هي نجمة الصباح والمساء، «الكوكب الذي نسميه فينوس أو الزهرة»، و«عشتار» أو «عناة» هي في الوقت عينه إلهة الحبّ والخصب، وبها ارتبطت مظاهر تبدّل الطبيعة والمواسم لأنها دائماً كانت تبادر إلى الفعل والتحدّي والهبوط على درجات الموت إلى العالم السفلي، لاستعادة حبيبها «بعل» أو «تموز» لتعيد للطبيعة تناغمها وانتظامهاً فتتعاقب الفصول تعاقباً يحفظ الحياة النباتية على الأرض، إذ إنّ الطقس الحار الذي يُنضِج القمح والفاكهة ليس بأقل أهمية من الشتاء البارد والماطر، وموت الخريف ليس إلا مرحلة تحضيرية لانتعاش الحياة في الربيع. فعند نزول «عشتار» إلى العالم الأسفل، عالم الموتى، تغيب معها مظاهر الخصوبة في التربة، وتتعرّى الأشجار وتموت النباتات. وفي عودتها من رحلتها الطويلة تلك، عودة قوية لقوى الخصوبة الممثلة فيها وانبثاق الخضرة والحياة في مملكة الزرع والنبات. ولما كان الإنسان القديم ينظر إلى خصب الأرض وخصب الإنسان على أنهما مظهران لجوهر واحد، فقد كانت «إنانا» و«عشتار» و«عناة» إلهة للحبّ أيضاً، فارتبطت بعبادتها طقوس جنسية واحتفالات كثيرة، خصوصاً تلك التي تروي عملية عودتها من العالم السفلي في أعياد الربيع المشهورة.
وهي إلى جانب كونها إلهة للحبّ والخصب، فإنها أيضاً إلهة للحرب والمعارك، فهي شجاعة تغشى الوغى وتجابه أعداءها بكل ضراوة وجبروت، ولهذا تمثلها بعض الأعمال الفنية وهي مدجّجة بالسلاح وتُخضع الأسود.
كم هو جميل أن نعود في رحلة كثيفة إلى تلك الأساطير، فهي جذر تكويني ثقافي هائل عند الشعوب، ولا تزال، ومن دون أن ندري، تفعل فعلها حتى اليوم في اللغة والطقوس والعادات في شتى مجالات حياتنا الاجتماعية.
قراءات في الأسطورة
لنتأمل النصوص التالية الرائعة والمدهشة بالمقاييس كلها، فهي ليست مجرّد قصائد عابرة أو نصوص فردية، إنما نصوص تم إبداعها اجتماعياً بما يعبّر عن رؤية المجتمعات البشرية وعقائدها وفلسفتها آنذاك تجاه الحياة والموت والطبيعة والعلاقات والأدوار الاجتماعية. وبهذا المعنى فإنها تشكل شهادة راسخة على العلاقات والفضاء الاجتماعي والبيئة الثقافية التي كانت سائدة وتحكم سلوك الناس منذ آلاف السنين.
أرجو عند التعامل مع هذه النصوص أن يبقي السؤال المحوري التالي حاضراً في عقولنا: ما هي العلاقات الاجتماعية والحياتية والفعل الإنتاجي الذي شكّل الأساس في بناء الثقافة التي تعكسها هذه النصوص الرائعة؟
لنقرأ:
1
«يا سيدة السيدات وربّة الرّبات
يا عشتار… ملكة كل الناس، الهادية إلى السبل المستقيمة
الرحمة يا سيّدة الحرب المسيطرة على كلّ المعارك
أيتها الساطعة
يا لبؤة إيجيجي، يا قاهرة الآلهة
أيتها الممجّدة، يا ذات الثبات والعزم
أيتها البطلة عشتار
المتألقة، مضيئة السماء والأرض
عظيمة القوة، جامعة الحشود
إلهة الرجال وربّة النساء لا يعرف خططها أحدٌ
عبدك المعذّب يستصرخك
فانظري إليّ يا سيّدتي، وتقبّلي صلواتي
،
يا عشتار الممجّدة، الباسلة، التي لا نظير لها».
ترنيمة سومرية القرن 23 ق. م .
2
«عشتار، أيتها السيّدة المانحة للحياة
،
ثدياك يا سيدتي، حقلٌ معطاء
ثدياك إنانا، حقلٌ فيّاض بالزرع
وبالحبّ، وبالماء الدافق
فاسكبي لعبدك المطيع
ليشرب».
أنشودة سومرية، القرن 19 ق. م
3
«إنانا
يا سيّدة النواميس الربانية
أيتها الأنوار الساطعة،
يا واهبة الحياة يا مكتسية بالجلال
يا ذات الحلى العظيمة
يا صاحبة المقام الأوّل
أنت إنانا السماء، وإنانا الأرض
يا ممطرة البلاد، المعتدية باللهب
وصانعة القرارات بالأمر المقدّس
،
في خضمّ المعارك، يتحطّم الكلّ أمامك
ويفنى كلّ شئ بقوّتك
تهجمين كالعاصفة، وتدوين كالرعد
أيتها العارفة الحكيمة
واهبة الحياة صاحبة القلب النيّر
… أنا إنخيدوانا
أتلو الصلوات، وأقدّم دموعي شراباً عذباً
لإنانا المقدّسة».
ترتيلة لإنخيدوانا ابنة الملك سرجون الأكادي، 2271 ق. م .
4
«عند قدمَي عناة انحنيا واركعا، اسجدا وبجّلاها
وقولا للعذراء عناة، أعلنا لسيدة الأبطال
أن أقيمي في الأرض وئاماً،
وابذري في التراب المحبّة،
واسكبي السلام في كبد الأرض،
وليهطل الحبّ مخترقاً جوف الحقول».
من رسالة بعل إلى عناة ـ الأسطورة الكنعانية .
5
«أنا أمّ الأشياء كلّها
سيدة العناصر
بادئة العوالم
حاكمة ما في السموات من فوق
وما في الجحيم من تحت
أنا مركز القوة الربانية
أنا الحقيقة الكامنة وراء كلّ الإلهات والآلهة
بِيَدي أقدّر نجوم السماء ورياح البحر وصمت الجحيم
لكن اسمي الحقيقي هو إيزيس
به ارفعوا أدعيتكم وصلواتكم».
ترنيمة مصرية، الدولة القديمة .
اقتبست النصوص من رواية «ظلّ الأفعى» للروائي المصري يوسف زيدان، وبعضها من فراس السواح «الأسطورة والمعنى» .
تحوّل
هكذا تتجلّى المرأة في الأسطورة بكامل جمالها وعمقها وبكامل حضورها وحيويتها وفاعليتها. فحين تتماهى المرأة بالطبيعة والمجتمع فإنها بذلك تجسّد إنسانيتها المطلقة. إنها تعود إلى نبعها الأول، فالأسطورة ليست وهماً، بل هي انعكاس وتجسيد ثقافي لمقاربة الإنسان ووعيه في تعامله مع حركة الطبيعة والعلاقات الإنسانية في سياقات هذه الحركة.
المرأة في الأسطورة خالقة وواهبة، منتجة ومقرّرة ومبدعة. ذلك لأنها كانت كذلك بالفعل. فقد استمدّت قوّتها وحضورها القوي ذاك من دورها المباشر. فكما تستقبل الأرض المطر في المواسم فتنهض الطبيعة بكل كائناتها الحية وبكل تنوعها وتكاملها واكتمالها، كذلك المرأة فإنها تحتضن دورة الحياة وتحميها ثم تهبها في لحظة الولادة ومن ثدييها ترعاها حتى تكتمل.
لقد دمّرت منظومة القهر الطبقية دور الأنثى الشامل هذا بصورة تاريخية ومنهجية، فحوّلتها من كائن فاعل ومقرّر على المستويات كافة إلى كائن خاضع وهامشي، مجرّد تابع يدور حول مركزية الرجل وفي أفلاكه. فحرمتها تلك المنظومة القهرية من حقوقها وأدوارها الطبيعية وحدّت منها. ثم راحت تبذل طاقتها لتبرهن على نقصها ودونيتها لتبرّر خضوعها والسيطرة عليها. والغريب هنا أن كلّ الرجال تحملهم وتحضنهم وتربيهم وتحدّد مصائرهم المرأة/الأم، لكنهم في النهاية ينقلبون عليها ويحتقرونها كمرأة ناقصة ضعيفة وهشة.
لقد وظّفت هذه الثقافة والبنى السياسية والاقتصادية والحقوقية الفوارق البيولوجية لتكرّس هذا التمييز القهري فكرياً وأيديولوجياً، والهدف العميق كان إيصال المرأة إلى تلك المرحلة من الاستلاب بحيث تقتنع أنها فعلاً أقلّ من الرجل قيمة ودوراً وشأناً وإنتاجية وعقلاً وحتى ديناً. فهي بحسب تلك الثقافة تمثل التجسيد المباشر لتشوّهات الطبيعة، فيما الرجل يمثل الكمال.
وهكذا، وفق معايير التقاليد والقيم والإيحاءات الاجتماعية الذكورية السلبية المهيمنة ومحدّداتها وقيودها، تفقد المرأة حريتها الحقيقية وخصوصيتها الإبداعية، فتسقط في ما يمكن أن نسمّيه «الغباء الاجتماعي» أي الخضوع «الحرّ» للإيحاءات والمعايير والاشتراطات السلبية السائدة اجتماعياً، باعتبارها وعياً حقيقياً للواقع.
تلك المنظومة الثقافية القهرية متناقضة في داخلها وبصورة مزرية. فهي من جانب تقدّس المرأة الأم، ومن جانب آخر تتعامل مع المرأة بالمطلق ككائن ناقص أقل مرتبة بذاته.
تسليع
فالمرأة، ورغم كلّ قصائد المديح والغزل والورود الحمراء، ورغم كلّ الشعارات والوعود والاحتفاء بها كلّ سنة وكأنها مجرّد مناسبة سنوية كأيّ عيد ديني، إلا أنها في الواقع لا تزال وفي مختلف بقاع العالم وإن بنسب متفاوتة تدفع الثمن الأكبر من حرّيتها وحقوقها وكرامتها. إنها تكابد وتقاوم، ومن حولها ألف دائرة للحصار والقهر والاستغلال، فتُقتَل وتُغتصَب وتُستغَل وتُسَلَّع وتُشَيَّأ، حتى فقدت كرامتها وضاعت معالم شخصيتها وفرادتها وخصوصيتها.
أصبحت وسيلة لإشباع غرائز الذكورة المنفلتة، وتحوّلت في عصر الاستهلاك إلى سلعة استهلاكية، لا بل مجرد وسيلة لترويج السلع في الأسواق، للسيارات والسجائر والمدافئ ومبيدات الحشرات ومساحيق التنظيف ومواد التجميل ومعاجين الأسنان والوجبات السريعة وأكاذيب التنحيف والشيخوخة والمايوهات واصطياد الفئران والفلافل والبيتزا والفلفل الحار والحلو، ووو. فكلّ مغامر أو مقامر يحلم بالثروة ويريد الترويج لأكذوبة استهلاكية جديدة يبحث عن جسد المرأة فيهتك خصوصيته وقداسته جسد المرأة لكي يبيع أكثر ليربح أكثر.
والمرأة في هذه الواقع هي أيضاً وقود الحروب والاحتلالات واقتتال الطوائف والأديان والقبائل وصدام الحضارات والثقافات. إذ يشعل مجتمع الرجال كمنظومة سائدة في المجالات كافة النيران من حولها ويحاصرونها ثم يبدأون بالصراخ والتألم على آلامها. يطلقون شياطين الحروب والدمار والقهر وتجارة الدعارة ثم يعقدون المؤتمرات للبكاء على ما تتعرّض له من ويلات. يرفعون راية الحرّية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وفي اللحظة ذاتها يكرّسون ويؤبّدون منظومات القهر والتمييز والاستغلال التي تعيد إنتاج استلاب المرأة وعبوديتها.
يفعلون ذلك كلّه وأكثر ثم يقولون إن مساهمة المرأة في الناتج القومي 10 في المئة مثلاً. يحرمونها من فرص التعليم، ثم يقولون إن نسبة الأمّية أعلى عند النساء. والأخطر في هذه العملية كلّها تحوّلها إلى أحكام قيمية مطلقة، أي أنّ الأنثى هي هكذا لأنها بالطبيعة… أنثى!
مقاومة
ومع ذلك، ورغم أهوال القهر والقمع والتمييز والاحتقار والتسليع والتشييء، إلا أن المرأة تتحمّل وتصبر. تتألم وتقاوم بما هو متاح، تحضن ذاتها ودورها الأزلي وتحلم بأن يستيقظ وعي البشرية ذات يوم ليستعيد توازنه. ذلك الوعي الذي تهيمن عليه معايير الهبوط والاستلاب التي فرضها النظام الذكوري من جانب، وعزّزته حالة الاستلاب عند المرأة ذاتها من جانب آخر، فعاث دماراً في الإنسان والطبيعة. إلا أن هذه اليقظة الإنسانية لن تحدث تلقائياً، ولن تحدث من دون تغيير عميق في البنى السياسية والاجتماعية.
المسألة هنا ليست مجرّد رغبة عاطفية أو انحياز عشوائي للمرأة. بل هي محاولة للتذكير بجوهر المشكلة وجذرها، التي تتجاوز اللغو العام عن الحرّية والمساواة والهدايا الرمزية ذات الدلالة، إنها تعيد تذكيرنا بالأصل، بالبدايات الأولى، حيث كانت الأنثى مشبعة بذاتها، بحضورها ودورها، فكانت فاعلاً إيجابياً ومقرّراً لا منفعلاً سلبياً وهامشياً.
فما دامت المرأة مقهورة ومستغَلّة ومستلَبة، ومجرد موضوع لمتعة الرجل واحتياجاته ومكمّلة لدوره فقط، أو هي مجرّد حاضنة لأطفاله، وبالتالي فإن من حقه أن يستعبدها ويستغلّها. فلن تكتشف البشرية معنى إنسانيتها العميق، ولن تصل إلى الحرية الحقيقية يوماً.
تحرّر
بهذا المعنى، فإن حرية المرأة بمعناها العميق والشامل، جوهر الثورة الاجتماعية وركيزتها الحاسمة، لا بل هي جوهر تحرّر الرجل ذاته من ثقافة الاستعباد التي تدمّر إنسانيته وتكامله الطبيعي مع المرأة.
جوهر الثورة الاجتماعية هذه يتجلّى في التحرر من الاستعباد والاستغلال الاقتصادي والسياسي والثقافي والجنسي والطبقي للمرأة، من دون ذلك سيبقى المجتمع يدور في المتاهة ذاتها من البؤس والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي.
إذن، مسألة حرية المرأة أكثر تعقيداً وهولاً من الرقص على مفردات اللغة، إنها تعود إلى تصحيح العلاقات التي اختلت وبعمق عبر التاريخ الإنساني، أي تلك العلاقات التي تعيد إنتاج قهر المرأة واستلابها السياسي والاقتصادي والثقافي والجنسي والنفسي، تلك العلاقات التي هبطت بالمرأة من مداراتها الطبيعية المقدّسة والجميلة بذاتها وجعلتها تتوارى خجلاً من ذاتها ومن عقد النقص والعار التي زرعت قسراً فيها حتى باتت تشعر فعلاً أنها بطبيعتها ناقصة ومدنّسة. فمنذ أن احتلت الثقافة والسيطرة الذكوريتان وعيها وهي تجاهد لإرضاء ذوق «سيّدها»، حتى باتت لا ترى نفسها إلا بعيون الرجل ووفقاً لمعاييره السائدة. وما دامت المرأة تدور في هذه الدوائر المفرغة، فلن تكتشف ذاتها، ولن تعرف معنى الحرية الحقيقية أبداً.
وبكلمة، إن حرية المرأة بالمعنى الشامل والعميق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وجنسياً ونفسياً وسلوكياً هي ممرّ إجباري لكي تستعيد الإنسانية حريتها وكرامتها ومضمونها وتوازنها الطبيعي.