المبادرة الفرنسية… لا تستهدف حل الصراع بل استمرار إدارته

راسم عبيدات

في كل مرة يتأزم فيها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والذي كان لفترة ما قبل أوسلو جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، كنا نرى تحركات عربية وإقليمية ودولية على شكل مبادرات سياسية تارة تقودها أميركا وأخرى الرباعية الدولية وبلدان أوروبية متعددة مثل فرنسا، كندا، أستراليا وغيرها، وجوهر هذه المبادرات التي يتلقفها دائماً الطرف الضعيف والمضعف لنفسه بفقدان إرادته وقراره المستقل العرب والفلسطينيين، في حين ترفضها «إسرائيل» القوية والمدعومة من قبل أصحاب المبادرات أنفسهم، والتي تأتي جميعها من دون استثناء، من أجل الاستمرار في إدارة الصراع وليس حله، فهي تأتي لكي لا يخرج هذا الصراع عن السيطرة، وتمدد مفاعيله وتطوراته وانعكاساته على الساحتين العربية والإقليمية، فهو من زاوية قد يشعل غضب الجماهير العربية والإسلامية ويزيد من حالة تنامي العداء والكره والحقد على «إسرائيل»، ومن جهة أخرى يسبب حرجاً لهذه الأنظمة ويكشف عجزها وانهيارها وحتى تواطؤها، وأي من هذه المبادرات لم يأت ليتفق مع قرارات الشرعية الدولية والعمل على تنفيذها، بدل استمرار التفاوض حولها، والتي في الغالب تعطلها الأطراف صاحبة المبادرات تلك، وكذلك هي لم تلامس في سقفها الأعلى الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، في العودة وتقرير المصر والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على حدود الرابع من حزيران 1967، بل جوهر الطرح يقوم على أساس ما يسمى بخطوات بناء الثقة تحسين شروط وظروف حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وإطلاق سراح عدد محدود من الأسرى وزيادة تصاريح عمل للعمال الفلسطينيين في القدس والداخل الفلسطيني 48 ، من دون أن تلتزم «إسرائيل» لا بوقف الاستيطان أو تجميده، بمعنى تصبح المبادرة تشريع لما يقوم به الاحتلال من استيطان، بسكوت ورضى فلسطيني.

اليوم بعد تصاعد الانتفاضة الشعبية ودخولها للشهر السادس، والتي أدخلت حكومة الاحتلال والمجتمع «الإسرائيلي» في مأزق، ونسفت منظومته الفكرية والسياسية والأمنية، كان لا بد من طرح مبادرة سياسية جديدة من شأنها، أن تمنع تصاعد وتطور الانتفاضة الشعبية، وبما يخرج الأوضاع عن دائرة السيطرة «الإسرائيلية»، حيث انسداد الأفق السياسي، ورفض حكومة الاحتلال تقديم أي تنازلات جوهرية، من أجل العودة للتفاوض، وكذلك الحالة التي وجدت فيها السلطة الفلسطينية فيها نفسها بين المطرقة والسندان، الاحتلال يشدد من عمليات قمعه وخنقها الاقتصادي ويعمق من أزمتها، وفي المقابل القوى والأحزاب والمؤسسات المجتمعية والحراكات الشبابية تطالب السلطة بمراجعة اتفاقياتها الأمنية والاقتصادية والسياسية مع حكومة الاحتلال، وما يعنيه ذلك من تغير في دور ووظيفة السلطة.

المبادرة الفرنسية والتي طرحت من قبل وزير الخارجية الفرنسي السابق، لم تقبل بها «إسرائيل» ولا أميركا، والتي رأتا فيها أنها تخرج المفاوضات من المرجعية والرعاية الأميركية الحصرية، وأنها تحدد سقفاً زمنياً لإنهاء الاحتلال، رغم أنها حوت الكثير من القضايا الخطيرة القاتلة للمشروع الوطني الفلسطيني، ولكن تلك المبادرة أجهضتها أميركا وإسرائيل في حينه، والآن تعود فرنسا لطرح مبادرتها من جديد، من خلال عقد مؤتمر دولي ومجموعة داعمة لعقده من دول عربية وعالمية، وقالت فرنسا بأنها ستعترف في الدولة الفلسطينية مباشرة إذا ما فشل مثل هذا المؤتمر، ولكن لم يمضِ على طرحها هذا عدة أيام، بعد أن رفضت «إسرائيل» التعاطي معها واعتبرتها بأنها تشجع الفلسطينيين على الإرهاب المقاومة، حتى تراجع وزير خارجيتها قبل لقائه مدير عام وزارة الخارجية «الإسرائيلية» عن ذلك، ليقول بأن فرنسا لن تعترف بدولة فلسطين مباشرة إذا فشلت المفاوضات، وأن هذه المبادرة مهمة لكي لا ينفجر برميل البارود في الضفة الغربية، والمبادرة الفرنسية هذه سيجرى تجويفها وتفريغها من محتواها من قبل أميركا، وبما يخرجها من التداول، حيث المطلوب حالياً أن يكون هناك حركة مشاغلة سياسية كوقت مستقطع لحين الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل موعد الانتخابات الأميركية الجديدة، وبعد تشكيل الحكومة الأميركية من إدارة جديدة، سننتظر شهرين لكي تطرح علينا الإدارة الأميركية مبادرة جديدة تنسخ المبادرة الفرنسية، على أن تراعي المبادرة الجديدة ما يتحقق من وقائع جديدة فرضتها إسرائيل بالقوة، من سيطرة على الأغوار، تسمين وتوسيع المستوطنات القائمة، تحويل المستوطنات الصغيرة الى مستوطنات كبرى، وإقامة مستوطنات جديدة، وطبعاً الذين يعانون من عقدة الارتعاش السياسي الدائم في التعامل مع أميركا من العرب والفلسطينيين سيتلقفون هذه المبادرة، فلا يجب عليهم رفضها حتى لا يعطوا «إسرائيل» مبرراً للرفض، وإسرائيل كالعادة سترفضها، وبالتالي يصبح المطلوب من الأطراف العربية والفلسطينية، تقديم تنازلات جديدة، لكي لا تسقط الحكومة «الإسرائيلية» القائمة، إذا ما قبلت تلك المبادرة كما هي، ويستمر الجدل البيزنطي العقيم حول تلك المبادرة، مع استمرار «إسرائيل» في تنفيذ مشاريعها الاستيطانية والتهويدية على الأرض.

وطبعاً سيستمر هذا الى حين تشكل حكومة «إسرائيلية» جديدة، لكي تبدأ التفاوض مع السلطة الفلسطينية من خلال ما فرضته من وقائع على الأرض، حيث أن الاتفاقيات السابقة تجاوزها الواقع، تماماً كما يجري الآن من إعادة طرح التفاوض على اتفاق المعازل، اتفاق أوسلو، وفتحه من جديد، كما جرى فتح اتفاق الخليل، بحيث يجرى التفاوض حول المناطق المصنفة A الخاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الكاملة للسلطة الفلسطينية، فالحديث الآن يدور عن تسليم وإعادة سيطرة السلطة على اريحا ورام الله، وإذا ما اجتازت الامتحان من خلال حفظ الأمن، ومنع أي عمليات ضد «إسرائيل»، واعتقال المقاومين، سيجري عقد جلسة تقييم جديدة بحضور جنرال أميركي، لكي يصادق على شهادة حسن السلوك، وتسليم المزيد من المناطق الى السلطة الفلسطينية، من ضمن المناطق التي كانت تحت سيطرتها الكاملة، مناطق A ، وإذا لم يصادق الجنرال الأميركي يتم تمديد المدة وهكذا دواليك.

أي بؤس هذا الذي وصلنا اليه؟ في كل مرة «نجرب المجرب» ونقنع أنفسنا بأن «إسرائيل» في مأزق ونحن نحقق المزيد من الانتصارات، تلك الانتصارات الورقية، ندفع ثمنها المزيد من الاستيطان وتكرس المشروع الصهيوني، ولذلك علينا مغادرة نهج وعقدة الارتعاش السياسي الدائمة، والتقديم المستمر للتنازلات، التنازل تلو التنازل والقبول بمبادرات، ليس الهدف منها سوى استمرار إدارة الصراع لا حله، والحل فقط يكمن بوحدتنا وإنهاء الانقسام، ورسم استراتيجية فلسطينية موحدة تقوم على الصمود والمقاومة، لكي تغير في ميزان القوى وتعمل على تحويل المشروع الصهيوني الاحتلالي الى مشروع خاسر، حينها ستتحول تلك المبادرات الى مبادرات لحل الصراع لا إدارته.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى