الجريمة والتطرف… كيف تُستخدَم المخدّرات في تمويل الجهاد؟
في وقت زاد الحديث عن الرابط الخفيّ بين تجارة المخدّرات ومساهمتها في تمويل بعض الجماعات المسلّحة بشكل عام، والإرهابية منها بشكل خاص، يتناول التقرير الذي كتبه بول كان ونشره موقع «War on the Rocks» المتخصّص في تحليل السياسات الخارجية والأمنية تلك النقطة بالتفصيل، لا بل ويضيف بعداً جديداً للقضية، وهو تعاطي غالبية أعضاء الجماعات الإرهابية المواد المخدّرة والمهدّئات لزيادة قدرتهم على تنفيذ العمليات الأشدّ عنفاً بمنتهى الهدوء.
يبدأ الكاتب رحلة التقرير من حي «مولنبيك» الشهير في بروكسل، يستقر المغربي خالد زركاني الشهير بـ«بابا نويل»، إلا أن بابا نويل هنا لا يعطي الهدايا للأطفال كما نظنّ جميعاً، إذ يشترك زركاني في جرائم منظّمة. قبل أن يلقى القبض عليه، ربما ترى زركاني يومياً يقوم يقوم بتوزيع المال ويقوم بضمّ مجموعات جديدة من الشباب إلى منظمته. بخلاف العصابات ومجموعات الجريمة التقليدية، توجّه مجموعة زركاني أرباحها نحو تمويل المزيد من الرحلات للشباب من أوروبا للالتحاق بتنظيم «داعش» في العراق وسورية، في حين أن أحد أهمّ من جنّدهم زركاني كان عبد الحميد أباعود، منفّذ هجمات باريس.
الدوافع والأهداف
ربما لم تكن العلاقة الوثيقة بين عالم الجريمة والتطرّف ملحوظة من قبل، إلا أن ظهور تنظيم «داعش» على السطح كشف الكثير والكثير عن ذلك العالم الخفي، فبعد عمليات تهريب النفط والابتزاز والاتجار بالجنس، ظهرت مؤخراً بعض الجرائم الأخرى المرتبطة، كإنتاج المواد المخدّرة وبيعها. يرى التقرير أنه من المهم للغاية فهم العلاقة الوثيقة بين شبكات تجارة المخدّرات في أوروبا، وتنظيم «داعش»، كما يجب البحث عن الجذور التاريخية للأمر لفهم كيفية القضاء عليه.
لم يكن تحريم الإسلام تجارة المخدّرات وتداولها رادعاً كافياً بالنسبة إلى «داعش» وغيره من المجموعات الجهادية للتوقف عن الأمر، فقاموا بإعطاء الأسباب التي تسمح لهم بالتجارة المحرّمة، واعتبروها إحدى الوسائل في حربهم ضدّ أعدائهم، لا بل الأغرب من ذلك، يتعاطى الكثيرون من أعضاء التنظيمات الجهادية كميات من المواد المخدّرة لتسهيل تنفيذ عملياتهم المستهدفة، فمن المعتاد على سبيل المثال أن يتناول الانتحاري قبل تفجير نفسه بعض المواد المخدّرة مثل الهيرويين أو الميث أو الريتالين لتهدئة أنفسهم قبل التنفيذ وفق التقرير.
يرصد التقرير إحدى تلك الحالات في مالي، حيث يسيطر مقاتلون جهاديون على منطقة تنشط فيها تجارة الكوكايين وتصديره إلى السوق الأوروبية، فتستفيد تلك المجموعة مرتين، مرة من أخذ نسبة من أرباح تلك التجارة الغنية، ومرة من استخدام المخدّر ذاته أثناء تنفيذ العمليات.
يُرجع الكاتب أيضاً العلاقة بين الجهاديين وتعاطي المخدّرات إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير، فمنذ الحرب بين الأفغان والاتحاد السوفياتي، تعاطى كلٌّ من الجنود الأفغان والمجاهدين المقاتلين ضدّ السوفيات الحشيش قبل العمليات العسكرية وبعدها، كما يرى أن تلك المخدّرات كانت تعطيهم المزيد من الشجاعة والإحساس بأنه على صواب.
الغرض من تعاطي المخدّرات يمثّل فارقاً كبيراً بالنسبة إلى تنظيم «داعش» على سبيل المثال، فعلى رغم تعاطي المقاتلين لها بغرض تنفيذ العمليات، ينفّذ التنظيم عمليات إعدام بحق الشباب الذين يتعاطون تلك المواد لأجل المتعة في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم.
«داعش» وجهاد المخدّرات
وفق التقرير، فإن المنشّط المفضّل بالنسبة إلى مجاهدي «داعش» يدعى «الكبتاغون» والذي يعرف بِاسم الفينيثلين أيضاً. وكان يستخدم سابقاً لعلاج حالات فرط النشاط إلا أنه تم حظره في الكثير من الدول نظراً إلى آثاره الجانبية وبينها الانسحاب الشعوري وعدم القدرة على النوم، وهي الأعراض الجانبية التي يبحث عنها المقاتلون بشدّة. يقول أحد مصنّعي «الكبتاغون» في لبنان والذي يقوم بتصديره إلى سورية لتستخدمه الكثير من المجموعات المقاتلة أن من يتعاطون ذلك المخدّر يشعرون برغبة وعطش شديدين للقتل ويقومون بإطلاق النار تجاه أي شيء أمامهم، كما يمكنهم قتل أيّ شخص بلا شفقة أو شعور بالحزن أو حتى الاكتراث، كما ينسون عائلتهم من الأساس.
كان أحد أهمّ أماكن إنتاج «الكبتاغون» هو وادي البقاع، حتى قبل اندلاع الحرب الحالية، حيث يمتاز المخدّر بكونه رخيص الثمن وسهل الإنتاج، ما سهّل على التنظيم إنتاجه وتوزيعه مع غيره من المواد المخدرة الشبيهة وهو ما مكن التنظيم من كسب الكثير من المال، إضافة إلى استغناء مقاتليه عن الكثير من الأدوية العلاجية عند استخدامه.
يرجع استخدام مثل تلك المواد المخدرة أثناء القتال في المنطقة إلى مجموعات «القاعدة» في العراق، والتي قادها أبو مصعب الزرقاوي، حيث زعم كثيرون من العسكريين الأميركيين أنهم وجدوا الكثير من الأقراص المخدّرة متناثرة في مخابئ استخدمها المقاتلون بعدما قاموا باقتحامها. وكما الحال مع «القاعدة» في العراق، ضمّ تنظيم «داعش» إلى صفوفه بعض المجرمين والسجناء السابقين ممن لهم علاقة بتجارة المخدّرات.
خلافة «الكبتاغون»
بالنسبة إلى خبراء الطبّ النفسي، لا تختلف أسباب تعاطي المخدّرات أثناء الحروب كثيراً عن أسباب تناولها في السلم. فبين محاولة الشعور بالراحة النفسية أو التخلص من الضغوط أو حتى استخدامها للتخلص من الألم، ينحصر تعاطي المواد المخدّرة في تلك الأسباب في جميع الأوقات. وبالحديث عن حالة «داعش» بالتحديد، فالهدف من ذلك التعاطي زيادة قدرة الفرد على استخدام العنف وقبوله.
يرى الكاتب أن المناطق التي يسيطر عليها التنظيم تعطي مناخاً غنياً للغاية بتعاطي المخدّرات بالنسبة إلى أعضاء التنظيم، حيث قام التنظيم بإغلاق الكثير من المنظمات المدنية وغيرها والتي من شأنها محاولة القضاء على المخدّرات، ما ساعد في المزيد من الانتشار، خصوصاً مع تشجّع المقاتلين على التعاطي أسوة بزملائهم أملاً في إظهار المزيد من الشجاعة في القتال، حيث أعطت تلك المواد المخدّرة الفرصة لكثيرين من الأفراد لإثبات جدارتهم لقادتهم وسهّلت عليهم تنفيذ الكثير من العمليات بكثير من الراحة والهدوء.
في مناخ كهذا، لا يصبح مقاتلو التنظيم عرضة على الإطلاق لما يتعرض له كثيرون من المقاتلين في الجيوش النظامية من ردود فعل تجاه رؤية الكثير من الدماء والعنف والقتل، حيث يعاني كثيرون من أفراد الجيوش النظامية من اضطرابات ما بعد الصدمة وغيرها من الاختلالات النفسية التي قد يعالَجون منها طيلة عمرهم نتيجة لتعاملهم مع كمّ كبير من العنف بشكل مفاجئ. لذلك، يرى الكاتب أنه ليس من الغريب أن انتشار «داعش» جاء من خلال مقاطع قاموا بتسويقها لأنفسهم أثناء ذبح الصحافيين وموظفي الإغاثة من الأجانب، إضافة إلى واقعة إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً وغيرها من العمليات.
لم تتوقف عمليات «داعش» عند تلك النقطة، بل قاموا بقطع رؤوس أعضاء تابعين لـ«جبهة النصرة» التابعة لـ«القاعدة» أيضاً. أحد أمثلة العمليات الوحشية أيضاً كما يذكر الكاتب، كان اقتحام إحدى مدن الأيزيديين، والتي أقام خلالها أعضاء التنظيم ما يشبه الحفلة الكبرى، والتي قاموا فيها بتعاطي المواد المخدّرة، ثمّ اغتصاب النساء وقتل السكان المحليين، وفق ما شهدت به أيزيديات ناجيات أمام الأمم المتحدة في شأن ما قام به التنظيم بعد دخول المدينة والسيطرة عليها. يرصد الكاتب أيضاً استخدام التنظيم للمخدّرات في تجنيد الأطفال، حيث يسمح التنظيم للصغار بتعاطي تلك المواد لتحويلهم إلى مقاتلين أكثر شراسة.
في مقابلة أجرتها شبكة «CBS» الإخبارية مع مراهق عمره 15 سنة أُجبِر على القتال مع «داعش» بعد سقوط قريته في سورية في قبضة التنظيم، زعم أنه تم إعطاؤه بعض المواد المهدئة قبل بدء المعارك، وهو ما يتماشى مع زعم كثيرين من المقاتلين في التنظيم والذين وقعوا قيد الأسر، أن المقاتلين المراهقين في التنظيم يتم إعطاؤهم بعض المواد التي تسهّل عليهم خوض المعارك وعدم الخوف من الموت.
مواجهة هذا المنهج
على المدى القريب، لن يكون من السهل بالنسبة إلى الدول والجيوش التي تحارب التنظيم تغيير هذا الواقع الحالي، ويرى الكاتب أن أقصى ما يمكن القيام به حالياً أن يضع صناع القرار هذا الأمر في اعتباراتهم ودمجه ضمن استراتيجيات محاربة التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم «داعش». فأن يكون المقاتلون الذين يواجهون التنظيم على علم ودراية بما يقوم به عدوهم، وأن يدركوا تفسير إقدام ذلك العدو على أفعال وحشية غير مسبوقة سيسهل من مهمتهم بدرجة كبيرة وفق التقرير.
على سبيل المثال، يجب تخيّل أن المدة التي يستطيع المقاتلون تحت تخدير «الكبتاغون» على سبيل المثال مواصلة القتال وفرض الحصار أطول من غيرها، وهو ما حدث في هجمات مومباي الإرهابية عام 2008 على سبيل المثال، فقد ثبت تعاطي منظمي الهجوم لنوع واحد على الأقل من المخدّرات خلال العملية.
على الجانب الآخر، الجانب والتأثير الفسيولوجي لسحب تلك المواد المخدّرة أو تضييق الخناق على تداولها يجب أن يؤخذ في الاعتبار كون النتيجة قد تكون أكثر عنفاً، فقد كشفت أدلة الطب الشرعي على سبيل المثال في حادث وقع في روسيا عام 2004، قامت فيه مجموعة مسلحة بحصار عدد كبير من الضحايا في مدرسة في جنوب روسيا، وُجِد أن غالبية أعضاء المجموعة كانوا يعانون من أعراض انسحابية نتيجة توقف تعاطيهم الهيرويين، ما أدّى في النهاية إلى قيامهم بقتل 3000 شخص غالبيتهم من الأطفال. في وقت تستمر أعراض الانسحاب في بعض أنواع المخدّرات مثل الكوكايين والهيرويين لعدة أيام، تمتد تلك الفترة لتصل إلى شهور في حالة مواد أخرى كالميثامفيتامين، كما يتغير سلوك الأفراد خلال تلك الفترة إلى سلوك عنيف للغاية وغير متوقع.
وفق التقرير، فقد يكون هذا السلوك غير المتوقع عاملاً هاماً في الصراع مع تلك المجموعات، حيث يرى أنه سيكون من المستحيل على سبيل المثال التوصل إلى اتفاقات وحلول سياسية أو اتفاقات لوقف إطلاق النار مع مثل تلك المجموعات مع طبيعة هذا السلوك، وهو ما يثبته التاريخ، حيث أن تلك الحالة قد يصبح من الصعب التغلب عليها حتى من قِبل قادة تلك المجموعات في حال عدم توفير تلك المواد المخدّرة للمقاتلين.
لهذه الأسباب، يرى الكاتب أنه من الصعب للغاية فعل أي شيء تجاه هذا الأمر على المدى القريب، وأن المهم حالياً التركيز على دراسة هذا الأمر ودراسة سلوك أعضاء تلك التنظيمات مع أخذ هذه العوامل في الاعتبار كجزء أساسي من التخطيط العسكري لهزيمة التنظيمات الإرهابية. كما أن معرفة طريقة تحضير تلك المواد والمكوّنات الداخلة في تركيبها قد يساهم في منع دخول تلك المكوّنات إلى مناطق التنظيم وبالتالي إرباكه بصورة كبيرة، كما يجب أن تكون مناطق تصنيعها وتحضيرها هدفاً أساسياً للضربات الجوية إضافة إلى الأماكن التي يقوم فيها التنظيم بتخزين تلك المواد.
يرى التقرير أيضاً أن برامج التأهيل والمساعدة على التخلص من الإدمان يجب أن تكون جزءاً أساسياً مما يتم اتخاذه في المناطق التي يتم استعادتها من تنظيم «داعش»، أملاً في مساعدة بعض المقاتلين ممّن أجبروا على القتال تحت تأثير تلك المواد وبالتالي إعادة إدماجهم في المجتمع من جديد، كما يرى أن عمل المنظمات التي تعمل في هذا المجال أمر أساسي.