أحمد سعيد… الصحاف… الجبير
راسم عبيدات
أذكر أثناء اندلاع حرب حزيران 1967، والتي هزمنا فيها كعرب شر هزيمة، رغم محاولتنا التقليل من شأن تلك الهزيمة على أساس أنها نكسة، بأن المعلق السياسي في إذاعة صوت العرب المصرية المرحوم أحمد سعيد كان يتلو البيانات النارية عن انتصارات عربية ورقية، حيث إسقاط الطائرات «الإسرائيلية» بالجملة وتدمير مئات الدبابات والعربات المدرعة والإبادات بحق فرق «إسرائيلية» كاملة، وعبارات الديماغوجيا الثورية «تجوع…. تجوع يا سمك» و«سنلقي بهم في البحر»… إلخ، ولكون بلدتنا جبل المكبر كانت أحد الخطوط الأمامية للجبهة، وكان لدينا راديو بحجم التلفزيون 36 بوصة اليوم نستمع فيه لأخبار القتال على الجبهات العربية، وإذا بصوت المرحوم أحمد سعيد يصدح: «كبر يا مكبر كبر… حررنا جبل المكبر». لتتعالى هتافات الموجدين الله وأكبر الله وأكبر «عاش الزعيم الخالد جمال عبد الناصر»، وما هي إلا ساعة من الزمن، وإذا بعدد من الدبابات يتمركز على مقربة من بيتنا، وأصر والدي الذي يعشق القائد الرئيس الراحل عبد الناصر الى حدّ العبادة، على أن أقوم بإرسال الشاي للدبابات العراقية التي كان يعتقد أنها تتمركز بالقرب منا، ولما وصلت كانت المفأجاة كانت دبابات لدولة الاحتلال، حيث عدت بإبريق الشاي وكاساته، وأنا مرعوب، قلت لوالدي والموجودين إنها دبابات «إسرائيلية»، ولكن والدي لم يقتنع وأصر على أنني جننت، فالمرحوم أحمد سعيد يتلو بيانات النصر والتحرير، ولم يقتنع إلا بمجيء عدد من الجنود الأردنيين يطلبون ملابس مدنية لكي ينسحبوا وتحدثوا عن الخيانة.
هذه الهزيمة القاسية أفقدت الجميع الثقة ليس بالنظام الرسمي العربي، بل أصبحت النظرية السائدة عند العرب شعوباً وقيادات عن الجيش «الإسرائيلي» بأنه «الجيش الذي لا يقهر»، ولم تعد البلاغات والبيانات العسكرية الصادرة عن قيادة الجيوش العربية محط ثقتها واحترامها، ولتصبح محطات «مونت كارلو» و«لندن» أكثر مصداقية وموضوعية منها، ولتكن معركة الكرامة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني جنباً الى جنب، محطة فاصلة استعادت فيها الشعوب العربية الثقة شيئاً فشيئاً بجيوشها وقياداتها، وكانت تلك المعركة أول نصر يتذوقه العرب.
حرب أكتوبر «التحريكية» أعادت الثقة بالجندي العربي، وأضحت البيانات العسكرية العربية، أكثر دقة وموضوعية، ولكن ما تحقق من إنجاز ونصر عسكري، لم يجر استثماره سياسياً، فكانت الخسارة مدوية، وبدد النظام الرسمي العربي بفعل البترودولار هذا المنجز والنصر، عبر اتفاقية «كامب ديفيد» التي أخرجت مصر بثقلها العسكري والبشري والسياسي من المعركة ضد العدو الصهيوني.
جاءت الحرب الأطلسية الغربية الاستعمارية على العراق، تحت حجج وذرائع خادعة ومضللة بامتلاكه السلاح النووي، وممارسة القمع بحق الشعب العراقي، من أجل احتلاله وتدميره وتقسيمه ونهب خيراته وثوراته وتفكيك جيشه ومؤسسته العسكرية.
في الوقت الذي كانت فيه القوات الغازية على أبواب بغداد، كان وزير الإعلام العراقي في تلك الفترة محمد سعيد الصحاف، يتحدث عن «أم المعارك»، ولأن بغداد ستكون مقبرة لـ«العلوج» الأميركيين، وبأن العدو سينتحر على أبواب وأسوار بغداد، ولنشاهد بأن كل هذه «الهوبرات» الإعلامية والخطابات النارية، ليس لها أي أثر في أرض الواقع، ففي الوقت الذي كان يدلي فيه بتصريحاته هذه كانت القوات الأطلسية الغازية تغتصب بغداد عاصمة الرشيد بمشاركة عربية فاتحة الطريق للمزيد من الاغتصابات بحق عواصم عربية أخرى، بعد السكوت على اغتصاب القدس.
رحل الصحاف، وكان وقع اغتصاب عاصمة الرشيد كبيراً وصادماً على الشعوب العربية، والتي باتت تدرك بأن هذا النظام الرسمي العربي المنهار، ليس أهلاً للقيادة والدفاع عن الكرامة والأمن القومي العربي، ودخلت الشعوب العربية في حالة من اليأس والقنوط، ولتستعيد الثقة من جديد بعد نجاح حزب الله اللبناني بقيادة سماحة السيد حسن نصرالله في إلحاق الهزيمة بما يسمى بالجيش الذي لا يقهر في الحرب العدوانية التي شنتها «إسرائيل» على حزب الله والمقاومة اللبنانية في تموز 2006.
وأصبح «الإسرائيليون» لأول مرة يثقون بزعيم عربي أكثر من ثقتهم بقيادتهم، لأنهم يدركون بانه يقول الحقيقة، وإن قال فعل.
اليوم بعد الانتصارات المتسارعة التي يحققها الجيش السوري وحلفاؤه، صرنا بشكل شبه يومي نسمع أحد صبيان النظام السعودي، المدعو عادل الجبير، يردد كالببغاء على الرئيس السوري بشار أن يرحل، الرئيس السوري يقتل شعبه، الرئيس السوري ديكتاتوري، على اعتبار أن نظامه السعودي قاطع الأيدي والرؤوس ديمقراطي. السعودية ستتدخل برياً في سورية، السعودية لن تقبل تمثيلاً للمعارضة السورية غير المعارضة المنبثقة عن مؤتمر الرياض، وكل يوم يتحفنا بتصريح عن سورية وعن الرئيس بشار الأسد ورحيله، وكل هذه التصريحات لكون دولته حكومة تابعة وأداة من أدوات أميركا في المنطقة تحركها كيفما تشاء، وتحدد لها شكل علاقاتها وتحركاتها ومواقفها، وحتى كيفية صرف أموال الدعم السعودي لمن تذهب ولمن لا تذهب… فسرعان ما يجرى التراجع عنها، حيث سقطت معزوفة التدخل البري في سورية، بسبب رفض أميركا لذلك، وكذلك سقطت أسطوانة الفترة الإنتقالية أو الهيئة الانتقالية، فهناك قرار أممي 2254 ينص على التشارك في حكومة يقودها الرئيس الأسد، وعدم المشاركة في جنيف إذا جرى تمثيل أطياف أخرى من المعارضة السورية في هذا المؤتمر، وهذا الشرط جرى لحسه والتخلي عنه.
الجبير يريد أن يعطي لنفسه حجماً أكبر منه بكثير، فهو ليس أكثر من أداة تابعة، غير مالكة لقرارها ولا لإرادتها السياسية، فرغم المشاغبات والحرد الصبياني، سرعان ما يعود هذ الولد عن أعماله الصبيانية ومشاغباته، فهو يدرك أنه إذا ما تمادى في ذلك، لن ينال أي جائزة تقديرية من أميركا، بل ستتم معاقبته.
من أحمد سعيد الى الصحاف فالجبير، ظواهر اعتادت على الكذب وتصوير الهزائم المريرة الى انتصارات ورقية، خالقة حالة واسعه من الإحباط في صفوف الجماهير العربية، ولكن في حالتي أحمد سعيد والصحاف، هم ربما أرادوا رفع معنويات الشعوب العربية، وهم ليسوا بالخونة والمتآمرين، في حين هذا الصبي الجبير، فعدا عن أنه كذاب ومخادع من الطراز الأول، فهو يبتذل نفسه حد الابتذال، ومتآمر على المنطقة العربية ومشروعها القومي خدمة لأجندات وأهداف استعمارية غربية وأميركية وصهيونية.