الأمينة ديانا المير
بتاريخ 15/12/2014 نشرنا نبذة عن الأمينة ديانا، بما كان توفر لدينا من معلومات.
لاحقاً، نشرت الدكتورة صفية سعاده هذه الكلمة في جريدة «النهار»، ننشرها كما هي، آملين من اي رفيق، او مواطن صديق، يملك من المعلومات عن سيرة الامينة ديانا، ان يزوّدنا بها.
خالتي التي ظلمناها
جلّنا غبَنَها. كل لسبب خاص به. وقعت خالتي ضحية موقع لم تختره بل فُرض عليها فرضاً، فانصاعت، لتتغيّر حياتها وتمشي على درب اختاره القدر لها. درب صعبة وشاقة أين منها الحياة المرفهة التي عاشتها في الأرجنتين.
أتت هذه الغريبة الجميلة الممشوقة القامة بعينيها الليلكيتين الواسعتين لتزور أختها في دمشق. لم تتزوج خالتي ديانا، وفضّلت ممارسة إدارة الأعمال مع شقيقها جورج في بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين حيث قرر والداها الاستقرار أبان الحرب العالمية الأولى.
شبّت ديانا في مدينة فائقة الجمال سُميت «باريس أميركا اللاتينية»، وتميزت بطرقاتها العريضة وأبنيتها المتناسقة وكثرة حدائقها وأشجارها الباسقة، ومناخها المعتدل. هذه المدينة الحديثة فتحت المجالات كافّة للمرأة وأمنت لها حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا بل كانت سباقة في القارة الأميركية في محاولة تأمين العدالة الاجتماعية للعمال خاصة بعد ثورة «بيرون» واستيلائه على السلطة وزواجه من امرأة نشأت في بيئة فقيرة. دعمت «ايفا بيرون» زوجها في إصلاحاته وتحولت إلى أيقونة ومعبودة الجماهير، وقد خلّد فيلم «ايفيتا» صورتها.
لا عجب أن تتأثر جولييت المير وأخواتها بهذه الأجواء، ولا غرابة أن ينطلق «شي غيفارا» نحو العالم حاملاً رسالة مقاومة الظلم والاستعمار، كما حملت والدتي هذه الرؤيا واقترنت بمناضل من بلادها يشاركها الحلم نفسه.
ما أن عاد والديً إلى الوطن حتى واجها الاضطهاد بأبشع صوره، من تنكيل وملاحقة لإصرارهما، كما أعضاء الحزب على مواجهة تقسيم «سوراقيا» إرضاء للصهيونية والمطامع الغربية، انتهت باستشهاد والدي.
عام 1954 قدَمَت خالتي ديانا لزيارتنا في دمشق. لا أزال أذكر أناقتها وهي تهبط من الطائرة، وما أن وصلنا المنزل أخذتُ أعبث بمحتويات حقائبها، ثيابها الفاخرة، حليها، حذاء الباليه الذي أحضرته معها علًها تتابع الرقص. شعرتُ بالأسى لوضعها فأين لها أن تتابع نشاطات كالرقص ولعب كرة السلة في بلد محافظ متشدد يمنع المرأة من المشاركة في الحياة العامة ولا يزال يعتبرها قاصرة تقع مسؤوليتها على رجل يتولّى أمورها؟
لم تكن خالتي تعرف الكثير عن أحوال سوراقيا، إلا أنها سرعان ما لمست حالة الخوف الدائمة من عمل أمني يودي بحياتنا. لم تطل بها الأيام حتى شاهدت أختها تُساق زوراً إلى السجن. هكذا وبلحظة غادرة انقلبت حياتها رأساً على عقب. زيارتها تحولت إلى سجن مؤبد. لن تعود إلى بيتها وحياتها وعملها، كل ذلك استحال رماداً بين يديها. أمامها ثلاث بنات أكبرهن في بداية مراهقتها، وأصغرهن لا تزال طفلة لا تفقه ما يدور حولها. شقيقتها في السجن. لن تتركها وحيدة ولن تترك طفلاتها الميتمات.
سارعتْ بإجلائهن إلى بيروت، ولحقت بهن بعد أن يئست من الإفراج عن أختها.
منذ تلك اللحظة وحتى مغادرتها لبنان عام 1971 بعد وصول والدتي إليها، أرغمتنا خالتي أن نعيش معها حالة رعب دائمة. غريبة هي، لا تعرف أحداً حقاً، ولا تعرف أحوال البلد وتقاليده، كما أنها لا تعرف كيف تقوم بتربية ثلاث فتيات، فهي، بالرغم من جمالها، لم تتحمس للزواج أصلاً، وكانت مكتفية بعملها ومستقلة مادياً لا تحتاج لمن يعيلها. كانت حياتها في غاية الهدوء فإذا بزوبعة جارفة تخلع أوتاد استقرارها، وترميها في مهب رياح بلد يخيفها.
تحوّلت شخصية خالتي المفعمة بالنشاط والحيوية إلى بارانويا تلازمها ليلاً نهاراً. اعتبرت مهمتها الاساسية عدم وقوع طفلات أختها في الأسر، أو الاغتيال. استأجرت منزلاً قرب المدرسة. أغلقت الباب. عاشت ديانا وبنات أختها العزلة الكاملة. أمهّن في سجن، وهنّ في سجن آخر. ممنوعة دعوة زميلات المدرسة أو الذهاب لزيارتهن. ممنوع الخروج من المنزل. ممنوع الجلوس على الشرفة. ممنوع اللعب في مدخل البناء.
تمرّدتُ أنا المراهقة على «ممنوعات» خالتي. بالكاد يسعني العالم، أريد أن أكتشفه، أن أفكّ طلاسمه، فكيف ألازم البيت؟ أعلنتها حرباً شعواء. قلما خلا يوم من مشادة بيني وبينها. أريد أن أحيا حياة طبيعية كبقية زميلاتي، لا محتجزة في المنزل. وهي تمنعني من الحياة. الحياة بالنسبة لها الخطر الأكبر. ماذا تقول لوالدتي ان حصل مكروه لي؟ اعتبرت واجبها الأساس أن تعيدني الى والدتي كما تركتني. أريد أن أكبر بسرعة، وتريد هي أن يقف الزمن ولا تعاود عقارب الساعة الحراك إلا بعد إطلاق سراح والدتي.
تراكمت هواجس خالتي ومخاوفها وكوابيسها الأكثر سوداوية حين «عفشني» الأمن العام صبيحة الأول من كانون الثاني 1962 بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة للحزب السوري القومي الاجتماعي. يكفي أن أكون ابنة أنطون سعاده لأدخل السجن.
حين تمّ الإفراج عني بعد أربعين يوماً، وجدت خالتي في حالة يرثى لها. فقدت الكثير من وزنها، وأعصابها منهارة. من الأسهل على الأم أن تتحمل متاعب أولادها، لكن هل تجرؤ أختها على المجازفة بفتيات لسن لها؟
زرتُ خالتي في بوينس آيرس عام 1981. لم تشتك يوماً بأن بقاءها معنا قضى على حياتها الخاصة، وعلى أحلامها ومستقبلها وحتى عملها المهني. توفيت فقيرة، وكان من الممكن لها أن تعيش حياة هانئة مرفهة لو قالت فقط: لا، لن أبقَى مع الطفلات.
رتبة اللأمانة التي حازتها لا تُقارن بتضحيتها لحياتها من أجلنا وأجل أختها. بقيت أمينة لنا حتى الموت.