سيرة موجزة لسعاده ولمسيرة الحزب ٢/٢
إعداد: لبيب ناصيف
كثيراً ما نطلّع على سِيَر متنوعة عن سعاده، بعضها متناقضة بالمعلومات،
وهذه نراها مطبوعة وموزعة، أو منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي.
في فترات سابقة نشرت ما كنت أعددته عن المراحل التالية:
سعاده من الطفولة حتى قبيل التأسيس
سعاده من التأسيس حتى مغادرة الوطن عام 1938
الحزب في الوطن بغياب سعاده
سعاده في المغترب القسري 1938 1947.
في وقت لاحق سأنشر عن مرحلة «الحزب في الوطن في مرحلة غياب سعاده 1938 1947»
هنا الجزء الثاني من «السيرة الموجزة لسعاده ولمسيرة الحزب» أعممها آملاً من كل رفيق معني يملك ملاحظات، أو إضافات، أن يكتب إلى لجنة تاريخ الحزب .
مهرجانات العز
في غمرة صراعه مع الانتداب الفرنسي والسلطات اللبنانية، راح سعاده يعبئ حزبه ومناصريه عبر مهرجانات وزيارات إلى المناطق الحزبية. وكذلك عبر تنظيمه للفروع والاهتمام بالتثقيف القومي الاجتماعي.
ثلاث مهرجانات اعتبرت من أيام الحزب، وهي التالية:
«شارون» عندما قام سعاده بزيارتها بعد خروجه من سجنه الثاني على اعتبار أن شارون هي بلدة الرفيق الشهيد
حسين البنا. وقد سار الآلاف من القوميين الاجتماعيين وأصدقائهم من صوفر إلى شارون إذ لم تكن الطريق قد شقت بعد.
«عماطور» وقد زارها سعاده بعد زيارة قام بها إلى بعقلين، تلبية لدعوة مديريات الشوف الأعلى. وشكل مهرجان عماطور تحدياً للسلطة التي حاولت إفشاله. نشير أن الحزب حقق في عماطور مصالحة عائلتيها عبد الصمد وأبو شقرا، اللتين كانتا على نزاع مستمر، بفضل انتماء رفقاء من كليهما.
«بكفيا»، وفيها حاولت الدولة استرداد هيبتها التي فقدتها في مهرجان عماطور فحصل صدام مع قوى الأمن أسفر عن سقوط جرحى من الطرفين، وقد أبلى الرفقاء شجاعة نادرة المثيل، وكان البعض منهم يحطم بنادق الدرك على ركبتيه، كأنه يحطم عيدان كبريت.
بعد يوم بكفيا، شنّ سعاده في بيان الأول من آذار 1937 هجوماً عنيفاً على الدولة واعتبرها حكومة عاصية يجب إسقاطها.
الاعتقال الثالث
في التاسع من آذار اعتقل سعاده على حاجز للدرك في بلدة المريجات فيما كان متوجّهاً إلى دمشق.
بعد أن أمضى سعاده نيّف وشهرين في السجن خرج منه بعدما تأكد للدولة أن الاعتقالات التي تعرّض لها زادت حزبه قوة ومناعة وانتشاراً. سبب آخر أنها كانت تطمح لأن تحصل على أصوات القوميين الاجتماعيين في الانتخابات النيابية التي كان قد اقترب موعدها.
بدوره كان سعاده يحتاج إلى فترة من الراحة كي يعمد إلى تنظيم حزبه، إصدار جريدة تنطق باسمه، الحصول على جواز سفر بعد أن كان بحث في المجلسين الأعلى والعمد في وجوب قيامه بجولة حزبية إلى المغتربات.
في أسره الثالث كتب سعاده قصة «دمية» إلا أنها فقدت.
بعد خروجه من الاعتقال تمكن سعاده أن يحقق الكثير مما كان يهدف إليه، منها زياراته إلى المناطق الحزبية، إصدار جريدة «النهضة»، تصنيف مواد الدستور، منح رتبة الأمانة إلى عدد من الرفقاء وانتخاب مجلس أعلى، طباعة كل من نشوء الأمم، كتيب التعاليم، والدستور، إنشاء الندوة الثقافية، تأسيس المكتب المركزي للأمن باسم المكتب الأعلى المختص والبدء بتدريب القوميين الاجتماعيين وإعدادهم لمهمات عسكرية.
الا أن الدولة والسلطات الفرنسية المنتدبة، كانتا تنظران إلى استعدادات الحزب، ونموه، كما مواقفه القومية إزاء فلسطين والإسكندرون، بعين الريبة، فأعدتا خطة للقضاء على الحزب وزعيمه، إلا أن سعاده تمكن من مغادرة بيروت في حزيران 1938 إلى قبرص مروراً بدمشق، عمان وحيفا. وبعد أن أمضى ما يزيد على الشهر في قبرص كان فيها على تواصل مع المجلس الأعلى والمكتب الأعلى المختص وغيرهما، غادر الجزيرة السورية في 28 تموز إلى إيطاليا فألمانيا، تلبية لدعوة فرعي الحزب في كل من روما وبرلين، ثم توجه إلى البرازيل ليصلها في أواخر العام 1938. ما أن غادر سعاده بيروت حتى كانت السلطات الأمنية تداهم مركز الحزب وتشن حملة اعتقالات في بيروت والمناطق اللبنانية.
البرازيل
في البرازيل استقبلت الجالية سعاده بحفاوة. فهي على معرفة به عندما غادر إليها في العشرينات. وكانت تتابع عبر الصحف الصادرة في الوطن، وفي الاغتراب، أخباره، منذ أن وقف وقفته الجريئة في المحكمة، كما الاعتقالات التي تعرض لها. فأصبحت في شوق لأن تلتقيه وتستمع إليه يشرح مبادئ حزبه.
انضم الرفيق أسد الأشقر وكان يتولى مسؤولية منفذ عام الشاطئ الذهبي غانا اليوم والأمين خالد أديب إلى سعاده فعيّنهما ناموسين له، أول، وثانٍ، وراحا يساهمان معه بشرح تعاليم الحزب للمقبلين إليه من أبناء الجالية. فأخذ العشرات منهم ينتمون، في سان باولو وخارجها، وبالتالي بدأ الحزب ينتشر وتتأسس له فروع.
انتشار الحزب، وإصدار سعاده لجريدة «سورية الجديدة» في سان باولو أثار بعض المتفرنسين من أبناء الجالية فوشوا به على أنه عميل نازي، فأوقف وأودع السجن مع معاونيه الرفيق أسد والأمين خالد. إلا أن التحقيقات التي أجريت أثبتت براءة سعاده من التهمة الملفقة، فأفرج عنه ليغادر وناموساه إلى الأرجنتين في أواسط أيار 1939.
في الأرجنتين
وصل سعاده إلى بيونس ايرس فلم يكن أحداً في استقباله. إلا أن الجالية سرعان ما راحت تتعرف إلى حضوره، وبدأ اسمه ينتشر في أوساطها، والمواطنون السوريون يفدون للسلام عليه والتعرف إليه، وإلى التعاليم التي يحمل.
شيئاً فشيئاً راح رفقاء ينتمون، وبدورهم راحوا ينقلون الفكرة إلى مواطنين لهم، فلم يمض أشهر على وصول سعاده إلى الأرجنتين، حتى كان للحزب أعضاء في بيونس ايرس وفي ولايات أخرى.
وكما أسس سعاده في البرازيل جريدة «سورية الجديدة» بادر في الأرجنتين، عندما أسس للحزب حضوره في العاصمة وخارجها، إلى إصدار جريدة باسم «الزوبعة» وفيها نشر سلسلة من مقالاته الهامة جمعت وصدرت لاحقاً في كتابين:
جنون الخلود، الإسلام في رسالتيه.
الصراع الفكري في الأدب السوري.
الحزب في الوطن
في أول أيلول 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية، فكان أول ما قامت به القوات الفرنسية المنتدبة أن راحت تعتقل القوميين الاجتماعيين، حتى إذا اجتاحت الجيوش الألمانية فرنسا وتولّت حكومة موالية لألمانيا الحكم في فرنسا عرفت بحكومة فيشي إذ اتخذت من مدينة فيشي في الجنوب الفرنسي مقراً لها راحت القوات الفرنسية في لبنان، التي التحقت بحكومة فيشي، تعتقل القوميين مجدداً مسقطة بذلك التهم التي كان جاهلو حقيقة الحزب يرمونه بها على أنه عميل نازي- فاشيستي.
بقي القوميون الاجتماعيون معظم سنوات الحرب يتعرضون للسجون والكثير منهم كانوا يساقون إلى معتقل أقيم في «المية ومية» شرقي مدينة صيدا.
في آب 1940 أصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية حكمها بسجن سعاده وعدد من المسؤولين والرفقاء مدداً متفاوتة. كان نصيب سعاده منها عشرين سنة سجناً وعشرين أخرى نفياً.
لذلك، والحرب مندلعة، بات سعاده في الأرجنتين بحكم الاغتراب القسري، غير قادر على العودة إلى وطنه.
شارك الحزب في معارك الاستقلال في لبنان والشام وكان لأعضائه دور بارز في التحركات التي حصلت، في بشامون كان الرفيق سعيد فخر الدين هو الشهيد الوحيد الذي سقط في المعارك دفاعاً عن حكومة الاستقلال التي كان لجأ عدد منها إلى بلدة بشامون. وبعد نيف وسنة، كان الدركي الرفيق حسن عبد الساتر هو الشهيد الوحيد الذي يسقط دفاعاً عن العلم اللبناني المرفوع فوق البرلمان.
كذلك قام الرفقاء المعتقلون في قلعة راشيا الأمينان جبران جريج وأنيس فاخوري والرفيق زكريا لبابيدي بنقل المعلومات عن المظاهرات التي اندلعت في المدن والمناطق اللبنانية ضد الانتداب الفرنسي، إلى رجال الاستقلال الذين اعتقلوا وسيقوا إلى راشيا، فساهم هذا العمل الجريء في رفع معنوياتهم وتعزيز صمودهم.
وفي الشام شارك القوميون الاجتماعيون في كل التحركات التي حصلت في المدن الشامية، وكان للرفقاء، ومنهم غسان جديد، ميشال الديك، رفعت شوقي، عبد الكريم الشيخ، دور بارز وبطولي.
بعد نيل لبنان لاستقلاله، تعاطت القيادة الحزبية التي كان يقودها مجلس أعلى برئاسة الأمين نعمة تابت، مع الوضع الجديد بحكم الواقع خارجة بذلك على النهج القومي الذي أرساه سعاده. فكان أن نالت رخصة باسم «الحزب القومي» وراحت في أدبياتها تغفل اسم سورية، كما أنها بدّلت علم الحزب.
مع سعاده، مجدداً في الأرجنتين
لم يكن ممكناً لسعاده أن يتعرف على وضع الحزب بسبب انقطاع الاتصالات، إلى أن غادر غسان تويني إلى الولايات المتحدة للتخصص الجامعي، فكلفه المجلس الأعلى بأن يرفع تقريراً حزبياً إلى سعاده يوضح فيه واقع الحزب، والأمة. كان ذلك في العام 1946. وفيه أيضاً أمكن لسعاده أن يتبادل الرسائل مع المجلس الأعلى في الوطن، ومع العديد من المسؤولين والرفقاء، بعد أن كانت مراسلاته طيلة سنوات 1939-1945 تقتصر بمعظمها على الفروع والرفقاء في الأرجنتين والبرازيل، والقليل منها إلى رفقاء في مناطق الاغتراب.
عانى سعاده كثيراً من أوضاع الجالية السورية في الأرجنتين، وقد وصفها في رسائل له أنها من أسوأ الجاليات السورية في العالم. عانى أيضاً من ضعاف النفوس من أعضاء حزبه، ومن عدم ارتفاع سوية الوعي لدى الكثيرين ممن انتموا في البرازيل، وأكثر، في الأرجنتين، مما اضطره إلى إصدار قرارات طرد بحق عدد منهم، وأن يصرف الكثير من جهوده في متابعة فرع البرازيل وجريدة «سورية الجديدة» إضافة لما يتطلبه حضوره في الأرجنتين من اهتمام مكثف بأعمال الفروع وبإصدار جريدة «الزوبعة» .
بدل أن ينصرف سعاده إلى فروع حزبه، بانياً وموجهاً، وإلى التصدي للحملات الجارحة التي كان يتعرض لها من العناصر الحاقدة الموتورة التي لم تستطع أن تفهم الحزب نهضة للأمة وسبيلاً إلى تحقيق عزتها، اضطرته ظروفه في الأرجنتين إلى أن يصرف وقتاً ثميناً للعمل في التجارة من أجل أن يغطي نفقاته، ويحافظ على هيبة الزعامة، خاصة بعد أن عقد قرانه على الرفيقة جولييت المير التي راح سعاده يدعوها ضياء وباتت له عائلة يتوجب عليه إعالتها.
شكلت الرفيقة جولييت سنداً مادياً ومعنوياً لسعاده، وكانت المرأة المثالية التي كان يحتاج إليها، في تجارته، كما في قيادته للحزب. معها تمكن من التغلب على الصعاب التي واجهته في مدينة التوكومان عندما انتقل إليها لتأسيس عمل مع شخصين وثق بهما فغدرا به بلؤم وخساسة.
ثمرة زواج سعاده من الرفيقة جولييت ضياء كانت ولادة صفية وأليسار في الأرجنتين أما راغدة فقد ولدت لاحقاً في الوطن .
عودة سعاده إلى الوطن
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعودة الاتصالات بين سعاده ومركز الحزب في الوطن ، وبالتالي وصول النشرات والتقارير والصحف الحزبية إليه ، أمكن لسعاده أن يطلع على الانحرافات السياسية والفكرية القائمة، إلا أنه لم يشأ أن يبحث تلك الانحرافات عبر الرسائل، ما دامت العودة باتت ممكنة له.
مع أواخر العام 1946 كان سعاده يلغي أعماله في مدينة توكومان، ينتقل وعائلته إلى بيونس ايرس، يغادر وحيداً إلى البرازيل فيؤمن فيها جواز سفره، بعد صعوبات واجهها بشأن ذلك في بيونس ايرس، وتلكؤ الحكومة اللبنانية في الموافقة على إعطاء القنصلية الفرنسية في العاصمة الأرجنتينية – التي كانت تقوم بمعاملات اللبنانيين والشاميين في غياب التمثيل الديبلوماسي لكلا البلدين، في حينه – جواز سفر له يمكّنه من العودة إلى الوطن.
في 2 آذار 1947 وبعد توقف لأيام في القاهرة قابل سعاده فيها الأمين نعمة تابت والرفيق أسد الأشقر اللذان حاولا ان يوضحا له وضع الدولة اللبنانية بعد نيلها الاستقلال عساه لا يبقي على ثوابته العقائدية، وصل سعاده إلى مطار بيروت في منطقة بئر حسن ليجد في استقباله عشرات الألوف من رفقائه الذين أتوا من أنحاء الوطن لاستقبال قائد حزبهم ونهضتهم.
أمام الحشد الهائل غير المتوقع بضخامته، ألقى سعاده خطاباً قومياً أعاد فيه الحزب إلى قواعده، طالباً إلى أعضائه العودة إلى ساحة الجهاد، معبراً بذلك عن إدانته لكل الخروج الذي تم أثناء غيابه .
واجه سعاده بعد عودته مذكرة التوقيف التي أصدرتها الدولة بحقه. إلا أن الدولة سحبت المذكرة بعد 7 أشهر و7 أيام، بعد أن كان سعاده تمكن من الإفلات من قبضتها والالتجاء إلى مناطق في الجبل، أهمها بلدته الشوير وضواحيها.
عمل سعاده إلى إقصاء العناصر الخارجة على عقيدة الحزب ونهجه القومي… انكبّ على بناء الحزب عبر إحيائه الندوة الثقافية وإلقاء المحاضرات العشر وعمد إلى القيام بزيارات وجولات حزبية ناجحة إلى المناطق في لبنان والشام، تنظيم احتفالات شعبية شاملة في مناسبات الأول من آذار، الاهتمام بالتدريب العسكري، بمكتب الأمن المركزي المكتب الأعلى المختص إنشاء صف الضباط، وتهيئة الحزب لأداء دوره في فلسطين.
كان سعاده في مواجهة المؤامرة على فلسطين، كمن يصارع الوقت. لقد وصل في آذار 1947. بقي في مناطق الحماية القومية الاجتماعية إلى تشرين أول من العام ذاته. وها هو يواجه حرب 1948 في فلسطين، وحزبه ما يزال طري العود، والإجراءات التي قررها على صعيدي صف الضباط، وتدريب القوميين الاجتماعيين، ما تزال في أطوارها الأولى.
مع ذلك طلب إلى المنفذيات أن تفتح سجلات لتطوع القوميين الاجتماعيين في حرب فلسطين. إلا أن جواب الأنظمة كان واضحاً: لا سلاح للقوميين الاجتماعيين. فهذه تخاف على نفسها من قوة الحزب فيما لو ارتد عليها بعد فلسطين.
رفقاء كثيرون تطوعوا وقاتلوا ضمن جيش الإنقاذ. كذلك قاتل الرفقاء المنضوون في الجيشين الشامي واللبناني. تأسست فرقة «الزوبعة» بقيادة الأمين مصطفى سليمان. وسقط للحزب العديد من الشهداء، كان من أبرزهم النقيب محمد زغيب، بطل معركة المالكية والذي أطلق اسمه لاحقاً على ثكنة الجيش اللبناني في صيدا الملازم الطيار فيصل ناصيف، الملازم عبد القادر الحاج يعقوب.
الأنظمة المستسلمة، المتواطئة مع «إسرائيل»، ما كانت لترتـاح إلى سعاده ينشئ صفاً للضباط، يوجّه مدربين لتدريب أعضاء حزبه، يرفع من وتيرة خطابه القومي التعبوي، يزور المناطق ويلقي الخطب المشبعة بمواقف العز القومي، يعيد حزبه إلى خطه العقائدي السليم، يضخ في حزبه الثقافة القومية الاجتماعية، يصدر صحيفة «الجيل الجديد» لتنقل مواقفه الواضحة، وعندما تعطلها الدولة ينتقل إلى صحف أخرى، يرفض الانصياع للإرادات الأجنبية، ويتصدى للدولة ولمن تؤازرها من قوى رجعية.
لذلك كله، تآلبت عليه الأنظمة الرجعية بإيعاز من الدول صاحبة المصلحة في أن تغرس «إسرائيل» فوق أرضنا، وأن يتحول وطننا إلى ساحة سهلة لمصالحها، ولاستيطان يهود العالم.
بدأت المؤامرة في حزيران 1949، وفي الجميزة بالتحديد، عندما هاجمت قوة من الكتائب مطبعة ومكاتب جريدة الحزب «الجيل الجديد» وأحرقتها. ثم عمدت الدولة إلى اعتقال الرفقاء، بدل المعتدين، وإلى مداهمة منزل سعاده في رأس بيروت لاعتقاله. ولما لم تجده، اعتقلت الرفقاء الذين كانوا بدأوا يفدون إلى المنزل بعد أن وصلتهم أخبار الاعتداءات، ثم راحت تداهم مكاتب الحزب وبيوت أعضائه.
عندما أمكن لسعاده الإفلات والوصول إلى دمشق، بدأت الحلقة الثانية من المؤامرة: حسني الزعيم الذي كان قام بانقلاب وتسلّم مقاليد الحكم في الشام، يَعِد سعاده بتقديم كل الدعم، ويقدم له مسدسه الشخصي عربون وفاء.
في 4 تموز أعلن سعاده الثورة القومية الاجتماعية الأولى في وقت كانت السلطات اللبنانية تلاحق القوميين وتداهم منازلهم وتنزل بهم العذابات.
الحلقة الثالثة من المؤامرة
السلاح المقدم بأمر من حسني الزعيم أكثره فاسد. السلطات اللبنانية على معرفة بخط سير قوة الحزب التي كانت بقيادة الرفيق زيد الأطرش، فتعتقله في منطقة الحدود. القوة الأخرى التي كان يقودها الرفيق عساف كرم تصل إلى سهل مشغرة لتجد نفسها مطوقة من الجيش اللبناني العارف بقدومها. تقاتل، ويستشهد قائدها الرفيق عساف كرم.
الحلقة الأخيرة
حسني الزعيم يسلّم سعاده إلى السلطات اللبنانية. هذه تحاكم سعاده صورياً. محامي الدفاع يطلب 48 ساعة لدراسة الملف فإعداد الدفاع، يرفض طلبه. الحكم بالإعدام جاهز. تواقيع أعضاء لجنة العفو جاهزة. الأنظمة المتواطئة العميلة جاهزة لتبارك. و«إسرائيل» تضحك.
وحده سعاده يقف في قفص المحكمة العسكرية يبتسم. في العام 1935 وقف في المحكمة. في العام 1936. في العام 1937. ها هو في تموز العام 1949 يقف أمام جلاديه.
يا ليت أمكن لأحد أن يسجل خطابه في تلك الساعة الرهيبة. لا شك في أنه حكى الكثير للتاريخ. لأجيال يجب أن تسمع، وأن تعي وأن تفعل.
فجراً يساق إلى خشبة الإعدام. قال لهم شكراً. 12 جندياً يصوبون 12 بندقية إلى صدر الأمة، فتنطلق 11 رصاصة 1 تمزق جسداً، يسقط. فترتفع في اللحظة زوابع وأعاصير وهتافات بقيت تتردد، تنساب إلى كل قرية، كل مدينة، كل دسكرة، كل بيت. ما زالت، وستبقى، ما دام فوق أرضنا شعب، وحزب، ورفقاء، وأشبال وزهرات، ونفوس تعي وتحمل المشعل وتهتف يا أبناء الحياة، واليمنى ترتفع.
هوامش
1. الأنظمة المعمول بها عند تنفيذ الإعدام رمياً بالرصاص تقتضي وضع خرطوشة واحدة لا تحتوي على رصاصة، كي يعتقد كل جندي أنه هو مطلق الرصاصة غير القاتلة.