قدرة التعطيل السعودية تتلاشى لأن التسويات قدر لا يردّ

روزانا رمّال

يختلط قياس عناصر القوة التي تمتلكها الدول والقوى اللاعبة على المسرح السياسي الدولي والإقليمي، بين القدرة على صناعة الحلول والقدرة على تعطيلها، ويكفي أن بمستطاع مَن يقدر على التعطيل أن يعطل ليبدو بالقوة ذاتها التي يملكها القادرون على صناعة هذه الحلول.

لا يزال الكثير من المتابعين انطلاقاً من هذا المفهوم، يعتبر السعودية قوة إقليمية حاسمة رغم التسليم بانتقالها من ضفة الدولة القادرة على صناعة الحلول إلى الدولة التي لا تملك إلا قدرة التعطيل، ويقدّمون أمثلة سوريا واليمن ولبنان أدلة على هذه المكانة، حيث تنطلق محادثات خاصة بسوريا، لكنها لا تتقدّم، وحيث يستعدّ اليمن لجولة مشابهة، وربما يتمنّى اللبنانيون أن يتطوّر حوار حزب الله وتيار المستقبل إلى هذه المرتّبة، لكن وفي هذه المسارات كلها تبدو السعودية قادرة على تعطيل بلوغ التسويات.

يتيح التدقيق بمسار التعطيل السعودي للتسويات استخلاص عناصر محيطة به تفرض حضورها بالتدريج، أهمها أن الوقوف في صف صناعة الحلول يعبر عن هوامش واسعة للحركة والخيارات تتيح لصاحبها التأقلم مع صيغ تسويات تحفظ له مكانة اللاعب الحاسم، بينما الواقف على ضفة التعطيل، فهو مَن بلغ مرحلة صارت فيها أي تسوية تعادل هزيمته، فيصير عامل التعطيل منعاً للهزيمة وتصير التسوية التي تناسبه يحتاج فرضها إلى مصادر قوة لا يمتلكها، فالتسوية الوحيدة التي تحتملها السعودية في سوريا هي التي تنتهي بتنحّي أو إطاحة الرئيس السوري وكل ما دونها هزيمة للسعودية، ومثل هذه التسوية تستدعي قدرات وإمكانات فوق طاقة السعودية وحلفائها بعدما استنهضت الحرب على سوريا حلفاء لم يكن بحساب السعودية وحلفائها أن يذهبوا إلى المدى الذي بلغوه، وهذا يطال التوقّعات السعودية والأميركية السابقة للمواقف الروسية خصوصاً، حيث التدخّل الروسي العسكري ما كان في حساب أحد، وأن حجم الدور الذي لعبه حزب الله وإيران في تدعيم سوريا عسكرياً واقتصادياً فاق التقديرات، وبالمقابل استنهضت الحرب خطراً ما كان بالحسبان أن يبلغ هذا المدى، وكان التقدير بضمانة سعودية أن يبقى تحت السيطرة وهو الجماعات المسلحة التي تتبع تنظيم القاعدة والفكر الوهابي والتي تموضعت في سوريا وفقاً لقول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن بتقدير بقائها تحت السيطرة وقدرتها على إسقاط الرئيس السوري، فخرجت عن السيطرة وبقي الرئيس السوري، وصولاً لقول الرئيس الأميركي أنه فخور بالتراجع عن التدخل العسكري في سوريا رغم حنق حلفائه وخلافاً لنصائحهم التي وصفها بالغبية والحمقاء.

كما في سوريا، كذلك في اليمن تريد السعودية حكماً تابعاً، وتريده حديقة خلفية، وكانت تراهن أن تحسم حربها في أيام أو أسابيع أو بضعة قليلة من الأشهر قبيل حلول أجل توقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني، وها هي تمضي نهاية السنة الأولى ولم تتحقق الأهداف ولم تُنجز المهمة .

وفي لبنان تريد السعودية رأس حزب الله، بعدما فشلت في إرباكه بتسوية رئاسية صنعتها لتفخيخ جبهته المسيحية تمثلت بترشيح حليفه النائب سليمان فرنجية، وأظهر الحزب مقدرة على الاستيعاب والاحتواء وعلى إعادة ترتيب وضع حلفائه وتخطّي الإرباك الذي سبّبته المبادرة السعودية، منتهياً بانضباط المرشح فرنجية كحليف لا يشارك في جلسات، يقول الرئيس سعد الحريري الناطق بلسان السعودية إنها جلسات مخصصة لانتخاب فرنجية رئيساً، ويقول فرنجية رداً على الحملة السعودية بتصنيف حزب الله إرهابياً، إنه مقاومة تشرّف رأس العرب وعار أن يتهم بالإرهاب من بيت أهله العرب.

تحصد السعودية الفشل تلو الفشل وتمسك بسلاح التعطيل، وهي محكومة بعامل العجز عن مواصلة الحروب، بعدما عجزت عن الفوز بها، فصارت مستعدة للترجّل عن حصان رفض التفاوض وتعلن قبوله في سوريا وفي اليمن، لكنها محكومة بعامل أخطر وهو أن تفاهماً روسياً أميركياً يحكم مسار التسويات والتفاوض ويرسم له مسارات وجداول أعمال، وروزنامة الإنجاز، ومثلما اضطرت السعودية لقبول التفاوض ووقف الحروب، يقدّم المثال السوري على التنازلات التي تجد نفسها في قلبها لا تملك قدرة الرفض، مثلما حدث في فيينا، حيث حسم أمر ترك الرئاسة السورية للسوريين، ومن ثم في ميونيخ حيث حسم أمر تصنيف حليفها ورهانها الأول في سوريا الذي تمثله جبهة النصرة على لائحة الإرهاب، وتالياً تطل الخطوة الثالثة من التفاهم الروسي الأميركي بتوسيع تمثيل المعارضة وضم الأكراد إلى وفدها، وبالتالي كسر حلقة سعودية جديدة من ممانعة الحلول هي حصرية التفاوض عن المعارضة بجماعة الرياض.

تتمّ عملية الترويض التدريجية للعناد السعودي، وفقاً لثنائية روسية أميركية تطال ثنائية عنوانها أولوية الحرب على الإرهاب من جهة، وتراجع كل الأولويات الأخرى أمامه، ومن جهة أخرى وضع نهاية العام كموعد لإنجاز التسويات بخطوطها العريضة في ساحات الاشتباك من سوريا إلى اليمن وصولاً إلى لبنان، حيث على اللبنانيين الواثقين من أن مكانة السعودية ثابتة لا تتزحزح أن يدققوا المشهد الرئاسي اللبناني الافتراضي بتخيّل مناقشة الحال اللبنانية وحزب الله يرفع شارة النصر بتثبيت درع بقاء الرئيس الأسد في سوريا ومشاركة أنصار الله في حكومة وحدة في اليمن، والتساؤل ماذا سيكون الحال رئاسياً وحزب الله يعتمد الصبر في الردّ على استفزازات السعودية والردع في التعامل مع الاستفزازات «الإسرائيلية» والحسم بوجه الاستفزازات والتهديدات الإرهابية .

قدرة على التعطيل محكومة بالزمن والمرحلية ورؤية نهاية الطريق ليست أبداً كالقدرة على صناعة الحلول.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى