مختصر مفيد
مختصر مفيد
الحرب على غزّة صارت الحدث الإقليمي والدولي الأوّل، وبعد دخول اليوم العشرين من الحرب صار ممكناً القول إنّ التوقعات السياسية «الإسرائيلية»، أو ما تسميه الجيوش تقدير الموقف الاستراتيجي جاء مخالفاً للواقع، خصوصاً باتجاه مسألتين: الأولى هي القدرة على ربط الحرب «الإسرائيلية» على غزّة بالحرب على «داعش» وما تعنيه من الحرب على الإرهاب، وجاء الفشل الأبرز هنا في ردّ الفعل الذي اجتاح الشارع العالمي تضامناً مع غزّة، وإصراراً على تصنيف الحرب عليها كحرب عدوانية على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، كما جاء الردّ أيضاً بالفشل «الإسرائيلي» في استدراج مصر إلى أبعد من التقدّم بمبادرة تهدئة، بينما الرهان «الإسرائيلي» مؤسس على فرصة ذهبية لتحويل الحرب على غزّة إلى حرب مشتركة، عنوانها «الإسرائيلي» التخلص من المقاومة وعنوانها المصري التخلص من قاعدة مسلحة للأخوان المسلمين على الحدود. أما المسألة الثانية فهي العجز عن فهم ماهية العلاقة بين حماس وحلف المقاومة، وهي علاقة مأزومة على المستوى السياسي، في ضوء تداعيات اصطفاف حماس في الحرب على سورية، وتغليبها هويتها الأخوانية في اختيار خندقها على حساب هويتها المقاومة، لكن هذا لم يؤثّر على احتضان حلف المقاومة بقدراته وخبراته لكتائب عز الدين القسّام الجناح المقاوم لحماس، وسائر القوى المقاومة، كما أوضح مخزون المقاومة الصاروخي، الذين كان الحساب «الإسرائيلي» لنفاده أحد عناصر اندفاعها في الحرب، والخلاف لم يؤثر أيضاً على تمسّك حلف المقاومة بفلسطين بوصلة وقضية مركزية كما أوضحت الكلمات الهامة التي وردت في خطاب القَسَم الذي أدلى به الرئيس السوري الذي يمثل الجهة الأكثر تألماً وتضرّراً في الحلف من تموضع حماس، بينما الحساب «الإسرائيلي» كان أن حرباً على حماس ستشهد تحييد سورية على الأقل من حساب فلسطين.
بالتزامن والتناسب مع الخلل في تقدير الموقف الاستراتيجي، اتضح ان «إسرائيل» بجيشها وعدّتها وعتادها تكرّر حرب 2012، بينما المقاومة تخوض حربها الجديدة، فعلى المستوى التكتيكي لم يظهر أن لدى «الإسرائيلي» ما يتعدّى الخطط التقليدية التي اعتمدها، وربما برتابة أكثر من السابق، سواء بالرهان على القصف التدميري جواً وبراً وبحراً، والضغط بأرواح المدنيين، أو بالاستناد إلى ألوية النخبة لتنفيذ هجمات برية للتقرّب من مناطق الثقل السكاني في غزّة، بينما القبة الحديدية التي مضى على تباهي «إسرائيل» بفعاليتها ثمان سنوات من الإنفاق والإعداد، لتظهر كمهزلة تثير السخرية في هذه الحرب، لا تتخطى قدراتها على الحماية نسبة 20 في المئة في أحسن الأحوال، وهذه نسبة لا تبنى عليها خطط الحرب. والمضحك أن هذه القبة أعدّت أميركيا وأجريت لها المناورات المشتركة مع «إسرائيل» لتكون بمستوى حرب مع إيران، إذ يتوقع حينها أن تكون كمية الصواريخ المتساقطة على كيان الاحتلال ومنشآته من كل الجبهات قرابة الخمسة آلاف صاروخ يومياً، مقارنة بمئة يومياً من غزّة وحدها، وألف صاروخ لو كانت الحرب مع المقاومة اللبنانية، وثلاثة آلاف لو كانت الحرب مع سورية والمقاومة. أما على المستوى التكتيكي فظهر ما أعدّته المقاومة من حرب الأنفاق التي أسماها «الإسرائيليون» بالقبة الفولاذية تحت الأرض، وما رافق إتقان استخدام الأنفاق لإخفاء منصات الصواريخ وإطلاقها، أو بمفاجأة جيش الاحتلال ونخبه المقاتلة، والنجاحات الباهرة التي سجّلها المقاومون، والتي تنمّ عن مخيلة وإبداع وشجاعة وبسالة وجدية وحسن استثمار لعامل الزمن مقابل الرتابة والترهل والتقليد والبلادة، لتصير الحصيلة عدم التكافؤ في الأهلية للحرب بين جيشين لا تتناسب طاقتهما النارية إلا عكساً مع كفاءاتهما التكتيكية والقتالية.
البعد الثالث الجديد الذي كشفته الحرب، يتمثل بسوء التقدير لما يسميه «الإسرائيليون» دائماً استراتيجية الخروج من الحرب. والمقصود هنا العبرة الرئيسية التي سجلتها التقارير والتحقيقات التي أعقبت الفشل في حرب تموز عام 2006، أي وضع الخطط لا الأوهام لكيفية وقف الحرب بلا خسائر جسيمة ما لم تصحّ التوقعات. وفي حال ظهور مفاجآت استراتيجية أوتكتيكية أو الاثنتين، وعلى هذا الصعيد بات واضحاً أن استراتيجية الخروج «الإسرائيلية» بنيت كلها على ما يستطيعه الأميركي عبر المسار التركي القطري، بمنحه جزءاً من الدور في إنهاء الحرب وتعويمه سياسياً، مقابل مقدرته على الضغط عبر علاقاته الخاصة بالتنظيم العالمي للأخوان المسلمين ومشروعهم، واستطراداً بالقيادة السياسية لحركة حماس، التي لا تنفك تبدي اهتمامها بهذا التعويم، لتكرار ما فعلته عام 2012 من تثمير لنصر المقاومين بقبول اتفاق هزيل لحساب منح الحلف الأخواني مكانة في اللعبة الإقليمية. لكن كما يظهر الآن من تعقيد مهمة الأميركي، أن الرهان مبالغ فيه ومجافٍ للواقع الذي انتجته المتغيرات السورية والمصرية، خصوصاً ما ترتب على هزيمة مشروع الأخوان من جهة، وانعكاس ذلك على إصرار قيادة المقاومة في الداخل بما فيها القسام، من جهة أخرى، على رفض كل محاولة لتجيير التضحيات والانتصارات لأيّ فريق إقليمي إلا بقياس إسهامه بتحقيق شروط المقاومة، وفي مقدّمها فكّ الحصار بصورة شاملة ومتزامنة مع وقف النار. ومن زاوية ثانية ما ترتب على رفض حركة حماس ومعها القسام وسائر فصائل المقاومة للمبادرة المصرية من تضحيات جسام، وما يفرضه ذلك من استحالة القبول بما يشبه تلك المبادرة بعد هذا الحجم من التضحيات المضافة، التي تستدعي تبريراً بحجمها في أيّ وقف للنار، بمكاسب تعادلها تضاف لوقف النار، الذي سقط كمطلب بذاته وصارت التضحيات مربوطة مباشرة بفك الحصار، لتصير استراتيجية الخروج «الإسرائيلية» مصابة بالخلل المنهجي، ويصير ثمن وقف النار مكلفاً عليها، وربما فوق طاقة أيّ حكومة «إسرائيلية»، فتذهب الحرب إلى حيث لا يملك «الإسرائيليون» خطة، وربما إلى حيث التورّط فيها قابل للتوسع إقليمياً من حيث تحتسب «إسرائيل» ومن حيث لا تحتسب.