أسئلة لا بدّ منها

توما عبّاس

المدرسة التي كنّا نسمّيها البيت الثاني، والتي تلقينا فيها يوماً ما العلم والتربية والصداقة، وتشاركنا الأنشطة والمواهب، تحوّلت في الفترة الأخيرة، خصوصاً خلال الحرب، إلى كارثة حقيقية حملت في طيّاتها خذلاناً كبيراً لأمانة الجيل. الطفل النازح الذي مشى إلى جانبي في الشارع، وطلب منّي عشر ليرات فقط، وهو يتوسّل ويتسوّل، سألته: «لماذا لستَ في المدرسة الآن؟». فأجابني بحنق: «ما بتخلّيني». قلت له: «من؟»، فلم يجب.

وددت لو أكملت حديثي معه، لكنه كان يبدو مستعجلاً وعيناه تترقبان المارّة وتحاولان اختيار شخص آخر يستجديه عملة قليلة.

تذكرت وقتئذ كلام وزير التربية السوريّ هزوان الوز، حين قال إنّ الوزارة تستنفذ كلّ مجهودها لأجل درء أخطار الحرب وتدميراتها عن البنية التعليمية. أوليس التسرّب المدرسيّ والتحوّل إلى التسوّل من تلك التحدّيات؟ خصوصاً بين النازحين؟ لماذا لا يُراقَب المتسرّبون وهذا ليس صعباً أبداً، لأنّ النازحين جميعاً مسجلّون لدى وزارات عدّة. إذا كانت الوزارة لم تنجح في توفير التعليم للجميع ومحاربة التسرّب، وإذا كانت المناهج تتغيّر مثل الملابس، وكلّ منهاج أسوأ من الآخر يأتي بطبعات قديمة وجديدة وأخطاء طباعية كارثية وسعر مكلف جداً وكمية محدودة. مناهج غير مدروسة لا طابع عملياً فيها، تعتمد على الحفظ المحض، وتتصدّرها مادة «التربية الإسلامية» أغرب مادة تُدرّس في العالم. هل تتخيّلون دولة علمانية تدرّس ديناً محدّداً وفي كنفها تضمّ عدداً كبيراً من الأديان والطوائف وتعاني حرباً ضروساً تحتلّ الفكرة الدينية و«التفوّق الإسلامي» على جميع الأديان رأس الحربة فيها؟

لماذا لم يتمّ العمل على استبدالها بمادة التربية الأخلاقية كما هو مطروح؟ مادة التاريخ وجع آخر لن أقول فيه إلا أن هؤلاء الأطفال يوماً ما سيكبرون وسيعلمون أنّكم كنتم تكذبون عليهم بمناهجكم، وأنّ «الحركة الوهابية» لم تكن حركة إصلاحية إنما تخريبية. وأنّ ما صوّرتموه لهم عن تاريخهم كان فيه الكثير من التزوير. لماذا تعتبر الاختصاصات المهنية عاراً على الأهل بدلاً من توجيه الطلاب إليها، ورفدها بأصحاب المعدّلات العالية وتخصيص المهنية الصناعية مثلاً لتخريج المهندسين، والثانوية التجارية لتخريج طلاب الاقتصاد، والزراعية والفنية وغيرها؟ ولماذا ينقصنا حتى في تلك المدارس المهنية طريقة التطبيق العملي، وينقص تشجيعهم على الصناعة وتمكينهم من إقامة مشاريع مدرسية حقيقية، وحتى تأمين أسواق لمنتجاتهم وبأسعار مقبولة؟

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثانويات الزراعية والفنية. لماذا لم يُحارَب تسرّب طلاب الشهادات باتجاه الدروس الخصوصية ومعاهد بالكاد ترى بعد عدّة أيام من الآن طلاب الشهادة في المدرسة؟ فجميعهم سينقطعون عن صفوفهم للالتحاق بالمعاهد.

بعد رجوع الطلاب من المدرسة يكفي أن تقف في الشارع حوالى الساعة الثالثة ظهراً لترى نزوحاً جماعياً. ترى أطفالاً من الأعمار والصفوف كافة، ومن الشهادتين، يحملون كتبهم ويتّجهون كلّ صوب معهده أو معلّمه الخاص، في منظر مثير للشفقة. لماذا اختفت الحصص الترفيهية مثل الرياضة والرسم والموسيقى، فترى خرّيج معهد الرسم يعطي حصّة رياضة وخرّيج المعهد الرياضي يعطي حصّة الموسيقى. لا يمكن لأيّ مجتمع أبداً أن يتقدّم وهو يحمل ذهنية أن أبناءه كلّهم، عليهم أن يكونوا إمّا أطباء أو مهندسين أو محامين. متى احتفلنا مؤخراً ببطل أولمبيّ أو فوز رياضي بعد غادة شعاع؟ هل لاحظتم درجة الإحباط في صفوف الشباب عند إقامة كلّ دوري كرويّ لثقتهم أن منتخبهم سيكون فاشلاً وبالكاد سيصل إلى الربع الأول من الدوري؟ لماذا اختفت المنافسات بين المدارس في مجال الألعاب الرياضية؟ الدول كلّها تهتم بهذا المجال. بوتين اهتمّ شخصياً بالأولمبياد الذي أقيم في روسيا. أميركا تمنح منحات دراسية للمتفوّقين رياضياً. لماذا لا نحمل ثقافة أنه على أحد أولادنا أن يكون موسيقياً متفوّقاً أو رساماً باهراً أو نحاتاً أو…

لماذا اختفى المسرح المدرسي؟ هل يتطوّر بلد لا مسرح فيه ولا سينما ولا أمسية عزف منفرد؟ بلد من دون موسيقى وشعر ورياضة ورسم وتصوير ونحت ومسرح وسينما وفلسفة لن يتقدّم طالما التوجه المدرسي فيه نحو الرياضيات فقط والعلوم فقط والطبّ والهندسات وغيرها. ولكنها مع أهميتها لن تنجح منفردة. فهناك طلاب لا يملكون القدرة العلمية أو المهنية، ولكن لديهم طاقات كبيرة إن لم تقدر المدرسة على استيعابها فستقع فريسة في يد شيوخ الفتن والقتل، وستتحول الطاقات من لوحة إلى ذبح وقتل وتطرّف.

المدرسة والجيل أمانة كبيرة وحِمل ثقيل. فماذا فعلت وزارتنا الكريمة، وزارة التربية في حمل هذه الأمانة؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى