حروب المحاور وتصفية الحسابات والمبادرة المصرية
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
واضح أن ما يحصل على ساحة قطاع غزة ليس عدواناً همجياً يشن على الشعب الفلسطيني لفرض مشروع سياسي عليه فحسب، بل ثمة صراعات وتصفيات حسابات تتمّ بين أكثر من طرف ومحور تتشابك مصالحهما حيناً وتفترق حيناً آخر، وهذه الصراعات وتصفية الحسابات التي يدفع الشعب الفلسطيني ثمنها دماً وشهداء وخسائر كبيرة في الممتلكات، وهي جرائم حرب بامتياز وإبادة جماعية.
إنها صراعات تدور ويشارك فيها أكثر من طرف فلسطيني وعربي وإقليمي ودولي، ونظراً الى تلك المحاور الثلاثة المتصارعة هناك، نرى أنها تلتقي حيناً وتفترق حيناً آخر، تبعاً لرؤية وأهداف ومصالح كل طرف من تلك المحاور المتصارعة، ويعكس ذلك نفسه على المبادرة المصرية التي قدمت لتثبيت تهدئة بين قوى المقاومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال المعتدية والقبول بها مثلما طرحت، إلاّ أنها رفضت لكونها لا تلبي الحد الأدنى من شروط المقاومة، ولكون ما كان مقبولاً في تشرين الثاني 2012 لم يعد مقبولاً اليوم، فالمقاومة لا تريد العودة الى المربع الأول بعد كل عدوان، بل تريد أن تتمّ معالجة جوهرية لأصل المشكلة الاحتلال والحصار.
لدى تحليلنا واقع الصراع والمجابهة الجارية الآن في قطاع غزة نجد أن محاور الصراع مختزلة في ثلاثة محاور، في مقدمها محور ايران وسورية وحزب الله، ثم محور تركيا وقطر وحركة «الإخوان المسلمين»، فمحور مصر والسعودية والإمارات العربية والأردن والسلطة الفلسطينية. هذه المحاور تلتقي مصالحها في ساحة وتفترق في ساحة أخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يلتقي المحوران الأول والثاني في الإبقاء على حماس قوية وخروجها من المعركة منتصرة وغير خاسرة، فالمحور الأول يريد من ذلك أن يتعزز حضوره ودوره وتأثيره من خلال انتقال حماس من المحور الثاني الى محورها، بعدما تولّدت قناعة لدى معظم قادة حماس بأن المحور الذي انتقلت إليه لم يقدم إليها سوى الوعود والشعارات، في حين أن المحور الثاني زوّدها الأسلحة وتقنيات تصنيعها، ما مكنها من الصمود وتوجيه ضربات موجعة إلى دولة الإحتلال. أما المحور المحور الثاني فيريد أن تستعيد حماس شعبيتها وجماهيريتها فلسطينياً وعربياً وإقليمياً، ارتباطاً بمشروع «الإخوان المسلمين» الذي تعرّض لانتكاسة كبيرة في أكثر من ساحة عربية، وتحديداً في معقله مصر، وكذلك في سورية وغيرها من الأقطار العربية. ويقف هذان المحوران على طرفي نقيض في ما يتعلق بالمعارك والحروب الدائرة في العراق وسورية. كذلك يلتقي المحوران الثاني والثالث ويتقاطعان في الوقوف ضد النظامين العراقي والسوري، ويعملان جاهدين على إسقاطهما وتوفير جميع سبل الدعم المادية والعسكرية والسياسية والإعلامية والبشرية لهذا الهدف، في حين يفترقان ويختلفان في الموقف من النظام المصري وحركة حماس، فمحور تركيا ـ قطر يقف ضد النظام المصري الحالي الذي جاء على أنقاض نظام «الإخوان» الذي كانت تدعمه وترعاه تركيا وقطر وقوفاً الى جانب حركة حماس. في المقابل تقف السعودية والإمارات العربية والسلطة الفلسطينية والأردن الى جانب النظام المصري وضدّ حركة حماس من منطلقات سياسية وتناقض مع أهدافها ومصالحها.
هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من المصالح والصراعات وتصفية الحسابات، لا بدّ من أن تكون متصارعة حول المبادرة المصرية لتثبيت التهدئة. وقبل تناولها لا بدّ من القول إن هذه المبادرة أتت أقرب الى الاتفاق الذي وقع في تشرين الثاني 2012 برعاية مصرية تركية قطرية، واعتبرته حماس آنذاك نصراً إلهياً، وتتحدث المبادرة الآن عن وقف جميع الأعمال العدائية البرية والجوية والبحرية ضدّ قطاع غزة وعدم القيام بعمليات التدخل البري واستهداف المدنيين، وبالنسبة إلى المقاومة وقف جميع الأعمال العدائية البرية والجوية والبحرية وتحت الأرض وعدم إطلاق الصواريخ بأنواعها المختلفة على «اسرائيل» واستهداف المدنيين.
لدى التدقيق في تلك المبادرة نكتشف أنها تعالج جوهر المشكلة الاحتلال والحصار، كما تفشل في تقديم جداول عملية لرفع الحصار الغذائي والاقتصادي عن قطاع غزة وتربط ذلك باستقرار الأوضاع الأمنية، ولا تضع آليات لمنع استمرار خروق «إسرائيل» وعدوانها على القطاع، وتساوي بين الضحية والجلاد، فضلاً عن أن بند تحت الأرض يعني على نحو أو آخر تجريد المقاومة من أسلحتها، ومنع حفر الأنفاق وحيازة الصواريخ وتقنيات تصنيعها، وهذه المنطلقات كان مفترضاً أن تركز عليها المقاومة الفلسطينية لرفضها المبادرة وليس الجانب الإجرائي والشكلي لناحية مشاورتها أو عدم مشاورتها.
صيغت المبادرة المصرية جوهراً ومضموناً لكي تجعل قوى المقاومة، وتحديداً حماس، غير قادرة على قبولها، ليس انطلاقاً من مصلحة الشعب الفلسطيني بل من اعتبارات مصرية داخلية وتصفية حسابات مع حماس، بسبب وقوفها الى جانب النظام السابق وعبثها في الساحة المصرية. وفي المقابل جزء من رفض حماس مرتبط بعلاقتها التنظيمية والأيديولوجية بحركة «الإخوان المسلمين»، والخلاف على الدور المصري حول رعاية الاتفاق والمناكفة والخلاف المصري مع قطر وتركيا، وتريد برفضها أن تطبّع علاقاتها مع النظام المصري، مستغلة ثقل حليفيها تركيا وقطر لاستعادة شعبيتها ودورها عربياً وإقليمياً.
لعلّ المقاومة محقة في رفضها المبادرة المصرية، لكون فاتورة العدوان على قطاع غزة مرتفعة جداً شهداء وجرحى ودماراً كبيراً، وبالتالي من غير الممكن أن تقبل قوى المقاومة بالمبادرة المصرية حتى لو انتحرت سياسياً، إذ لا تلبي حاجة الشارع والجماهير التي احتضنت المقاومة، وبالتالي هذه الجماهير ضحت ودفعت ثمناً باهظاً وستصب غضبها على حماس والمقاومة اذا قبلت بالمبادرة، خاصة أن المقاومة بصمودها وما امتلكته من توازن عليها، ترى أن مطالبها برفع الحصار وفتح المعابر وإطلاق سراح الأسرى المحررين في صفقة الوفاء للأسرى صفقة شاليط وتوزيع مساحة ومدى مناطق الصيد ووقف العدوان «الإسرائيلي»، وغيرها من المطالب، هي مطالب محقة لأي هدنة مقبلة، في حين أن مصر لا تريد هي والعديد من الدول العربية لحماس أن تخرج منتصرة من المواجهة، فذلك يصب في تقوية مشروع «الإخوان» الذي تعرّض لانتكاسة جدية في مصر وسورية وغيرها من الأقطار العربية. وفي المقابل تلقى قوى المقاومة صعوبة في قبول المبادرة المصرية وقد تجد نفسها في أزمة خيارات. ولكن مهما يكن الأمر فالنتائج المترتبة على القبول قد تكون أكثر سلبية من عدم القبول بالشيء الكثير، فمن شأن استمرار الصمود والمقاومة جعل الأمور تسير نحو الحلّ، بما يخدم المقاومة وشروطها. لكن ينبغي التشديد هنا على قضية جوهرية أنّ على الأطراف الفلسطينية أن تكفّ عن سياسة المناكفة والتحريض والابتعاد عن تحميل المقاومة مسؤولية التصعيد «الإسرائيلي»، فالاحتلال وحده يتحمّل المسؤولية، وليس رفض قبول المبادرة المصرية، ما يضع المقاومة في موقع الشريك والمسؤول عما ستؤول إليه الأمور. لذا يجب أن يتمّ الاستثمار سياسياً وفق مصالح الشعب الفلسطيني، وليس وفق مصالح فئوية وحزبية، أو وفق أجندات وأهداف غير فلسطينية. وعلى السلطة الفلسطينية أن تعي وتدرك تماماً أنّ انسداد أفق المفاوضات وتوحّش الاحتلال في الجوانب والمجالات كافة دفع بالشعب الفلسطيني إلى الوقوف مع خيار المقاومة.