أحلام الشباب في لبنان… والسعادة المفقودة
د. سلوى الخليل الأمين
تأخذني الأعياد إلى مطارح الأمل، حيث نغرق في أحلامنا التي تخطاها الزمن وغطت في أحضان الأبناء الذين هم أمل المستقبل الواعد، لهذا لا بدّ من الاهتمام بأبعاد أحلامهم ومضامينها وأشكالها، كما بأحلام ومستقبل الأحفاد الذين باتوا يملكون الهويات الأجنبية واللغة الأجنبية، وبالتالي أصبح لبنان في دائرة حياتهم مرسوماً على جبهة أب لبناني أحاطته ضبابية الوجود في وطنه، فاغترب إلى ديار الله الواسعة، مفتشاً عن مساحة يرمي عليها أحلامه، حين الوطن لم يتمكن من الاعتراف بطاقاته وتطلعاته وقدراته ووزنات العقل، التي صقلت بالعلم العالي المفيد لخدمة الوطن والارتقاء به إلى مصاف الدول، التي تحترم الكفاءات العلمية والمعرفية والمثقفة… وتعتبرها ثروة وطنية حقيقية.
فالأوطان لا يمكن لها أن تتطوّر وترتقي سوى عبر الطاقات القادرة على الإنتاج الإبداعي، الذي ينتجه العقل حوليات تطوّر نحو الأفضل والأحسن والأعظم، والقائم على أسس علمية معرفية تمتدّ مساراتها نهضة تنويرية، ترفع الوطن إلى المراتب المتمكنة من استغلال طاقة الشباب القادرة على البناء والعطاء، التي تؤهّل الوطن بالوصول إلى الدرجات العليا من المدّ الإبداعي الصاعد، السابح في دنيا العولمة وحضارتها المتقدّمة تكنولوجيا، والعابرة مدارات الأرض كلها دون استثناء.
فاللبناني يعتبر من أوائل العباقرة في هذا العالم السريع الخطوات، فما من دولة في عالم الانتشار يحلّ فيها لبناني متزوّد بالعلم والمعرفة، إلا ونجده بين الأوائل، الذين هم اليوم من عباقرة هذا الكون العظيم، ونحن في «ديوان أهل القلم» خير شهود على عبقريات الطاقات اللبنانية، الذين استضفنا منهم علماء كبار في وكالة الفضاء الأميركية «ناسا»، وحاكمة ولاية سيدني في القارة الأوسترالية، ومرشحة إلى رئاسة الجمهورية ووزيرة ورئيسة مجلس نواب لمجموعة دول أميركا اللاتينية، وموسيقي عالمي وغيرهم وغيرهم من اللبنانيين، الذين هم نواة الحضارة الإنسانية المتفاعلة حالياً على وجه الكرة الأرضية.
لكن، من المؤسف، ألا يستقطب هذا الوطن هذه الطاقات المتفوّقة علماً ومعرفة وعبقرية لا تحدّ، وأمثالهم ممّن أبوا الهجرة وتمسكوا بوجودهم على أرض الوطن، متمترسين بحبهم له على أمل أن يجدوا لهم مكاناً تحت ظلّ شمسه، التي تبدو شاحبة في مساراتها فوق قممه العاليات حضارة ومجداً معرفياً يُشار له بالبنان، التي طالما كان شموخها وصلابتها مدعاة فخر لكلّ لبناني مغترب، حمل جواز سفر لبناني، تتصدّره شجرة الأرز الصامدة عبر العصور المتقلبة، حيث منها يستمدّ طموحاته وعنفوانه وتعلقه بالوطن الحاضن جذوره وجذور الآباء والأجداد الممتّدة في عمق تربة، ما زالت هي مرمى الحب والحنين.
لهذا لا بدّ، لمن يتنكّب الكتابة فعلاً وطنياً، من التحرك على مساحة الوطن مستفسراً وباحثاً ومنقباً عن أحلام الجيل المستقبلي، لهذا خطر لي وأنا أرافق ابنتي إلى أحد المطاعم في بيروت، السماح لنفسي ببعض الدردرشة مع من ألتقيهم من شابات وشباب، كوني كاتبة مقال في صحيفة وطنية لبنانية، حملت هموم الوطن والمواطن على حدّ سواء، مع الانتباه إلى أنّ بناة الغد هم العنصر الشبابي من ذكور وأناث، الذين أصبحوا في هذا العصر المفتوح على مستوى واحد ومتقدّم من غرف العلوم العابرة للقارات، بمختلف اختصاصاتها وتنوّعاتها، لهذا من المهمّ اعتبارهم المدماك الأساس الذي سيُبنى عليه مستقبل لبنان، الغارق حالياً في الفساد والإفساد، واختراق القوانين، وإهمال الدستور الذي من نصوصه تنطلق الأحكام العادلة، التي لا تفرّق بين مواطن وآخر في الحقوق والواجبات.
بداية جاءني شاب يسأل ماذا علينا أن نأكل، تكلم معي باللغة الإنكليزية التي لا أتقنها تماماً كما الفرنسية، لأني من جيل لم يتعلم ثلاث لغات في المدرسة، بحيث كانت اللغة الفرنسية هي اللغة الأجنبية الثانية التي علينا أن نتعلّمها، سألته: أنت أجنبي، أجابني بالنفي، قلت: لماذا لا تتكلم بالعربية التي هي لغة وطنك حسب الدستور والقوانين التي ترعى كلّ وجودك على أرض هذا الوطن؟ طبعا ابنتي أصابها الخجل من تصرفي… لكني لم أعبأ بما هي عليه، لأنّ لغة الضاد همّي وحركتي وتطلعاتي وهويتي وتاريخي ومستقبلي وحين أخونها أكون قد استسلمت طوعاً للمستعمر، الذي عرف أخيراً كيف يجذب أولادنا إلى أحضانه حين يتمّ تحويل لغة القوم إلى أبجدية دخيلة على وطنه والتاريخ.
فلبنان دولة عربية، وليس «ذو وجه عربي»، وهذا خطأ مميت يجب أن يلغى من النصوص، لغته الرسمية هي لغة الضاد العربية، لهذا على كلّ من يعمل فيه، إنْ في الإدارات الرسمية أو القطاع الخاص أن يستعمل اللغة العربية، وبما أنّ لبنان بلد منفتح على الغرب، فلا مانع من استعمال اللغة الأجنبية كلغة رديفة، وليس كلغة أولى، لأننا كيفما تحركنا على مساحة الوطن نجد اللغة العربية مفقودة… وفي هذا مخالفة واضحة وصريحة للقانون… مثلا: القانون في وزارة السياحة يجبر المطاعم والفنادق ومؤسسات الإقامة، أياً كان نوع استثمارها، أن تستعمل في بياناتها اللغة العربية أولاً، وإلى جانبها اللغة الأجنبية، على اعتبار أنّ لبنان بلد سياحي مفتوح، لكن ما يحدث هو العكس، بحيث أنّ ما يحصل هو تعمية كاملة على استعمال اللغة العربية، ووزارة السياحة في خبر كان، من حيث المراقبة وتطبيق القوانين، خصوصاً على لوائح الطعام والأسعار في المطاعم والفنادق، حيث اللغة الإنكليزية هي السائدة، وهذا خطأ جسيم، حتى لو كان الأمر في مؤسسات الدرجة الأولى، كذلك المنشورات التي تصدر عن مختلف المؤسسات العاملة على الأراضي اللبنانية… خصوصا دور السينما، فمن لا يتقن اللغة الإنكليزية لا يمكنه قراءة النشرة الصادرة عن الأفلام السينمائية المهيأة للعرض في الصالات اللبنانية العربية، وحدّث ولا حرج عن طغيان اللغة الإنكليزية في المؤسسات العامة والخاصة، حتى في الصالونات وبطاقات الدعوات من جمعيات تتبّع حكماً وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التربية الوطنية… وهنا يكمن السؤال أين الهوية الوطنية؟
فأيّ وطن هو هذا، وأي حكام هم هؤلاء الذين يلتهون بالقشور وسلب مال الشعب، حين محو اللغة الرسمية للبلاد تعني إسقاط الهوية الوطنية، فالوطن الذي يطمس لغته، هو الوطن الذي يمنح الضوء الأخضر للمستعمر الجديد باستباحة عقول الجيل الجديد، الذين هم الأمل المنتظر لقيامة لبنان من أزماته الغارقة في الفساد والإفساد والنفايات المتنوّعة الأشكال والأحجام.
لهذا تجرّأت وسألت البعض ممّن أعرفهم من الشباب والشابات الذين التقيتهم صدفة، عن أحلامهم وتطلعاتهم ومستقبلهم الغارق في متاهات العولمة اللعينة، وكان الجواب كالتالي:
ـ نحن لا نؤمن بالطاقم السياسي في وطننا ولا بورثتهم، فلكلّ منا الحق بأن يكون نائباً ووزيراً ومسؤولاً، ما الفرق بيننا وبين ابن فلان وابنة فلان وزوجة فلان، أليس عليهم النظر إلى ما تفعله بعض الدول العربية التي طالما سبقناها بأشواط، لماذا لا يأخذون العبر من دولة الإمارات العربية المتحدة ويستفيدون من التجربة، لقد تمّ تعيين شابات وشباب اختيروا من الجامعات كي يكونوا وزراء ووزيرات، وجعلوا للسعادة التي نفتقدها في وطننا وزارة، ونحن نراهن على نجاح الشباب والشابات، وحتماً من خارج نطاق أحزابهم وكتلهم وتياراتهم وحركاتهم الممذهبة.
ـ نحن لا نؤمن بالانتماء السياسي الحزبي، فحزبنا هو لبنان السعيد بنتاج طاقاتنا، نحن دعاة الحكم المدني العلماني، وأحقية كلّ مواطن كفوء بنيل حقه في تبوؤ الوظائف والمراكز دون النظر إلى طائفته ومذهبه وانتمائه السياسي.
ـ ألا ترين يا سيدتي كم بلغنا من العمر…» وذكر لي بعضهم أعمارهم وكلهم تخطوا الثلاثين وما فوق»، ترى ماذا فعلت لنا الدولة كي نبني عائلة هي سنة الله في خلقه، وبالتالي هي أساس التناسل السليم والدافع الأساس لاستمرار الوطن، فأيّ وطن هذا! والأغراب فيه يتناسلون ويحتلون أرضنا وبيوتنا ونحن لا نستطيع أن نتزوّج، لأنّ شراء الشقة من المستحيلات في ظلّ رواتب، هذا إنْ وجدت الوظيفة، لا تكفي لسداد فواتير الماء والكهرباء وقسط السيارة والهاتف والملبس أما الاستفشاء فحدّث ولا حرج، وتسألين بعد هذا لماذا نترك الوطن؟ ولماذا بتنا غير معنيّين بلغته وقيمه وجذورنا الضاربة في الأرض البوار؟
طال الحديث وتشعّب، وكانت أحاديثهم ثورة مبطنة، غرزت خناجرها في قلبي فأدمته، وفي عقلي طبعت تساؤلات بالجملة، ترى ماذا علينا أن نقوم به، نحن أهل الفكر والقلم والإعلام النظيف والأحزاب العلمانية، الوطنية من أجل ثورة نظيفة بيضاء، تدفع هؤلاء الأبناء إلى الإيمان بالوطن وبأصالتهم اللبنانية العربية وقيمهم والشمائل، من أجل أن يبقى لبنان في خاطرهم موطن الأحلام المفروشة على بساط سندسي، وليس مقبرة الأحلام المظللة بالكآبة والقهر والظلم واليأس من بناء المواطنة الصحيحة، التي صادرتها غربة ابتلعت من أحضان الأمهات فلذات الأكباد مع كلّ ما يملكون من طاقات وعبقريات مبدعة، وأفقدت العائلات لذة الفرح بزواج الأولاد وزقزقات الأحفاد، الذين هم أمنيات العمر الباقي من حياة الجهاد التي تطعّمت بالصبر والقهر والظلم والمعاناة، ومع كلّ هذا تمسكت بالوطن حضناً دافئاً، منحت حبّه للأبناء، الذين تمّت مصادرتهم من الاستعمار الجديد… دون رفة جفن ممّن ولّيَ الأحكام.. فتمدّد واستراح… غير عابئ بالسعادة المفقودة.
رئيسة ديوان أهل القلم