الدهاء الروسي والحكمة السورية

هشام الهبيشان

تزامناً مع ما يجري في «جنيف» السوري والمخصّص بمجمله للشأن السوري، أتت الأخبار الواردة من موسكو والتي تتحدث عن انسحاب القوات الروسية «الجزئي والمرحلي والمشروط « من سورية، لتؤكد انطلاق مرحلة سياسية جديدة في سورية، مرحلة مركبة الأهداف والأبعاد والخلفيات السياسية والعسكرية المتزامنة، وما يؤكد كلّ ذلك هو مجموعة الاتصالات للرئيس فلاديمير بوتين مع القيادة السورية للتنسيق بملف الانسحاب الروسي، والتي تؤكد بمجموعها أو على الأقلّ توحي بأنّ هناك مساراً سياسياً جديداً يستهدف تحريك المياه الراكدة بمجمل ملف الحلول السياسية للحرب على سورية.

أوحى الانسحاب الروسي للبعض بتخلي الروس عن حليفهم السوري، وهي في حقيقة الأمر فرضية خاطئة جداً، فالروسي يدرك، كما السوري، أهمية هذه الخطوة الروسية الملحة اليوم، فهي ستساهم بشكل أو بآخر في الضغط على المحور الآخر لإطلاق مسار جديد للحلول السياسية للحرب على سورية والخاصة بالوصول إلى حلّ سياسي للحرب المفروضة على الدولة السورية «تستثني بشكل أو بآخر القوى المتطرفة في سورية وتحدّ من دور بعض قوى الإقليم وتأثيرها بالملف السوري وتتعامل مع حقائق الأمر الواقع وتقدم الجيش السوري على الأرض»، وهي بشكل أو بآخر ستساهم في الضغط على المحور الأميركي ـ الفرنسي ـ السعودي ـ التركي ـ القطري، لتؤكد لهذه الدول وغيرها من حلف العدوان على الدولة السورية والتي ما زالت تراهن على التصعيد العسكري في سورية أنّ رهانها هذا لم يعد مقبولاً، وأنّ عليها رفع الغطاء السياسي والعسكري عن المجاميع المسلحة الإرهابية في سورية، تمهيداً للدخول في إطار سياسي جديد هدفه الرئيسي تسريع ملف الحلّ السياسي للحرب على سورية.

واليوم عند الحديث عن مستقبل وطبيعة العلاقة بين الدولة الروسية والدولة السورية في الأيام المقبلة، نستطيع أن نؤكد، بحكم بعض الحقائق العملية على الأرض السورية، وبحكم الدهاء السياسي السوري ـ الروسي والتجارب المتلاحقة، أنّ القرار الروسي ليس خاضعاً لأي اعتبارات هدفها فكّ حلفه مع الدولة السورية بل هو قرار يؤكد حجم التنسيق السوري ـ الروسي وعلى أعلى المستويات، فالروس لن يساوموا على سورية بالمطلق، مع العلم أنّ للسعوديين والأميركيين تجارب كثيرة في مسار المساومات مع الروس بخصوص التنازل عن حلفهم مع الدولة السورية، وهناك أوراق مساومات طرحها جون كيري وجو بايدن وماكين وبندر بن سلطان ومحمد بن نايف وسعود الفيصل ومحمد بن سلمان للتفاوض مع الروس بمراحل زمنية مختلفة، لكنّ صمود الدولة السورية وثبات موقف القوى والنخب الرسمية والشعبية والسياسية داخل روسيا، هو من أجهض في الكثير من المراحل أوراق المساومات الأميركية ـ السعودية التي كانت تُقدّم للروس.

من جهة أخرى، برز واضحاً في الفترة الأخيرة مدى التقارب بالمواقف السياسية والأمنية، بين النظام الرسمي الروسي والنظام العربي السوري، وذلك ظهر جلياً من خلال تبادل الزيارات الرسمية السورية الروسية «السياسية والعسكرية «، فهذه الزيارات وتقارب الآراء وثبات الموقف الروسي بخصوص موقفهم من الحرب على الدولة السورية، دحضت جميع الإشاعات التي كانت تطلقها بعض الصحف الصفراء، ووسائل الإعلام، بخصوص تغيير الموقف الرسمي الروسي تجاة الحرب المفروضة على الدولة السورية.

وتزامن ثبات موقف الروس، سياسياً وعسكرياً، من الحرب على سورية، مع اشتداد موجة الضغوطات الأميركية ـ السعودية على موسكو بخصوص ملف سورية وما صاحب كلّ ذلك من موجة عقوبات اقتصادية على الروس، خصوصاً مع ظهور طبيعة جديدة لهذه الضغوطات الاقتصادية تمثلت «بحرب النفط والانخفاض المتلاحق في الأسعار، ورغم ذلك لا يزال الروس ثابتين على موقفهم الداعم للدولة السورية، رغم قرار الانسحاب «الجزئي والمرحلي والمشروط».

يدرك الروس، بدورهم، حجم خطورة تركهم سورية وحيدة في مواجهة حلف عدواني أممي، لذلك لن يتركوا سورية من باب دفاع موسكو عن نفسها من دمشق، فالروس يدركون أنّ النظام الأميركي الرسمي وحلفاءه في المنطقة والغرب يستعملون سلاح النفط ومناطق النفوذ والتهديد الأمني كورقة ضغط على النظام الرسمي الروسي، للوصول معه إلى تفاهمات حول مجموعة من القضايا والملفات الدولية العالقة بين الطرفين ومراكز النفوذ والقوة والثروات الطبيعية وتقسيماتها العالمية ومخطط تشكيل العالم الجديد وكيفية تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الكبرى على الصعيد الدولي، وعلى رأس هذه الملفات الملف السوري، من هنا يدرك الروس وحلفاؤهم أنّ أميركا وحلفاءها في الغرب يحاولون بكلّ الوسائل جلب النظام الرسمي الروسي وحلفائه إلى طاولة التسويات المذلة، ليتنازل الروس وحلفاؤهم عن مجموعة من الملفات الدولية لمصلحة بعض القوى العالمية وقوى الإقليم.

ولكن ومع كلّ هذه الضغوط الأميركية ـ السعودية على الدولة الروسية بخصوص موقفها من الحرب المفروضة على الدولة السورية، لاحظ جميع المتابعين كيف أنّ موسكو كانت في الفترة الأخيرة، مسرحاً لمجموعة لقاءات، ومنطلقاً لطرح مجموعة رؤى لحلّ ملف الحرب على الدولة السورية، فالانسحاب الروس الجزئي والمرحلي والمشروط من سورية ليس تخلياً عنها بل هو دليل على أنّ روسيا تسعى وبشكل ممنهج إلى الحفاظ على وحدة سورية وتعزيز مسار التوافق الداخلي بين مكوناتها، وهذا ما يدحض مرحلياً فكرة قبول الروس بالطرح الأميركي لتقسيم سورية.

وبالعودة إلى الشقّ العسكري في الداخل السوري، حيث يعتقد البعض أنّ الانسحاب الروسي الجزئي والمرحلي والمشروط سيؤثر عليه من جهة استمرار إنجازات الجيش العربي السوري على الأرض، أن فالقرار بالانسحاب جاء في وقته الصحيح بعد أن حقق الحليفان الروسي والسوري معظم أهداف العملية العسكرية المشتركة، مع العلم أنّ الروس مستمرون بدعمهم كما هو للجيش العربي السوري في معارك محاربة الإرهاب، خصوصاً معارك تدمر والقريتين في ريف حمص الجنوبي الشرقي والشرقي.

فاليوم تمّت عملية إحكام الطوق على بعض أحياء مدينة حلب الشرقية، وقطع خطوط الإمداد بين هذه الأحياء وأرياف المحافظة، وتمّ تحرير أجزاء واسعة من الأرياف الحلبية، خصوصاً بلدات الريف الشمالي الهامة والاستراتيجية على الحدود التركية، وتحرير ريف اللاذقية الشمالي والشمالي الشرقي ووضع ريفي حماه الشمالي والشمالي الغربي ومعظم محافظة إدلب بين فكي كماشة، وتمّت بشكل أو بآخر السيطرة على الأقلّ نارياً على الكثير من مساحات ريف حمص الشمالي، وضبط إيقاع معارك ريف دمشق الشرقي والغربي، وهو ما مهّد لإيجاد واقع عسكري مريح للجيش العربي السوري في المنطقة الجنوبية وبدء معارك القضم التدريجي لمساحات مختلفة من محافظة درعا وربطها مع استنزاف عسكري للمجاميع المسلحة بريف القنيطرة، ما سيفتح الطريق أمام عمليات كبرى روسية ـ سورية في شرق وشمال شرق سورية في المستقبل القريب جداً في محافظتي الرقة ودير الزور.

إنّ الحديث السائد عن حلول سياسية للحرب على سورية من دون وجود وقائع ميدانية تسبق هذا الحديث، هو حديث بعيد عن الواقعية، فلا يمكن أبداً الحديث عن حلول سياسية من دون إيجاد واقع ميداني جديد على الأرض يجبر قوى العدوان على الرضوخ للحلول السياسية، لهذا كنا نرى هذا العمل الروسي ـ السوري على الأرض السورية لفرض هذا الواقع الجديد تمهيداً لإيجاد حلول سياسية عادلة للحرب على سورية، وبالفعل تمّ إيجاد هذا الواقع الميداني.

ختاماً، يمكن القول إنّ القرار الروسي يعكس حجم الدهاء الروسي سياسياً وعسكرياً، ويؤكد أنّ جميع أوراق المساومات التي طرحها الأميركيون والسعوديون، للضغط على الروس ودفعهم إلى التخلي عن حلفهم مع الدولة السورية قد باءت بالفشل، وهو بشقّ آخر يؤكد أنّ الدعم الروسي المتزامن مع استمرار انتفاضة الجيش العربي السوري الأخيرة في وجه كلّ البؤر المسلحة في سورية، شكل حالة واسعة من الإحباط والتذمّر عند الشركاء في هذه الحرب المفروضة على الدولة السورية، ما سيخلط أوراقهم وحساباتهم لحجم المعركة من جديد، والواضح اليوم أنّ القرار الروسي الذي يتسم بالحكمة السورية والدهاء الروسي سيدفع بعض القوى الشريكة في الحرب على سورية للاستدارة والتحوّل في مواقفها والقيام بمراجعة شاملة لرؤيتها المستقبلية لهذه الحرب، ومن هنا سننتظر الأسابيع الثلاثة المقبلة لتعطينا إجابات واضحة عن تغيُّرات وتطورات سياسية كبرى قد تشهدها الساحة الدولية والإقليمية بخصوص الحرب المفروضة على الدولة السورية.

كاتب وناشط سياسي ـ الأردن.

hesham.habeshan yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى