انسحاب للقوات الروسية من سورية أم تخفيضها… لماذا القرار الآن؟
حسن حردان
من دون أدنى شك جاء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب جزء رئيسي من أسراب طائرات السوخوي الروسية التي شاركت على مدى الأشهر الماضية في دعم الجيش العربي السوري وحلفائه في محاربة قوى الإرهاب التكفيري، مفاجئاً للعالم، لا سيما الغرب والجماعات المعارضة الدائرة في فلكه، تماماً كما جاء قرار إرسال هذه الطائرات، ومن ثم منظومات الدفاع الجوي المتطوّرة «أس 300» و«أس 400» صادماً ومفاجئاً لهم.
وفور الإعلان عن هذا القرار صدرت العديد من التعليقات وردود الفعل عليه:
البعض فسّر القرار على أنه انسحاب روسي من سورية وليس تخفيضاً للوجود العسكري الجوي، واعتبر أنّ القرار يندرج في سياق الضغط السياسي على الرئيس بشار الأسد، ويأتي نتيجة للخلاف بين روسيا وسورية حول شروط التسوية.
والبعض الآخر رأى أنّ القرار يأتي في سياق تموضع الرئيس بوتين في خيار التسوية بدلاً من خيار السوخوي، وأنه ترجمة لاتفاق روسي أميركي.
لكن من خلال قراءة موضوعية للقرار ومضمونه وحيثياته، بعيداً من الأمنيات يمكن أن نخلص إلى الآتي:
أولاً: إنّ القرار لم يأت على ذكر انسحاب كلّ القوات الروسية من سورية، بل تحدّث عن سحب جزء من القوات الجوية التي لم يعد هناك حاجة لبقائها في سورية نتيجة تقلّص حجم العمليات الحربية التي كانت موكلة إليها، بعد خمسة أشهر من مشاركتها في مساندة الجيش السوري في حربه ضدّ القوى الإرهابية. لا سيما بعد نجاح هدنة وقف العمليات العدائية واستمرارها، واقتصار الجهد العسكري على محاربة «داعش» و«النصرة».
ثانياً: لقد نصّ القرار على إبقاء القاعدتين الروسيتين في سورية، القاعدة الجوية في حميميم في اللاذقية، والقاعدة البحرية في طرطوس، وكذلك أنظمة صورايخ «أس 400» و«أس 300» للدفاع الجوي، وعدد من طائرات السوخوي لمواصلة مهمات الحرب ضدّ قوى الإرهاب التكفيري التي حدّدها قرار مجلس الأمن رقم 2254 بتنظيم «داعش» وجبهة «النصرة» ومن يرفض من المجموعات المسلحة قرار وقف العمليات العدائية، والانخراط بمفاوضات الحلّ وفق القرار الدولي. وهو ما تجسّد في اليوم الثاني للقرار عندما شنّت طائرات السوخوي الروسية عشرات الغارت على مواقع «داعش» في مدينة تدمر ممهّدة الطريق أمام تقدّم الجيش السوري لتحريرها. كما أنّ القرار لم يشمل سحب المستشارين الروس الذين يتولّون بموجب اتفاقات التعاون العسكري بين روسيا وسورية تدريب ضباط وجنود الجيش السوري على الأسلحة الروسية الحديثة.
ثالثاً: إنّ القرار تمّ بالتنسيق مع الدولة السورية، تماماً كما كان قرار إرسال القوات الجوية الى سورية، وهو ما أشار اليه وزير الدفاع الروسي لنظيره السوري، وتأكيده على استمرار التعاون والتنسيق بين الجانبين ومواصلة القوات الجوية الروسية دعمها للجيش السوري في حربه ضدّ قوى الإرهاب.
رابعاً: لقد جاء توقيت القرار الروسي في لحظة بدء المفاوضات بين وفدي المعارضة والحكومة السورية في جنيف، ليخدم على نحو ذكي هدف تعزيز مسار التفاوض على أساس القرار 2254 ومقرّرات فيينا والتي تلبّي وجهة النظر الروسية والسورية والإيرانية لمفهوم حلّ الأزمة، والتي تؤكد أنّ الشعب السوري هو صاحب القرار في تقرير وانتخاب رئيس بلاده، وليس أيّ جهة خارجية، وذلك عبر الانتخابات، وهو أمر لا يناسب أطراف المعارضة التي تدرك أنّ الانتخابات لن تؤدّي الى تحقيق حلمها في الوصول الى السلطة، ولهذا تريد أن يجرى فرض التغيير السياسي بقرار خارجي يأتي بها الى سدة الحكم، خصوصاً أنّ الانتخابات الديمقراطية وبإشراف هيئة دولية سوف تفضح أمر هذه الأطراف المعارضة من أنها تفتقد إلى الحدّ الأدنى من التأييد الشعبي، وبالتالي تكشف زيف ادّعاءاتها بأنها تمثل الشعب السوري.
ولهذا فإنّ الحديث عن أنّ القرار الروسي يستهدف الضغط على الدولة السورية لتليين موقفها في المفاوضات لا يمتّ الى الواقع بصلة، بل العكس هو الصحيح، فالمطلوب من القرار الروسي هو أن تضغط واشنطن على أطراف المعارضة وكذلك على السعودية وتركيا كي تتوقف عن وضع الشروط المسبقة وتدخل العملية التفاوضية وفق الشروط التي نص عليها قرار مجلس الأمن والتفاهم الروسي الأميركي على تنفيذها، ولهذا فإنّ القرار بهذا المعنى جاء ليوفر الغطاء للإدارة الأميركية لإلزام حلفائها وأطراف المعارضة بالدخول في المفاوضات على القواعد التي اتفق عليها مع روسيا، وبالتالي التوقف عن وضع العصي في الدواليب، لا سيما أنّ ذلك لم يعد يفيد، ولا يوجد بديل آخر.
رابعاً: أنّ القرار لا ينتاقض مع مصالح روسيا الاستراتيجية في الحفاظ على علاقتها التحالفية مع سورية، وبالتالي منع الخطر الإرهابي من الوصول الى الداخلي الروسي، والعمل على القضاء عليه في سورية، وتأمين أمن روسيا القومي، وكذلك أمن سورية، ومن المهم التذكير هنا بأنّ الحضور الروسي العسكري النوعي في سورية حقق هدفاً مهماً لروسيا، الى جانب ضرب الخطر الإرهابي، ألا وهو فرض توازن دولي جديد مع الولايات المتحدة والدول الغربية، ووضع حدّ لهيمنتها على القرار الدولي، وبالتالي طيّ مرحلة نظام هيمنة القطب الأوحد، والتمهيد لولادة نظام دولي متعدد الأقطاب، وهذا التوازن الجديد تمكّنت روسيا من بلوغه بعد قرارها إرسال طائرات السوخوي ومنظومات الدفاع الجوي المتطوّرة، الأمر الذي قطع الطريق على خطط الغرب وحلفائه للتدخل في سورية وإقامة منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة لدعم الجماعات الإرهابية وإدامة حرب الاستنزاف ضدّ الدولة الوطنية السورية.
خامساً: انطلاقاً مما تقدّم، ليس صحيحاً أنّ القرار الروسي جاء نتيجة صفقة روسية أميركية على حساب سورية، وإنما جاء في لحظة سياسية وعسكرية أراد بوتين توظيفها في مصلحة روسيا وسورية بالسعي من جهة الى إعطاء دفع للمفاوضات على أساس الشروط التي تحقق مطلب الدولة السورية، ومن جهة ثانية توفير المزيد من الظروف المواتية لتسريع عملية الحسم العسكري ضدّ «داعش» و«النصرة» والقوى التي تدور في فلكهما، وصولاً الى تمهيد الطريق أمام الحلّ السياسي الوطني الديمقراطي الذي يحفظ سيادة واستقلال سورية عبر إجراء انتخابات نيابية ورئاسية يتمّ عبرها انتخاب رئيس ومجلس نيابي منبثقين من إرادة الشعب السوري، وليس من إرادة أجنبية.